إإطلالة على تاريخ العرب القديم.

من سِفرتاريخ الحضارة العربية القديمة، يذكر لنا المؤرخون أن المناذرة سلالة عربية حكمت العراق قبل الإسلام. ثمة هجرات تدريجية حدثت بعد خراب سد مارب في اليمن بعد "السيل العرم"، أي بدءاً من أواخر الألف الأول قبل الميلاد. فكان من هذه الهجرات هجرة تنوخ التي منها بنو لخم (المناذرة) الى العراق وإتخاذهم الحيرة عاصمة لهم ومن مدنهم في العراق النعمانية و أبلة و الأنبار وهيت و عانة .

لقد كوَن المناذرة مملكة قوية من أقوى ممالك العراق العربية قبل الإسلام فكانت هذه المملكة هي امتداد للممالك العربية العراقية التي سبقتها مثل مملكة ميسان و مملكة الحضر, وقد امتد سلطان مملكة المناذرة من العراق ومشارف الشام شمالاً حتى عمان جنوباً, متضمنة البحرين وهجر وساحل الخليج العربي. أستمرت مملكتهم في الحيرة من (268-633م.

وكان لمملكة المناذرة سوق من أشهر أسواق العرب يقام في الحيرة وفي دومة الجندل يتبادل فيه التجار البضائع ومنها البضائع الفارسية التي يجلبها تجار المناذرة وكذلك يتبادلون الأدب والشعر والخطب. أطلق ملوك المناذرة على انفسهم لقب "ملوك العرب" ومن المؤكد أن نقش قبر امرؤ القيس الأول المتوفى سنة (288م) مكتوب عليه "هذا قبر امرؤ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم". وهذا الحاكم له إنجازات عظيمة من تكوين أسطول بحري في البحرين هاجم مدن فارسية إلى أن سيطر على مدن تمتد من العراق حتى نجران. وكانت كتابة شاهد قبره الذي عثر عليه حديثا هي من أقدم الكتابات بالخط العربي المعروف لذلك يعتقد العلماء أن الحيرة هي مهد الخط العربي ويؤيد هذا الرأي المؤرخ البلاذري حيث ينسب الكتابة العربية .

أحتل الفرس تلك المملكة في مهدها فأصبحت مملكة شبه مستقلة وتابعة للفرس مع ذلك أكملت الحيرة إزدهارها وقوتها. وقد كان لهذه المملكة دور مهم بين الممالك العربية فقد كان لها صلات مع الحضر وتدمر والأنباط والقرشيين فكانت الآلهة في هذه المدن هي نفسها موجودة في الحيرة منها اللات والعزى وهبل, ومما يؤكد ذلك الروايات الكثيرة بصلات جذيمة الأبرش بملكة تدمر زنوبيا مثلا وعلاقتهم, وعلاقة ملوك الحيرة بملوك مملكة الحضر وأحيانا ينسب المؤرخون السلالة الحاكمة في مملكة المناذرة وهم بنو لخم إلى ملوك الحضر في العراق, وكذلك نجد في النقوش الأثرية مثل نص ام الجمال الذي كتب بخط نبطي وفيه النص التالي: "جذيمة ملك تنوخ" وهذا يدل على صلاتهم الواسعة بالممالك العربية الأخرى هذا سوى الروايات الكثيرة من المؤرخين.
طلالة على تاريخ الحضارة العربية القديمة - 2 -

الحيرة
تقع الحيرة قرب الكوفة حاليا وقريبة من نهر الفرات ويمر فيها نهر متفرع من نهر الفرات يسمى نهر "كافر" الذي يروي الحيرة ومنه كانوا يركبون في القوارب حتى يبلغوا الخليج العربي , وقد اشتهرت الحيرة بفنونها وصناعاتها مثل الغزل والدبغ وكانت مدينة الغناء حيث كانت مشهورة بالدف والعود والمزمار, ويذكر أن بعض ملوك فارس درسوا في الحيرة مثل بهرام الخامس الذي تعلم الأدب والفن والفولكلور والفروسية في الحيرة.
كانت الحيرة قاعدة عسكرية كذلك فقد ساند المنذر الخامس الجيش الفارسي في حربهم ضد الرومان في معركة "كالينيكوم" قرب الرها في تركيا حاليا, يروي ابن قتيبة الحرب الشهيرة بين المناذرة والغساسنة في "يوم حليمة" في بصرى جنوبي سورية هي مضرب للأمثال على شهرتها ( ما يوم حليمة بسر. )

يوم حليمة
يقولون في أمثالهم: ما يوم حليمة بسر. وخبره أن المنذر بن ماء السماء اللخمي ملك الحيرة، غزا الحارث بن أبي شمرٍ الغساني ملك العرب 494) بالشام، فأتاه في زهاء مائة ألفٍ، فهابه الحارث وخاف البوار على قومه. فأتاه شمر بن عمرو من بني بكر بن وائل في جمعٍ من قومه، وقد كان المنذر أغضبه في شيء. فأشار شمرٌ على الحارث بأن يريث المنذر عن الحرب، ويعده بأن يعطيه ويدين له. فاغتر المنذر بذلك، ثم قال لفتيان غسان الذين هم كانوا من بيت الملك: أما تجزعون أن يتقسم اللخميون نساءكم؟
وكان الحارث قد انتدب مئة من أصحابه اختارهم رجلاً رجلاً، وفيهم لبيد بن أخي الحارث، ثم قال لهم انطلقوا إلى عسكر المنذر فأخبروه أنا ندين له ونعطيه حاجته.وأخرج الملك الحارث ابنته حليمة، وكانت أجمل نساء العرب، فأخذت مسكاً في جفنةٍ وبرزت. فجعلت تطيب هؤلاء الفتيان بذلك المسك، وكان آخرهم لبيد. فلما مسحته بالطيب ضمها وقبلها، فصاحت وولولت. فقال أبوها: ما شأنك؟ فأخبرته فقال: قدمناه للقتل فإن يقتل فقد كفيت أمره وإن يسلم- وهو أحبهما إلي- زوجتك إياه، فهو كفؤ لك

فلما تجهزوا قال لهم شمر: ائتوا المنذر وأعلموه أنكم خرجتم مراغمين للحارث لسوء أثره فيكم، فإنه سيسر بمكانكم فكونوا قريباً من قبته، فإذا رأيتمونا قد زحفنا إليه فشدوا على حرسه وحجابه. ففعل الفتيان ما أمرهم به، فلما زحف الحارث وأصحابه شد الفتية على الحرس فقاتلوهم أشد قتال، وقتلوا كلهم، ولحقهم شمر فيمن معه، ولم يكن له همة إلا قتل المنذر، فقصده فدخل عليه فقتله. ولم ينج من أهل المائة إلا لبيد صاحب حليمة، فرجع وقد اسودت فرسه من العرق، فأخبر الحارث بأن شمر بن عمرو قد قتل المنذر.
ثم حمل على أصحاب المنذر، فقال له الحارث: ويحك أين تمضي؟ ارجع وقد زوجتك حليمة، فقال: والله لا تحدث العرب أني بقيت فل مائة. ولحق الحارث الناس فقتل منهم مقتلة عظيمةً، وأسر شأس بن عبدة أخا علقمة بن عبدة الذي يعرف بعلقمة الفحل قي سبعين من أشراف تميمٍ ، وأسر من أسدٍ وقيسٍ جمعاً كثيراً. وهذا اليوم هو عين أباغ. ووفد علقمة بن عبدة إلى الحارث فامتدحه بقوله:

طحا بك قلبٌ في الحسان طروب
فليس له من ودهن نصيبُ
يقول فيها:

إِذَا غابَ عنها البْعلُ لم تُفش سِرَّهُ
وتُرْضِي إِيَابَ البعلِ حينَ يَؤُوبُ

فَلا تَعْدِلي بَيْني وبَيْنَ مُغَمَّرٍ
سَقَتْكِ رَوَايَا المُزْنِ حينَ تَصُوبُ

سَقَاكَ يَمَانٍ ذُو حَبيٍّ وعارِضٍ
تَرُوحُ به جُنْحَ العَشِيِّ جَنُوبُ

وما أَنتَ أَمْ ما ذِكْرُها رَبَعِيَّةٍ
يُخَطُّ لها منْ ثَرْمَدَاءَ قَلِيبُ

فإِنْ تَسْأَلونِي بِالنِّساءِ فإِنَّني
بَصِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ

إِذَا شاب رَأْسُ المرءِ أَو قَلَّ مالُهُ
فليس لهُ من وُدِّهِنَّ نَصِيبُ

يُرِدْنَ ثَرَاءَ المالِ حيثُ عَلِمْنَهُ
وشَرْخُ الشَّبابِ عِندهُنَّ عَجِيبُ

فَدَعْها وسَلِّ الهمَّ عنكَ بِجَسْرَةٍ
كَهَمِّكَ، فيها بالرِّدَافِ خَبِيبُ

إِلى الحارِثِ الوَهَّابِ أَعْلَمْتُ ناقَتِي
لِكَلْكلها والقُصْرَيَيْنِ وَجِيبُ

وفي كل حيٍّ قد خبطت بنعمةٍ
فحق لشأسٍ من نداك ذنيب

فَلاَ تَحْرِمَنِّي نائِلاً عنْ جَنابَةٍ
فإِنِّي امرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غَريب

فقال الملك الحارث: بل أذنيه، وأطلق له شأساً مع أسرى تميم. ويروى أن الفتى لبيد أبلى في ذلك اليوم بلاءً عظيماً، ورجع سالماً فزوجوه يوم حليمة.

ويقول الحارث بن حلزة في تلك الوقعة:

إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقهم
عصائب طيرٍ تهتدي بعصائبِ

تخيرن من أزمانِ يوم حليمة
إلى اليوم قد جربن كل التجارب

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب