في السيميائيات :
الصورة الفوتوغرافية بين الدلالة والتدليل
محسين الدموش

هل يمكن اعتبار الصورة الفوتوغرافية لغة؟ ما هي العلاقة التي تربط الصورة الفوتوغرافية باللسان الذي نستعمله في قراءتها؟ هل استطاعت الدراسات السيميائية وضع حدود فاصلة بين دوال الصورة الفوتوغرافية les signifiants ومدلولاتها les signifies وتنظيم قواعدها الاستبدالية والتأليفية؟ كيف يشتغل التمثيل la représentation في الصورة الفوتوغرافية، ووفق أي إواليات mécanismes بنائية يتم تحقيق طرق التدليل la signifiance فيها؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة هو الكفيل –في منظورنا- بتعميق النظر في خصوصية الصورة الفوتوغرافية بوصفها علامة signe سيميائية تشتغل وفق تنظيم خاص ومحدد. فإذا كان Christion Metz يعتبر الصورة الفوتوغرافية كـ:"الكلمات، وكل الأشياء الأخرى لا يمكن أن تنفلت من تورطها في لعبة المعنى"(1) فإن الأساسي هو الوقوف عند المبادئ التي تميز بين الصورة الفوتوغرافية بوصفها علامة أيقونية Signe iconique، وبين اللسان la langue بوصفه نسقا مؤولا لمجمل الفعل الإبداعي الإنساني. ولعل التقاطع بين ما هو أيقوني وما هو لساني بوصفهما يشكلان معا علامة، هو ما جعل أغلب الدراسات اللسانية والسيميائية في بداية القرن العشرين تخلط بين الحقلين، وتدرسهما في إطار شامل هو اللغة، وبالتالي تغفل الفوارق النوعية بين التعبير الأيقوني والتعبير اللساني. ومن ثمة، فإن أول خطوة منهجية تقود إلى تحديد الصورة الفوتوغرافية، وتعيين أنماط اشتغال المعنى داخلها، تتمثل في ذاك التمييز الذي جاء به "إميل بنفنست" في معرض حديثه عن الأنظمة السيميائية التي تحمل دلالة –وهي هنا اللسان- والأنظمة السيميائية التي لا تدل، وهي التي تتحقق في الموسيقى والرقص وأشكال التعبير البصري(2).
في ضوء هذا، يمكن القول إن الصورة الفوتوغرافية نسق سيميائي غير دال بنفسه، يشتغل وفق علاقة خاصة بين مجموعة من العناصر التي تحدد لها خصوصيتها وتمايزها. فإذا كانت العلامة داخل النسق اللساني تتميز بالطابع الاعتباطي Arbitraire في علاقة الدال بالمدلول: "السلسلة الصوتية: ق.ط.ة، لا تحيل بالضرورة على مفهوم قطة"، فإن العلامة الأيقونية –على العكس من ذلك- تتميز بخاصية تعليلية "Motivé". فبين صورة الحصان من جهة، وحقيقته المرجعية كحيوان في العالم من جهة أخرى علاقة مشابهة. ولعل هذا ما حذا بـ"غي غوتييه" Guy Gautier إلى القول: "إذا كان ثقل اللسان يتجه نحو الاعتباطية، فإن الصورة الفوتوغرافية تزن أكثر إلى جانب التعليل"(3). على صعيد آخر، يمكن تعيين خاصية أخرى للصورة الفوتوغرافية من خلال رصد اختلاف آخر يميز النسق اللغوي عن النسق البصري.
فإذا سلمنا بأن اللسان la langue يشتمل على تمفصل مزدوج double articulation، بموجبه تنفصل العلامة اللسانية le signe linguistique إلى عناصر التمفصل الأول، وهي الوحدات الدالة unités signifiants، أو المونيمات، وعناصر التمفصل الثاني وهي الوحدات الدنيا غير الدالة، أو الوحدات المميزة unités distinctives أو الفونيمات، فإن الحديث عن هذا التمفصل المزدوج داخل العلامة الأيقونية يعد أمرا صعبا كما ذهب إلى ذلك "أمبرتو إيكو"(4)، أو مأزقا في منظور مارتين جولي(5).
من هنا، يمكن القول إن الصورة الفوتوغرافية تشتغل وفق وحدة تامة تقدم نفسها على شكل كلية totalité. فمجموع العناصر المشكلة للعلامة الأيقونية تفرض على المتلقي تصورها بوصفها وحدة شاملة يصعب التقديم أو التأخير في نظامها المتجانس. إن هذه الوحدة هي التي تنتج الصدمة le choc لدى المتلقي، وتحفز عملية الاستقبال لديه، وتشحن في الآن نفسه فعله التأويلي بإمكانات متعددة.
هكذا، نلاحظ أن الوحدات المركبة للصورة الفوتوغرافية بانبنائها على مبدأ التماثل Analogie من جهة، وخضوعها لسلطة الكلية من جهة أخرى، تنفلت من عملية التقسيم الثنائي (دال ومدلول). وهو ما جعل أشكال تعبيرية أيقونية (الإشهار أو الصورة الإشهارية والحكاية المصورة la bande dessinée) تضطر إلى إقحام ملفوظات لسانية إلى جانب الصورة حتى تتمكن من إحداث شرخ في المتواصل continuité، وتمنح بالتالي المتلقي فرصة تقسيم الخطاب البصري إلى مشاهدة بالعين واستماع بالأذن. إن غياب التمفصل المزدوج في الصورة الفوتوغرافية، والارتباط القوي والعميق بالمرجع، والامتثال لقيود إكراهات الآلة الفوتوغرافية، كلها عناصر تجعل القراءة والتأويل يحتشدان بالاحتمال والنسبية.
من هذا المنطلق، يمكن طرح قضية الدلالة والتدليل في الصورة الفوتوغرافية، وكيفيات تحول المرجع الفوتوغرافي من الحياد والصمت إلى علامة، وإلى نص لا ينفلت من لعبة المعنى. وهو الطرح الذي يستدعي –في نظرنا- مستويين اثنين على الأقل في قراءة الصورة الفوتوغرافية:
ـ المستوى الأول: هو الداخل-الأيقوني intra-iconique بوصفه يحيل على أسلوب وإخراج misen en scène معنيين.
ـ المستوى الثاني: هو الخارج-الأيقوني extra-iconique، أو ما يسميه ECO بسنن التعرف le code de la reconnaissance.
إن رصد هذين المستويين في علاقتهما الجدلية والمتداخلة يقود إلى تحديد وجهة نظر الفاعل الفوتوغرافي، ورؤيته للعالم. وهي الرؤية التي تعين مسار الصورة، إطارها، ومواضيعها، إيقاعاتها وألوانها، بكلمة واحدة: طريقة تمثيلها. فإذا كان المستوى الأول من القراءة يرتبط بإدراك الصورة الفوتوغرافية في أبعادها الفنية والتشكيلية والتقنية، وينحصر في التعامل مع ظاهرية الصورة Phéno/mage في استقلال عن فاعلها l’actant، فإن المستوى الثاني يرتبط بالتدليل أو التأويل، أي (الحديث عن قيم دلالية تعد الصورة مهدا لها، أي تقديم الصورة من أجل التمثيل لقيمة ما أو قيم ما)(6).
انطلاقا من هذا المستوى، تصبح الصورة الفوتوغرافية انبناء structuration وليست بنية، تدليلا signifiance، وليست دلالة فحسب حيث يتم تحديد البعد الآخر، غير التماثلي، وغير المحاكي للصورة، أو الرسالة الثالثة le troisième message على حد تعبير R.Barthes، أي تحديد العلاقات بين الأشكال الأيقونية التي يمثلها إطار الصورة الفوتوغرافية وبين السنن الثقافي العام le code culturel الذي تنبثق داخله. إن الصورة الفوتوغرافية بهذا المعنى، تصبح إدراك ذاتي للعالم وتتحول إلى (معطى دلالي خارج ذاتها، إلى شيء يمرن فهمنا، وإدراكنا للنظر، قدرتنا التجريدية، تدريبنا المنطقي، مشاركتنا في الثقافة والتاريخ)(7).
من هذه الزاوية تحديدا، يمكن القول إن ممارسة التدليل في الصورة الفوتوغرافية، وتحيين actualiser دلالاتها المتعددة، لا يمكن أن ينجزا إلا من خلال التزود بمنظومة معرفية وبلاغية بصرية تمكنا الفعل التدليلي من إعادة تنظيم الأشياء والكائنات والمواضيع، وترتيبها وفق ما يتطلبه التنظيم الخاص بالصورة الفوتوغرافية من جهة، وما يشترطه السنن الثقافي العام من جهة ثانية. بمعنى آخر، إن التسليم بتعدد المعاني داخل الصورة الفوتوغرافية، وانفتاحها على مقاربات مختلفة، لا يفضي بالضرورة إلى القول بالحرية اللامشروطة في عملية التأويل ما دام هذا الفعل المشروط بالنسق الثقافي العام، وبالبنية الشكلية للعمل la structure formelle de l'oeuvre على حد سواء.
عود على بدء:
لعل ما يبرر مشروعية البحث السيميائي للصورة الفوتوغرافية، هو هذا الاكتساح الملفت الذي فرضته الصورة الفوتوغرافية بتجلياتها وأشكالها المختلفة في حياتنا اليومية. فهي تغمرنا في البيت، في الشارع، في المؤسسة. ولما كان المجتمع والثقافة السائدة يميلان كما يرى Barthes إلى تطبيع naturaliser البعد الرمزي والثقافي والإيديولوجي للصورة، فإن اللجوء إلى المقاربة السيميائية يعد في منظورنا خطوة هامة في الكشف عن القيم الدلالية، وإعادة المعنى غير المرئي للصورة والإنسان والتاريخ.

http://www.fikrwanakd.aljabriabed.com/n57_07.htm