إطلالة على تاريخ العرب القديم
يقو المثل وما يوم " حليمة " بسر
ماذا نعرف عن يوم " حليمة "

يقولون في أمثالهم: ما يوم حليمة بسر. وخبره أن المنذر بن ماء السماء اللخمي ملك الحيرة، غزا الحارث بن أبي شمرٍ الغساني ملك العرب بالشام، فأتاه في زهاء مائة ألفٍ، فهابه الحارث وخاف البوار على قومه. فأتاه شمر بن عمرو من بني بكر بن وائل في جمعٍ من قومه، وقد كان المنذر أغضبه في شيء. فأشار شمرٌ على الحارث بأن يريث المنذر عن الحرب، ويعده بأن يعطيه ويدين له. فاغتر المنذر بذلك، ثم قال لفتيان غسان الذين هم كانوا من بيت الملك: أما تجزعون أن يتقسم اللخميون نساءكم؟

وكان الحارث قد انتدب مئة من أصحابه اختارهم رجلاً رجلاً، وفيهم لبيد بن أخي الحارث، ثم قال لهم انطلقوا إلى عسكر المنذر فأخبروه أنا نديه له ونعطيه حاجته. وأخرج الملك الحارث ابنته حليمة، وكانت أجمل نساء العرب، فأخذت مسكاً في جفنةٍ وبرزت. فجعلت تطيب هؤلاء الفتيان بذلك المسك، وكان آخرهم لبيد. فلما مسحته بالطيب قبض عليه وقبلها، فصاحت وولولت. فقال أبوها: ما شأنك؟ فأخبرته فقال: قدمناه للقتل فإن يقتل فقد كفيت أمره وإن يسلم- وهو أحبهما إلي- زوجتك إياه، فهو كفؤ لك كريم

فلما تجهزوا قال لهم شمر: ائتوا المنذر وأعلموه أنكم خرجتم مراغمين للحارث لسوء أثره فيكم، فإنه سيسر بمكانكم فكونوا قريباً من قبته، فإذا رأيتمونا قد زحفنا إليه فشدوا على حرسه وحجابه. ففعل الفتيان ما أمرهم به، فلما زحف الحارث وأصحابه شد الفتية على الحرس فقاتلوهم أشد قتال، وقتلوا منهم بشراً وقتلوا كلهم، ولحقهم شمر فيمن معه، ولم يكن له همة إلا قتل المنذر، فقصده فدخل عليه فقتله. ولم ينج من أهل المائة إلا لبيد صاحب حليمة، فرجع وقد اسودت فرسه من العرق، فأخبر الحارث بأن شمر بن عمرو قد قتل المنذر.

ثم حمل على أصحاب المنذر، فقال له الحارث: ويحك أين تمضي؟ ارجع وقد زوجتك حليمة، فقال: والله لا تحدث العرب أني بقيت فل مائة. ولحق الحارث الناس فقتل منهم مقتلة عظيمةً، وأسر شأس بن عبدة أخا علقمة بن عبدة الذي يعرف بعلقمة الفحل قي سبعين من أشراف تميمٍ سوى الشرط، وأسر من أسدٍ وقيسٍ جمعاً كثيراً. وهذا اليوم هو عين أباغ. ووفد علقمة بن عبدة إلى الحارث فامتدحه بقوله:
طحا بك قلبٌ في الحسان طروب
فليس له من ودهن نصيب

وهي إحدى سمطيه الدهر، يقول فيها:
إِذَا غابَ عنها البْعلُ لم تُفش سِرَّهُ
وتُرْضِي إِيَابَ البعلِ حينَ يَؤُوبُ

فَلا تَعْدِلي بَيْني وبَيْنَ مُغَمَّرٍ
سَقَتْكِ رَوَايَا المُزْنِ حينَ تَصُوبُ

سَقَاكَ يَمَانٍ ذُو حَبيٍّ وعارِضٍ
تَرُوحُ به جُنْحَ العَشِيِّ جَنُوبُ

وما أَنتَ أَمْ ما ذِكْرُها رَبَعِيَّةٍ
يُخَطُّ لها منْ ثَرْمَدَاءَ قَلِيبُ

فإِنْ تَسْأَلونِي بِالنِّساءِ فإِنَّني
بَصِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ

إِذَا شاب رَأْسُ المرءِ أَو قَلَّ مالُهُ
فليس لهُ من وُدِّهِنَّ نَصِيبُ

يُرِدْنَ ثَرَاءَ المالِ حيثُ عَلِمْنَهُ
وشَرْخُ الشَّبابِ عِندهُنَّ عَجِيبُ

فَدَعْها وسَلِّ الهمَّ عنكَ بِجَسْرَةٍ
كَهَمِّكَ، فيها بالرِّدَافِ خَبِيبُ

إِلى الحارِثِ الوَهَّابِ أَعْلَمْتُ ناقَتِي
لِكَلْكلها والقُصْرَيَيْنِ وَجِيبُ

وفي كل حيٍّ قد خبطت بنعمةٍ
فحق لشأسٍ من نداك ذنيب

فَلاَ تَحْرِمَنِّي نائِلاً عنْ جَنابَةٍ
فإِنِّي امرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غَريبُ

فقال الملك الحارث: بل أذنيه، وأطلق له شأساً مع أسرى تميم. ويروى أن الفتى لبيد أبلى في ذلك اليوم بلاءً عظيماً، ورجع سالماً فزوجوه حليمة. ويقول الحارث بن حلزة في تلك الوقعة:
إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقهم
عصائب طيرٍ تهتدي بعصائبِ

تخيرن من أزمانِ يوم حليمة
إلى اليوم قد جربن كل التجارب

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب.