أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 19

الموضوع: غير حقيقي اقصوصة طويلة حلقات

  1. #1
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي غير حقيقي اقصوصة طويلة حلقات




    غير حقيقي












    إهداء
    إلى التي خذَلتْها عَثَراتي..
    وكانت تنتظر وتستحق أفضل مما استطعتُه حقًا؛




    (1 )


    (1 ) أماسي باريس الخريفية

    مما لا شكَ فيه أنَّه لفتَ انتباهَها بشدَّة.. إنَّ أكثر ما يلفت انتباهُها إليه أنَّه لم يكن فيه شيءٌ يلفت الانتباه.. لا يميزَه شيءٌ على الإطلاق. إنَّه شخصٌ باهتٌ تمامًا.
    ما الذي أتى به إلى هنا حيث مؤتمر يضم نخبة النُخب من المجتمعات الممَثَّلة في ذلك المؤتمر العلمي الاجتماعي الهام؟! الرجالُ حولَها كانوا ما بين متأنقٍ يرتدي أفخرَ الثياب ويضع أثمنَ العطور.. رابطاتُ عُنق (سينييه) مميَّزة ومربوطة بعناية فائقة، وإطلالاتٌ قوية، وملامحٌ ينطق منها العزمُ والتصميم.. خُطوات معتدَّة أكثر من واثقة بكثير.. حتى هؤلاء الذين يُصرُّون على الظهور بمظهرٍ فوضوي غير مبال.. كانوا يرتدون بإهمالٍ شديد أفخر الماركات العالمية من الثياب بغير اعتناء أو ترتيب، فتأتي فوضويتُهم فنيةً على نحوٍ ما!
    أمَّا هو فلم يكن سوى رجلٌ نظيف وخجول وربما منطوٍ على نفسه.. يجلس منعزلا لا يُثير حول نفسِه أيَ درجة من درجات التبجُح أو الضجيج!
    عجيب أنْ يكونَ الباعثُ الوحيدُ للفت انتباهِها إليه أنَّه غيرُ مؤهَلٍ على الإطلاق للفت أدنى قدرٍ من الاهتمام!!
    وعندما جاء دورُه في الحديث بدا لنا كتلميذٍ صغير يُجرِّب أمامنا لُعبةً ما.. يستخدم نفس تلك المفردات التي نعرفُها جميعًا ولا نُلقي لها أيَ بال، لكنَّ لُعبة التفكيك وإعادة التركيب التي يبدو أنَّه يجيدَها بمهارةٍ فائقة، أبهرتنا رغم يقينِنا بأنَّه يلهو!! لم يتعامل مع رموز (أ-ب-ج-د) كما نتعامل معها على أنَّها مُسلَّمات رمزية، تجاوزْنا شرحَ مدلولاتِها منذُ أزمنةَ المدارسِ الابتدائية.. رفض أنْ يُطلق عليها لفظة: (أبجد).. فهذه رمزية أُخرى مركَّبة لا يؤمن بكونها مسلَّمة تُؤخذ كما هي.. وكما يُخرج الساحر من قبَّعته عددًا من الأرانب الملونة الصغيرة، أخرج لنا من تلك الرموز عِدَّة مصطلحات تصلح دستورًا لتقدم البشرية.. (دأب-بجد-أجد-بدأ-أدب.. في مقابل: أجدب).. بدا لي لولا بدأ العالم دأبه بجد وإجاده وأدب لإيجاد الحلول لمشاكله المستعصية المعاصرة لأجدب جدبًا!!
    بدا أنَّه ماهرٌ في كسر المسلَّمات وإعادة بناء مسلَّمات مختلفة تمامًا، يحصل عليها من ذات المادة الخام التي نصنع بها حيواتنا.. هو أيضًا يصنع حياة لكن بطريقةٍ مختلفة!
    تبجحه وتماديه في هدم ما هو بديهي لا يحتاج إلى إثبات، وعرض فرضيات أخرى والبناء عليها، كأنَّها من ثوابت الحياة الفعلية.. لم يثرْ سخطنا على النحو المنتظر منا كنُخب لا تقبل زعزعة استقرار بديهياتها.. تعامل المجتمعون معه بنوع من التسلية، كأنَه جاء يعرض فقرة فنية بين فقرات برنامج مُتخم بالنقاشات الأكاديمية والأيديولوجية الملتهبة، تلطيفًا للأجواء المشحونة!!
    فقرة فنية بعنوان المهرج، أو الساحر، أو حتى المشعوذ.. فالجميع يقبل في تلك الفقرات تقديم غرائب الفنون طالما تشيع جوًا من البهجة، أو تثير اندهاش الحاضرين، وهو أثار الدهشة، وأشاع البهجة، وبنى فنه الضاحك على أساس السخرية من عقولنا التي تُقدِّس ثوابت، أثبت لنا بحيله أنها أوهن من أن تصمد لشيء من دعابة أو تهكُّم خفي!
    بالنسبة إليها لم يكن الأمر يشبه على أي نحو ما يمكن اعتباره فقرة ترويحية، أو حتى ترويجية تتخلل البرنامج الثقافي المكتظ.. هو قدَّم وجبة ثقافية دسمة وخطيرة.. بل قدَّم نماذج جد واقعية للحياة داخل الفردوس المفقود والمنشود.. وكأنَّ أحلام الصبا والبراءة للجالسين كادت أن تصبح حقائق ملموسة، لو أنَّهم آمنوا بها في الواقع أكثر قليلا مما فعلوا، أو أنَّهم وفق النظرية الاقتصادية تكلفة الفرصة الضائعة أو البديلة، أحسنوا الاختيارات أو الرهانات لحازوا على حياة فردوسية تنتمي إلى عالم آخر!
    إنَّه في تقديرها فليسوف على نحوٍ ما أكثر من كونه فنَّان.. غير أنَّ انتمائه إلى فئة المجتمعين وحضوره كعضوٍ فعال في النقاشات الدائرة طوال المؤتمر، لا يدع مجالا للشك في أنَّه مهرج ضل السبيل إلى السيرك!
    ستسأله لاحقًا -عندما تُتيح الفرصة-عن عمله.. سينظر إليها برهة، ترتسم على شفتيه ظل ابتسامة خجلى، قبل أن يجيب بتواضع: لدي حانوت لإعادة تأهيل (الأنتيك) والآثار التراثية لاستخدامها في الحياة..
    تورَّطت أكثر من طبيعتها الشفَّافة في تصديقه.. عقَّبت فيما بدا أنَّه بشكل عرضي:
    (الأنتيك تُستخدم أكثر ما تُستخدَم لأغراض الزينة)..
    أبان وجهه عن رفضه، وربما عبَّرت ملامحه في سرعة خاطفة عن شيءٍ من استياء قال:
    (لا أتعامل في الزينة)
    تساءلت: ألا تحب الزينة.. أم لا تؤمن بها؟
    أجاب بنبرة صادقة: أحب الزينة.. أؤمن بها.. فمن لا ينبهر بها؟! لكني لا أعمل بها في حانوتي.. هي خارج نطاق عملي فحسب..
    شاغبته: هذا سبب بساطة مظهرك إذن؟
    نظر إلى الأرض كمن جُرِح كبرياؤه، لكنَّه أجاب في اعتزاز: للبساطة أسباب كثيرة.. أنا أحب الزينة لكني أحب النظافة أكثر.
    لم تشأ أن تقول له: لا تَعارض.. والحق أنَّه كان نظيفًا في كل شيء.. والحق أيضًا أنَّه كان متأنِّقًا في عطره!
    فيبدو أنَّه الشيء الوحيد الذي يقتني الغالي منه!
    قال بطريقة بدت عرضية وإن كانت تتجاوب بشكلٍ مذهل مع حديثها الداخلي كأنَّه يسمع ما لم تنطق به: أُحب الطعام الجيد أيضًا وأنفق أغلب دخلي عليه..
    ابتسمت في حرج..
    في مرة لاحقة ستسأله قبل أن تدرك أنَّها ربما تسرَّعت في السؤال: عندما سأحضر الى بلدكم ستسمح لي بزيارة حانوت الأنتيك الخاص بك؟
    أشرقت ابتسامته حتى أدركت تهور سؤالها.. أجاب: لكن الحانوت الذي امتلكه ليس في بلدي..
    كانت قد قررت عل إثر ابتسامته المشرقة ألا تتورط معه أكثر.. تتأنَّى في أسئلتها التالية.. غلبتها رغبة المعرفة الملحَّة، هذه المرة أيضًا سبقها السؤال: أين يقع حانوتك إذن؟
    بنفس الابتسامة المشرقة أجاب: إنَّه معي أين ذهبت..
    جاملته بابتسامة ساذجة.. لا تحب أن تبدو غرِّيرة، وتبغض الألغاز المحيرة، وتكره أن يحتفظ الرجل ببعض أسراره دونها، فالمرأة هي المخلوق الوحيد الجدير بالاحتفاظ ببعض أسراره.. تلك ميزة المرأة ونقيصة الرجل.. ومع ذلك ستدَّعي اللا مبالاة.. هو لا يريد أن يَصدُقها الحديث، ستُظهر عدم اكتراث وهي المتدَربة جيدًا على صد الفضول الأنثوي..
    حييٌ هو أكثر من فكرتها عن الرجل الحيي أو الخجول.. هي أيضًا امرأةٌ شديدةُ الحياء.. لم يكن يمنعها حياؤها الجَم من الرد على مجاملاتِ رفاق العمل ردودًا لا تخلو من عُذوبة، فهي مخلوقة عذبة بطبيعتها.. كذلك لم تكن ردودُها تخلو من حزمٍ يمنع من التمادي.. لقَّبتها صويحباتُها بالطبيبة الحديدية..
    تُرضيها تلك المسافة التي تحافظ عليها بينها وبين الجميع، فيما تحافظ على عذوبتِها التي لا تُنال في ذات الوقت!
    تتورَّد وَجنتاها حياءً حتى تخجل من مظنَّة الناسِ أنَّها تُبالغ في وضع مساحيق الوجه الصارخة، وهي التي لم تحتاج إلى وضعها أبدًا! هو كذلك أُذناه تحمرَّان بشدة حتى تصيرانِ بلون الدم.. وترمش عيناه بسرعة، فلا يقوى على النظر في وجه محدِّثه، إذا أثار، أو أثارت حياءه أو غضبه!
    رغم كل المسافات الفاصلة.. وتلك مسافات فرضتها الأقدار ولم تفرضها هي في معادلة العذوبة التي لا تُنال، والصد الذي لا يؤذي المشاعر! مسافات جغرافية تتجاوز بضع آلاف من الأميال.. ومسافات اجتماعية واقتصادية كبيرة.. فقط الفكر والثقافة بَدَوا متكافئين وإن لم يتماثلا.. فبينهما اختلاف يشي بتكاملٍ أكثر من مُحتَمَل!
    أمَّا حديث الروح فلن يجرؤ على أن يصارحك به أحد.. حديث الروح إمَّا أن تحدِّثك به روحك فتسكبه فيك هكذا.. وإمَّا لن يتقبله عقلُك أبد الدهر.. حديث الروح هو شيء متجسد من عالمٍ مستحيل!
    في قصتهما معًا هذا الحديث ذاته نسف المسافات بكافة أنواعها!
    في الليالي التالية ستتوطد علاقتهما أكثر.. لم يكن يعني ذلك بالنسبة لأحدهما سوى معنً واحد مقدور لا مفر منه.. أمسيات باريس الخريفية يمكنها أن توفِّر كل شيء لمن يريد..
    سقف الحرية العالي لم يكن يؤمِّنه خريف باريس فحسب.. هناك سقف أعلى توفِّره الغُربة.. وسقف ثالث تصنعه الفرصة.. كل هذه بالمناسبة ذرائع.. أعلى سقف ممكن للحرية تفرضه الرغبة وأمن المآلات..
    ما الذي يمنع صابرة وعابد من التمتع الى أقصى حد بأماسي باريس الخريفية المعدودة قبل انتهاء مدة المؤتمر النُخبوي?!!
    ما الذي يمنع أيديهما أن تمتد إلى كأس الكوكتيل المقدَّم عادة مع قارورة الماء كبديل للمياه الغازية؟!
    عوضًا عن ذلك قضيا الليالي الممتدة كلٌ أمام شاشة حاسوبه المحمول في محادثة لا تنتهي، رغم أنَّ الذي يفصل بينهما مجرَّد عدد من الغرف في نفس الطابق من فندق الخمس نجوم الذي تسهر قاعات السمر فيه إلى قرب الصباح!
    عرفته وعرفها.. في الحقيقة هي أرادت أن تعرفه ربما لانبهارها ببعض أفكاره وسلوكه.. وهي تؤمن أنَّه ما من رجل إلا ويشتهي معرفة سر عذوبتها والاقتراب من نبعها الرقراق حتى ولو كان عابد!
    هل تكفيني كلمة أحبك وأنا أقتات على حبك!روحي تحيا بحبك،قلبي يدق به، حياتي لحبك

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,113
    المواضيع : 317
    الردود : 21113
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    بمهارة أديب لامع، وأسلوب سلس جذاب جسدت لنا مشاهد تشويقية
    مميزة لقصة ذات طابع إنساني إجتماعي
    لغة راقية موحية، ووصف دقيق للأحداث ورسم متميز لشخصيات القصة
    قدرة فائقة على شد الإنتباه، والسفر بالمتلقي إلى مدائن الحرف والفكرة
    في قصتهما معا ( صابرة ، وعابد) محتوى قصي قوي ومعبر
    يدعوك إلى المتابعة والإ نتباه
    فأهلا بك أستاذ علاء من جديد وحرفك الرائع
    وإلى التكملة سأكون على انتظار
    تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناديه محمد الجابي مشاهدة المشاركة
    بمهارة أديب لامع، وأسلوب سلس جذاب جسدت لنا مشاهد تشويقية
    مميزة لقصة ذات طابع إنساني إجتماعي
    لغة راقية موحية، ووصف دقيق للأحداث ورسم متميز لشخصيات القصة
    قدرة فائقة على شد الإنتباه، والسفر بالمتلقي إلى مدائن الحرف والفكرة
    في قصتهما معا ( صابرة ، وعابد) محتوى قصي قوي ومعبر
    يدعوك إلى المتابعة والإ نتباه
    فأهلا بك أستاذ علاء من جديد وحرفك الرائع
    وإلى التكملة سأكون على انتظار
    تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    دائما سبقك الكريم في التشجيع والاطراء يأخذ بيد الكاتب لينثر بضاعته المزجاة. شكرا لك

  4. #4
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    ( 2 )

    لقد فشلت كل محاولات زحزحة ثقتها بعذوبتهاالتي بذلها معها والد الأطفال.. حاول تصويرها أمام أهلها بأنَّها امرأة غريبة تغضب لأشياء تافهة.. وحاولت محاميته أمام المحكمة أن تصورها على أنَّها ربما تكون مريضة نفسيًا، عوضًا عن أن تكون حسَّاسة ورقيقة وصاحبة مبادئ سامية!!

    أحسن أبو الأطفال لمعركته، وأساء لنفسه ولها، إذ لجأ إلى محامية ولم يلجأ إلى محامٍ.. فالمرأة تعرف كيف تضرب المرأة تحت الحزام!

    فعلت محاميته ذلك أمام قاعة المحكمة، بينما يفاجئها بانتظارها صباح اليوم التالي في ردهة الوزارة حاملا باقة الورود التي تعشقها!

    ربما ستدرك ولكن متأخرًا أنَّه يحبها، يحبها على طريقته.. وربما هي أدركت من قبل حُبه لها.. هذا النوع من الحب الذي لا يأخذ أبدًا في الحُسبان مَرضاة المحبوب، ويكتفي بتحقيق رضا الذات.. رفضتْ هذا النوع من الحُب بعدما حاولت مرارًا تحويله لصالحها.. ربما هي لم تدرِ أنَّه ليس في مقدور أحد عرفها بحق إلا أحبها!

    كل أفعاله التالية التي استهدفت زعزعة ثقتها بنفسها، لم يكن يمارسها من باب الانتقام فهي لم تسئ إليه قط.. هو كان يحاول الاحتفاظ بها عبر إشعارها أنَّها بدونه لن تستطيع المواصلة.. وهي تؤمن أنَّها من غير رجل ستصل إلى أفضل مما وصلت إليه.. لقد كان رجل يأخذ منها ولا يضيف كثيرًا لها!

    أمَّا المحامية فلها شأنٌ أخر.. هي تدخل في خصومة حادة وعنيفة مع امرأة من بنات جنسها.. إنَّها بالنسبة لها خصومة تكسير عظام ولن تسمح أبدًا لأُنثى أن تنتصر عليها.. حتى لو استطاع الزوج المحب -على طريقته- ذاته إصلاح ما بينه وبين أُم أطفاله.. فالمحامية ستقوِّض هذا الصلح.. بل وستُفخِّخ أي محاولة إليه.. حرب ضروس وجدت ذات العذوبة نفسها هدفًا لها دون أن تُخطط أو تريد.. كل ما أرادته انفصالا عادلا ومريحًا لا تصفية حسابات فيه، فمن الأساس ستؤول كل الحسابات إليها إن تمت التسوية بالعدل.. هي أرادتها بالفضل لا العدل.. ما معنى أن يأخذ من البيت شيئًا لا يخصه؟ بل هو كان رافضًا لوجوده.. وهي التي اشتهته فاشترته من خاصة مالها وليس من مال الأسرة الذي تشارك فيه راغبة بأكثر من النصف، وأوجدت له المكان والمساحة والإطلالة الناعمة التي كانت تبهجها بالقدر الذي يغيظه.. يغيظه أنَّ اختيارها بالفعل كان اختيارًا فنيًا بامتياز!

    لم يكن لكل ذلك معنى سوى المناكفة.. كان لو تعلَمْ مناكفًا وليس وضيعًا.. ولكن اللدد في الخصومة يحرِّك الخصال إلى أقبح ما فيها! كل مناكفة من جانبه كانت تفقده رصيدًا ما حاولتْ الحفاظ عليه من باب عِشرة سابقة! حتى تبدد الرصيد..

    الأستاذة المحامية لم تكن تأكل عيشًا في هذه القضية، ولم تكن تُخلص للقانون الذي أقسمت على احترامه في عملها، لكنها كانت تستخدم ثغراته ونصاله معًا في توجيه العنف ضد المرأة! لعلها تعرَّضت مثل ذات العذوبة إلى محاولة وأد في طفولتها المبكِّرة.. ذات العذوبة رفضت التدجين كما رفضت التوحش!! حافظت على براءتها النقية واكتسبت عزمًا خُرافيًا على ألا تسمح بوأدها، وألا تشارك في وأد إحداهن.. ولعل رد فعل الأستاذة تجاه محاولة الوأد جاء مغايرًا.. لعلها قررت الانتقام من المجتمع الذي يسمح بوأد البنات، فركَّزت انتقامها على نصفه الذي يُشكِّل أغلب قوَّته الناعمة.. ركَّزت انتقامها على المرأة ذاتها!

    معركة مثل هذه كانت لا بد أن تخلِّف ندوبًا كثيرة.. لكن ذات العذوبة ستتجاوز هذه الندوب.. ستعتبر كل ما فات من حياتها تجارب، بعضها كان قاسيًا بحق لكنه يظل في خانة التجارب.. وستُترجم خُلاصات التجارب إلى قرارات بعضها مرن وأغلبها صارم.. قرارتها المرنة والصلبة تخص حياتها وحدها، وبالتالي حافظت على توازنها وعذوبتها ومسافاتها المرسومة بحرفية الفنان الكامن بداخلها، وبدقة الهندسة الاجتماعية التي استدعت تعلُّمها لرسم خطوط المسافات!

    مع عابد هي تقوم بانتزاع تلك الأوراق المرسوم عليها المسافات الفنية الدقيقة، وتكوِّرها في قبضة يدها ثم تقذف بها إلى سلة المهملات!! هذا من جانبها كان إجراءًا استثنائيًا وخارقًا للطبيعة، طبيعة قراراتها الصارمة.. تفعل ذلك لأنَّ عابد بدا لها رجلا استثنائيًا وخارقًا أيضًا لطبيعة الرجال!! وعلى عابد أن يعي هذه الحقيقة جيدًا، لقد وضعته في هالة شديدة التكثيف ستكشف لاحقًا أي هفوة صغيرة لا تتوائم مع استثنائيته تلك.. آه لو يفهم عابد هذا الجزء الدقيق والخطر من المعادلة!!


    في أمسيات خريف باريس ولياليه وعبر الشاشة الإلكترونية الوامضة اكتشفت صابرة في شخصية عابد مبررات لقرراتها اللاحقة.. عرفت أنَّه رجل دافئ المشاعر متدفقها.. وعرفت أنَّه ينظر للحياة من زاوية خاصة تختلف عن نظرة الآخرين لها.. صابرة أيضًا لها نظرتها المختلفة عن الآخرين للحياة، ولها زاوية رؤيتها الخاصة جدًا.. لم تكن نظرتها متطابقة مع نظرة عابد، لكنها ظلت تتقاطع معها وتُكمل إحداهما الأخرى..

    بدا لها عابدًا كرجلٍ خرج توًا من كتاب ما، قرأَته وتأثَّرت به في أيامها الغضَّة.. في سلاسل روايات عبير الرومانسية بدت للرومانسية الحالمة مدرستان كبيرتان، إحداهما جسَّدتها بالعربية ملحمة قيس وليلى وباللاتينية روميو وجوليت، وهي مدرسة راقية المشاعر إلى أقصى حد، لكنها إمَّا تنتهي بالجنون أو الانتحار.. هذه بالنسبة إليها كانت نهايات سلبية وليست فاجعة فحسب! ومدرسة مغايرة تُجسِّدها في العربية أسطورة عنترة وعبلة، تلك الأسطورة تجاوبت مع روحها الإيجابية الوثابة، فالعاشق الحق هو ذلك الفارس الذي يقهر الصعاب ويطوِّع المستحيل ليصل لحبيبته في نهاية المطاف، فلا يُجنّ أو يموت قبل الوصول، ولا يتركها فريسة للضياع..

    بدا لها عابدًا رجلا خارجًا من بين صفحات الكُتب.. ربما من كتابه هو نفسه بالذات، أو ربما كان أيقونة خرجت من الأنتيك، أيقونة الوفاء والإخلاص لِما يؤمن به ولمن يؤمن بهم!

    صفحة هو من كتاب شديد الطُهر.. والحق أنَّ عابد حاول في هذه الأمسيات الخريفية بالذات لفت انتباهها أنَّه صفحة شديدة الإنسانية.. الإنسانية التي حاول أن يشرح لها كم هي شديدة الضعف.. شديدة الميل إلى السقوط.. إنسانية مُعذَّبة تكافح كفاحًا مريرًا لتنصُر عوامل الرقي فيها على عوامل الانحدار.. ولم يعرف عابد أبدًا هل التفتت صابرة إلى محاولاته المستميتة تلك، أم غلب عليها الانبهار؟ حتى صفحات كتابه الخاص كان يحذِّرها فيها من نفسه، ومن هفواته، ومن خطاياه.. صابرة ستعي تلك الإشارات الخافتة أو الخجولة، لكنها ستؤوِّلها حينها على أنَّه يقدِّم نفسه لها ككتابٍ مفتوح، كتاب غير مشفَّر ولا مُلغَّز وغير ممتلئ باللوغرتمات! ستعتبر تلك ميزة إضافية تُحسب له.. فمن وجهة نظرها بات عابد فضلا عن أنَّه صفحة من كتاب مستحيل، هو أيضًا أيقونة وفاءٍ.. وصادق! تلك هي المسطرة التي لن تقبل في أي مرحلة من المراحل التالية التخلي عن قياسة على تقسيماتها الدقيقة والكاشفة أو الفاضحة.. مسطرة لم يدرك عابد من قبل أنَّها ستكون بتلك القسوة وهذه السطوة!


    انقضت نهارات باريس الخريفية وأُمسياتها ولياليها.. أو انقضت مدة المؤتمر دون أن يتجولا معًا لزيارة معالم باريس السياحية ولا التسوق من مولاتها التجارية.. تركا كل هذا لأغلب الرفاق.. لم تترك لهما فضاءات الشاشة الوامضة أوقاتًا حتى ليستدركا ما فاتهما من باريس ولو كل على حدة.. عابد لم يكن قد كون صداقات حقيقيه تنتمي لعالم النُخبة التي تلفظه لغرابته، كان بالنسبة إليهم فليسوفًا ربما، حالمًا جائز، عاشقًا متيمًا وشديد الإنسانية على وجه التأكيد، لكن شيئًا من غرابة أطواره لا سيما حيال البروتوكول، جعلهم لا يرحِّبون كثيرًا بصداقته أو صحبته خارج قاعات المؤتمر.. فالحديث معه ومناكفته داخل الأروقة النقاشية ثريٌ وممتع، أمَّا خارجها فربما يكون صادمًا أو ضار.. هو أيضًا لم يرغب كثيرًا في تكوين تلك الصداقات غير المبررة طبقيًا، مفضلا الاقتصار على صُحبته ذات النسق الفكري المتقارب.. وصابرة كانت قد ارتبطت ببرنامج حافل للتسوق مع صويحباتها، بالنسبة إليها لم تكن زيارة المعالم السياحية أمرًا ذا بال، فلم تكن مرَّتها الأولى التي تزور فيها باريس.. ولم تكن تُحب بحال التحلل من وعودها المبرمة ولو حيال التسوق أو النزهة.. فهي تحترم الكلمة المعطاة من شفتيها إلى أقصى حد.. لكنها تحللت هذه المرة من الوعود، متعللة باعتلال الصحة والمزاج، والحقيقة أنَّ القلب والمزاج كانا مضطربيْن بشدة.. هكذا استغنى الواحد فيهما بالآخر عن باريس وعن العالم!

    انقضت فترة الإقامة وظل هو حييًا للدرجة التي لا يتصور معها أحد أنَّه اختلط بإمرأة وأنجب بضعة أبناء! وظلت ذات العذوبة كما هي عذبة لكن عذوبتها لا تُدرَك إلا على مستوى الروح، وذلك حين تأذن فقط.. وهي ما أذنت الا لعابد!

  5. #5
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,113
    المواضيع : 317
    الردود : 21113
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    أخذتنا على حين غرة بعد أن سرحنا بخيالنا مع تلك العلاقة الوليدة بين عقلين وفكرين
    وحديث الروح الذي تسكبه أحداهما في الأخرى ، والإختلاف الذي يشى بتكامل أكثر
    من محتمل ـ وأحاديثهما الممتدة ليالي مؤتمر باريس كل أمام حاسوبه لتزيد معرفة
    به وأفكاره وسلوكه.
    لتجعلنا فجأة نرتطم بأرض الواقع ـ لنعرف أن صابرة أم وزوجة لرجل يحبها ولكن
    على طريقته ـ حب يأخذ ولا يعطي ـ ما يهمه هو تحقيق رضا ذاته..
    فنجدهما في ساحة المحكمة هو يحاول استردادها عن طريق إشعارها بأنها بدونه
    لن تحقق شيئا ـ بينما هى تؤمن بأنها بدون الرجل ستحقق ذاتها أكثر.
    كل ما تريده انفصالا عادلا مريحا ـ فلجأ إلى مناكفتها وكل مناكفة من جانبه
    كانت تفقده رصيدا من مكانته عندها حتى نفذ الرصيد.
    أما علاقة صابرة بعابد فما زالت لم تتضح معالمها
    فلنؤجل الحديث عنها إلى وقت آخر.
    السرد هادئ ينساب في دعة ، وإن كان أغلق على في بعض المواضع
    ولكن يجذبني أسلوبك الشيق للمتابعة إلى النهاية.
    تحياتي وودي.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  6. #6
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    ) 3 (


    ( 2 ) عابد


    عابد الذي خرج كصفحة من كتاب الطُهر كما ترى صابرة، أو من كتاب الإنسانية كما يؤمن هو.. كان قد خرج لتوه من واحدة من تراجيديات الحياة، هو يأبى أن يصفها بالمأساة رغم نهايتها الفاجعة، وتداعياتها المحطِّمة عليه كأنسانٍ وعاشق..
    حياته لم تكن مأساوية على الإطلاق، بل هي قصة رومانسية رائعة ونقية خليقٌ بها أن تُدرَس لتفرُدها وبساطتها..

    عندما أخذ عابد الكلمة أمام المؤتمرين من النُخبة الثقافية والأكاديمية، أو بالتعبير المتداول وقتها كريمة مجتمعات جنوب البحر المتوسط وشرق الأطلسي، كان يحاول تقويض نظريات الحاضرين حول تمكين السعادة في حياة البشر.. النظريات كلها كانت تبحث في الأسباب الخارجية لإسعاد الناس، وقمة اكتشاف المؤتمرين كانت أنَّ هناك بواعث غير مادية للسعادة، ولهذا بحثوا عن الأسباب المعنوية الخارجية التي يمكن أن يمنحها المجتمع للفرد ليحقق سعادته.. عابد قال: إنَّ السعادة كنزٌ داخلي ذاتي في المقام الأول والأهم، وأنَّ الوصول إليها أمر في غاية البساطة، البساطة التي تُعطي المكون الأبرز للسعادة الحقيقية، وأنَّ رحلة الإنسان للبحث عن السعادة، هي معادل رحلته للبحث في نفسه عن ذاته.. عابد كان ينطلق من بساطة حياته السابقه هو نفسه، تلك البساطة التي صنعت سعادة لم تستطع حتى المأساة، أن تسحب مخزون أرصدتها من خزينة الشعور واللاشعور لديه على السواء! كان محزونًا ومُشتتَ النفس لانشطار الروح، لكنه ما فتئ يردد: لقد عشت حظي من السعادة، وقد كنتُ ذو حظٍ عظيم، ولئن لم أُحصَّل على الأرض شيئًا آخر منها، فإني راضٍ بما حُزته من نصيبٍ أوفى!

    في الأمسيات التالية لعودة كل منهما إلى وطنه استمر تواصلهما الدءوب عبر شاشتيهما الوامضة.. عابد لم يرجع إلى وطنه، هو كان يعيش في حالة أشبه ما تكون بالمنفى الاختياري في دولة شقيقة في قارة أخرى!! (تتعدَّد الأسباب والنفي واحد).. يقول عابد ثم يضيف: ليس ضروريًا أن تكون زعيما سياسيًا أو حتى معارضًا لنظام الحكم في بلدك لينفوك، أو تنفي نفسك بالتي هي أحسن! يكفي أن تكون غريبًا.. (آخر) بالنسبة للناس.. ومختَلفًا عن النمط، أو خارجًا عن السياق، لتُنفَى أو تنفي نفسك.. لن يعترفوا لك أنهم اضطروك للنفي.. لكن ما معنى أن يكون دخولك لبلدك على توجس، وخروجك منها يتم بعد تحقيقات مُضنية للنفس ومهلكة لوقت الأجازة القصير دائمًا؟

    ما معنى أن يتم حبس جواز سفرك بدلا منك، كأجراء جد رحيم، لترَ أهلك وأصحابك قبل السفر؟! ما معنى أن تحذر منك أُمُّك الكبيرة -الأُولد جراند ماذر- أُمك وأُم جميع المواطنين في بلدك، وأنت تفتح صدرك لتحضن أنفاسها، أو تهبط على الأرض لتقبِّل تبْرها؟! في كل مرة تحاول لثم جبينها، تُفتِّش هي خلف ظهرك خشية خنجر مسموم محتَمل أو حزام ناسف قد تكون ارتديته في لحظة يأس طائشة! هذا يا سيدتي ما يسمونه إشعارك أنَّك ضيفٌ غير مرغوبٍ فيه في بيتك، فتنفي نفسك احترامًا لبقايا كرامة، أو فرارًا من عشقٍ يؤرِّقُك ويتنكَّر لك!!
    قالت بعد لحظة تأمُّل في أشجانه:

    لكني لم أسمع من قبل عن أنَّ سُلطات بلدك ممكن أن تحاكم (الآخر) لمجرد أنَّه (آخر)، ما لم يتورَّط في فعل السياسة أو يحوم حول حِماها.. وعلى حد معرفتي بك أنَّك لا تتعاطى السياسة..

    عندِك حق.. فعقل السُلطة أكبر من أن يشغله أمثالي من أشباه المواطنين.. لكن يكفيني أن أعترض على الصوت المرتفع ارفاعًا مبالغًا فيه لمكبِّر صوت مسجد الحي، مع خشونة صوت المؤذِّن كأنَّه –عفوًا- يتجشَّأ في المايك، ليتَّهمني هو، أو عامل النظافة بالمسجد، أو أي ناسكٍ آخر، بأني شيوعيٌ حاقدٌ على الإسلام!! أو أن أنبِّه مالك أحد المحلات المتناثرة حول ذات المسجد، بعدما هجر سكان الأدوار الأرضية في عمارات الحي سُكناها، لتتحول إلى (بوتيكات) ويتقاسمون مبلغ الإخلاء مع أصحاب العقارات، وبالتالي يصعدون للسُكنى في الأدوار الأعلى في بنايات أحدث.. أُنبهه أنَّ صوت (الدي جي) الذي يُذيع أُغنيات المهرجانات خارق لطبلة الأُذن، فضلا عن سخافة الكلمات وابتذال اللحن، فيتهمني بأنِّي إسلامي متطرف، أريد أن أضيِّق على أمزجة الناس.. السُلطات عندنا لا تُحاسب على هذه التفاهات، لكنَّ المتطوعين لإبلاغ الجهات العُليا كُثر، والعبارة التي تستقر في وعي السُلطات، إمَّا شيوعي حاقد، أو إسلامي متطرِّف، مع إغفال أصل القصة في الحالتين!!

    قالت بعد إرسال وجه تعبيري يرمز للتعجب :

    ألا تبالغ؟ فمجتمعكم مشهورٌ لدينا بالمجاملة واللُطف ودرجة عالية من التلاحم، لم يطغَ عليكم التصحر البدوي ولا الصقيع الأوربي بعد..
    صحيحٌ إلى حدٍ كبير.. لكنَّه أقل تسامحًا مع (الآخر)، أو لعلَّ (الآخر) الذي يسكنني يعاني من حساسية اجتماعية مفرطة.. المهم أنني أعيش في المنفى اختياريًا، وجواز سفري يُسجَن طيلة مُدَّة أي أجازة أقضيها في وطني، فينغِّص عليَّ فِراقه!

    يتشابه المنفيون قسريًا أو اختياريًا في صفات اقتصادية وبالتالي ظروف اجتماعية مشتركة، ويختلفون عن المغترب من أجل المال، أو الدراسة، أو غيرهما من الأسباب.. فالمغتربون من أجل المال يشكِّلون بعد عودتهم إلى أوطانهم طبقات برجاوزية جديدة، فيشترون قطع الأراضي ويستثمرون مدخراتهم في الاستثمار العقاري، أو يستثمرونها في مشاريع صغيرة ومتوسطة في مجالات خبرتهم.. في المجمل ينتقلون إلى طبقة اقتصادية واجتماعية أعلى مما كانوا عليه قبل اغترابهم.. المنفي اختياريًا لا يدَّخر مالا ليستثمره في وطنه بعد العودة.. مشتاق للعودة لكنه لا يعرف أبدًا متى يعود.. وإذا تغيَّرت الظروف وعاد إلى بلده فإلى طبقة اقتصادية أقل مما كان عليه قبل المنفى!

    هذا ما سيحدث لعابد لاحقًا بعد عودته لوطنه ذات صباح مشرق على إثر دفء شمس الربيع العربي.. سيجد أغلب أقرانه من طبقة الكادحين والذين يتندَّمون على عدم مواتاتهم فرصة الاغتراب من أجل المال.. سيجدهم غادروا طبقتهم الاقتصادية إلى طبقة أكثر أريحية.. بينما عائد هو إلى وطنه دون وظيفة حكومية تدفع له الفتات مقابل اللا شيء، وبدون مُدَّخرات قابلة للاستثمار أو حتى للاستهلاك، وبدون منزل مؤثث على شاكلة أقرانه الكادحين، وبدون شبابه الذي يعينه على المحاولة من جديد.. يعود في حالة أقرب إلى موظف حكومي صفَّى معاشه في منتصف سن الأربعين من عمره لكن دون حتى مكافأة نهاية خدمة! ومُحمَّلا بأعباء حفنة من الأبناء!

    عابد كان يؤسس لرومانسية قصصية مغايرة لرومانسية سلاسل روايات الجيب (عبير وأحلام) المترجمة عن قصص غربية، ألهبت خيال المراهقين في ثمانينيات القرن الفائت، وشكَّلت وجدانهم العاطفي، وبخاصة وجدان الفتيات.. روايات الجيب المحمولة تلك هي أُمهات كل الابتكارات الإلكترونية المحمولة التي اجتاحت العالم مع بداية الألفية الثالثة.. يظن عابد.

    وقتها كانت الرواية التي في حجم الكف والتي يمكن إخفاؤها في طيَّات الملابس، تكثُر قراءتها في المواصلات العامة، وخِلسة في مقاعد الصفوف الخلفية في فصول الدراسة، وعلى الفراش قُبَيل النوم.

    في ذات ذلك الزمن كانت مراهقة عابد متأثرة تأثرًا عميقًا بنوعٍ آخر من الرومانسية، سيعرف بعد ذلك ربما بنحو عشرين عامًا أو أكثر أنَّها رومانسية في رحاب العشق الإلهي، عندما تنشر التُركية إيلاف شفق روايتها (قواعد العشق الأربعون)، ساردةً جانب من حياة مولانا جلال الدين الرومي مع الدرويش شمس التبريزي.


    إنَّ الذين ألهبوا وجدان عابد بهذا الحب الإلهي الفيَّاض الذي تنبثق منه كل أنواع المحبة للخَلق، كانوا من الأصوليين فلم يذكروا أبدًا لفظة العشق، لكنَّه عاش دائمًا في رحابه ورحبائه.. والحُب الذي أشربوه لنفس المراهق، بقدر ما كان صافيًا كان واعيًا منضبطًا فتجنَّب عابد مُبكِّرًا شطحات التبريزي وتجديفاته.. وإنْ ظلَّ في شخصيته بضع منه.. عابد ما هو إلا مجذوب متجوِّل آخر مثل شمس التبريزي، وهائم في العشق الإلهي كمولانا جلال الدين، لكنه لا يشرب الخمر ولا يلامس الا الحليلة من النساء.. يتجاوز.. نعم يتجاوز كثيرًا.. تجاوزه يرجع لضعفه البشري لا لأنَّه قد أتاه اليقين فعرف عن المحبوب الأعظم ما لم يعرفه عنه سواه من مخلوقاته! فالله هو العدل الذي لا يُحابي أحدًا من خلْقِه..

  7. #7
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,113
    المواضيع : 317
    الردود : 21113
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    من خلال سرد متمكن ونسج محكم وحبكة فنية
    نبدأ في التعرف على الشخصية الرئيسية (عابد) تفصح عن نفسها وتدريجيا
    وما زلنا لم نصل إلى كل أغوارها بعد...
    استمتع بالمتابعة..
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  8. #8
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    ( 4 )

    من قبل أنْ يقرأ عابد عن التبريزي وهو يؤسس لنظريته الرومانسية.. قال عنها لصابرة:
    كتاباتي لا تؤسس لنظرية جديدة، فما هي إلا انعكاس لرومانسية قديمة الأزل، لستُ الأول ولن أكون الأهم، لكني حلقة في السلسلة إذا سقطَت انفرط العقد.. وهنا يكمن دوري الوجودي!!

    سيحكي لها ذات (شات) حكاية حُب ملهِمة من التُراث سيقول بحذر:

    هي حقيقة تاريخية لكني سأرويها لك مُجَهَّلة أسماء الأبطال.. فثقافتنا المعاصرة لم تعد تحتمل الحقائق!

    سيأتيه الجواب على شكل الرمز التعبيري الفائت..

    سيقول:

    كان في سالف العصر ملكٌ شرقي بسط سُلطان عدله ورحمته كما لم يبسطها ملكٌ قبله أو بعده.. هذا الملك العظيم الملهَم، لم يكن مُجرَّد حاكم على شعبه، فكان المربي والمعلم والملهِم والقائد والفارس، وقد تجمَّعت لديه صفات العظمة الفريدة في عصره والعصور التاليه.. وكأين من ملكٍ عادل صار له أعداء من شياطين الإنس والجن.. وكانت إبنته الكُبرى قد تزوجت رجلا من قومٍ قبل أن ينقلبوا أعداءً له.. فساوموا ذلك الرجل على أن يطلِّق إبنة الملك على أن يزوِّجوه أجمل نساء الشرق قاطبة.. لكنَّ الفتى رفض أن يطلِّق زوجته التي يُحبها من كل قلبه، رغم معاداته لأبيها الملك العادل!! وتمر الأيام ويخرج الفتى العاشق مع قومه لقتال الملك العادل، بينما زوجته إبنة ذات الملك تنتظره في مخدعهما مزعزعة النفس بين حُب أبيها العظيم، وحُب زوجها.. إنَّ إنتصار أحدهما قد يعني هلاك الآخر.. ولا بد لأحدهما أن ينتصر وللمنهزم الموت!

    وتنتهي الحرب وينتصر أبوها الملك العادل، ويتم أسر زوجها مع أسرى قومه، فتُرسل في فدائه بمال، وفي هذا المال قلادة أُمها الراحلة -حبيبة قلب الملك العادل-كانت قد أهدتها لها ليلة عُرسها، وتقع القلادة في يدِ أبيها الملك وهو في مجلس القيادة، فيعرف القلادة ويتذكَّر زوجته صاحبتها، ويرقُّ للذكرى وفاءً وحنينًا، حتى تدمع عيناه، فيستأذن قادة جيشه أن يُحرِّر الأسير ويرُد القلادة الغالية إلى إبنته الحبيبة، فيأذنون له.. فيشترط على زوج إبنته الأسير أن يُلحق زوجته بأبيها في مملكته، وكان الفتى على عداوته وفيًا للعهد، فردَّ الزوجة الحبيبة إلى أبيها الملك العادل، وهو يشعر أنَّ نفسه التي بين جنبيه تفارقه معها! وتمر سنوات طوال من الفِراق واللوعة والضنى، والزوجان المحبَّان يفصل بينهما صراعٌ لا دخل لهما فيه ولا قِبل لهم بمواجهته، وحول الملك العادل ثُلة من الحواريين من أخلص أصحابه، يوَدُ الواحد منهم أن يوطِّد علاقته بملكه المفدى بزواج إبنته، وكلٌ منهم له شأن في المملكة وفي الحياة، فهم نجوم مكارم الأخلاق.. لكنَّ الإبنة لا تعدُل بزوجها التائه في معسكر الأعداء زوجًا! في نهاية سنوات الأنين والحنين والصبر والأمل، يقوم أفراد من حرس مملكة العدل بأسر قافلة تُجارية على حدود المملكة، يقود القافلة الزوج السابق لإبنة الملك العادل، ويُرسَل الأسرى نحو العاصمة ليرى فيهم مجلس الحُكم رأيه، ويُدرك قائد القافلة أنَّه في مدينة المحبوب، فيسأل عن دارها، ويُهرع إليها لاجئًا في ليل.. وتنتظر المرأة حتى الصباح عندما يعقد أبوها مجلس الحُكم في مقر الحُكم، فتخرج على المجلس في حضرة أبيها الملك العظيم وفي حضرة مستشاريه ووزرائه لتعلن عليهم أنَّ (فلانًا) زوجَها السابق في حمايتها!!
    ويعلن الملك العادل صادقًا، أنَّه ما علم بهذا الأمر إلا من بين شفتي إبنته مع المجتمعين حالا، وكانت قوانين المملكة تمنح الحماية لكل شخص دخل في حماية أي فردٍ من الشعب، وبذلك نال الأسير الحماية والأمان، ثم عُرض على الملك العادل، فخيَّره -آملا وهو يشعر بأنفاس إبنته تتلظى- بين أن يبقى في المملكة آمنًا، وبين أنْ يعود إلى قومه من أعداء الملك.. فيختار الأسير العودة إلى قومه، وهناك يسلم لهم أموالهم وتجارتهم، ثم يعلن انضمامه إلى مملكة الملك العادل، ويعود فيتزوج إبنة الملك التي ظلَّت تنتظره السنين العجاف!!

    يتوقَّف عابد عن الاسترسال.. تصمت صابرة عن السؤال، كانت بحسها تدرك أنَّه دخل في نوبة بكاء لاهبة.. هي أيضًا تأثَّرت بشدَّة، أي امرأةٍ تلك التي فعلت في الحُب فعالا سبقت عصرها بمئات السنين؟! وأي مملكةٍ شرقيةٍ تلك كانت تحتمل هذه القصة قبل أكثر من ألف عام؟ في زمن كانت تُقتل فيه البنات لأنوثتهن!!

    يضيف عابد بصوت يأتيها متهدِّجًا عبر سماعة الحاسوب:

    إنَّ السنوات التي سيقضيها الزوجان معًا بعد طول افتراق، كانت أقل بكثير من تلك التي افترقا فيها.. ماتت أعظم مُحبة في تاريخ الشرق!!
    ستدرك ذات العذوبة شخصيات أبطال حكاية عابد التاريخية، وستدرك لمَ حاول تجهيل الأسماء.. إنَّه يريد تجريد القصة لتصبح مثلا لإنسانية محرومة من حقها الطبيعي في العشق!!

    وستدرك لمَ انقطع صوته وفُقد الاتصال بذكر موت البطلة الخالدة، فما كان لقلب عابد أن يحتمل الاستمرار بعد ذلك لحظة.. تمنَّت آنذاك لو أنَّها حليلته، لو أنَّها بجواره، لأخذت رأسه واحتوته في صدرها، وظلت تمسح وجنتيه من أثر انهمار دموعه الساخنات.. تهدهده حتى ينعس في صدرها، ساكبًا روحَه في ذاتها العذبة!!




  9. #9
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,113
    المواضيع : 317
    الردود : 21113
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    ما أعظم الوفاء , وما أجمل الحب حين يكون طاهرا وعفيفا وخالصا من القلب ,
    كما كان. حب زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها أبي العاص حتى وهو كافر.
    أتابع معك بكل الشغف...
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي





  10. #10
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    ( 5 )


    ذات العذوبة

    لم تكن ذات العذوبة مُجرَّد طبيبة نابهة، أو رسامة موهوبة، أو أديبة رقيقة مرهفة الحِس! إنَّها خليط مبهر من إنسانية رقيقة حانية، وامرأة قوية حازمة تستطيع أن تشق طريقها بعزم، دون أن تحتاج إلى سند أو دُعامة.. إنَّها خليط مثير من ضعف أنثوي عذب، وقوة إرادة حديدية لا تلين.. خليط جعل لكلمتها وزن وقيمة!!

    من القليل أن تجد رجلا يحتمل مسؤولية الكلمة وتبعات أعماله وأقواله، دون أن يتذرَّع بالظروف والضغوطات وتقلُّبات الحياة، واختلاف مواقف الآخرين، حتى صارت آفة الرجال التسويف ودوام التبرير! فما بالك بامرأة نشأت في الأساس لتكون في مسؤولية رجل؟!
    هذا الخليط العجيب من العذوبة الرقيقة الحانية، والإرادة الحديدية، جعلها أشبه ما تكون ببلورة تعكس ألوان الطيف من الرقة إلى الشدة ومن الحنان إلى الصلابة ومن النقاء الشفاف إلى القتامة المعتمة والعكس..

    يقولون:
    إنَّ بيئة التنشأة والعوامل الوراثية يتحكَّمان في مآلات الشخصيات، لكن ما وصلت إليه صابرة لم يقترب إليه أحد من أشقائها ذكورًا أو إناثًا.. فهي نسيج وحدها!

    يصفها عابد بأنَّها أيقونة المروءة والعذوبة.. تقدم لفتاتها الإنسانية الرقيقة بعفوية متناهية، وبتلقائية من لا يلتفت لما يفعل! كأن تراك مرتديًا قميصا أسفل البلوفر، وقد انثنت ياقة القميص، أو أخذت وضعًا غير منسجم، فتقترب بلطف وتمد كفها فتعدل وضع الياقة وتمسدها برقة، وتعود للخلف خطوتين وهي ما زالت تكمل حديثها إليك أو تواصل انتباهها لما كنت تحدثها عنه دون أن تلتفت أنها في الحال قدمت لفتة كثيرة المدلولات!.. تتقدَّم من أُم تحمل رضيعها فتسحب بطانية ناعمة سماوية اللون لأسفل قدم الرضيع، وقد علقت بكتف الأُم وهي ترفع رضيعها بلهفة قبل النزول من القطار السريع، حتى لا تتعرَّض القدم الصغيرة الرقيقة للفحة هواء ليل الشتاء البارد.. يعلق مراهق بباب الترام المنطلق بسبب قفزاته المشاغبة هنا وهناك، فتتقدم بجسارة إلى باب الترام لتفتحه بذراعيها لتسليك الكتف العالقة.. في الوقت الذي كان العشرات يشاهدون الموقف ويصفِّقون ويُصدرون صفيرًا يضيع مع صوت احتكاك عجلات الترام بسكَّته الحديدية، لعل السائق ينتبه فيتوقف أو يفتح الأبواب الأوتوماتيكية! أو تتقدَّم لدعم فتاة ناهضة تحرش بها فتي قميء في السوق! يقول عابد:
    الدهشة التي تصيبني من لفتات صابرة ليست من مروءتها ولا رقتها ولا إيجابيتها، الأهم من هذا كله هو التلقائية والبساطة التي تحكم فعلها! أنا أيضًا أقوم بلفتات إنسانية كريمة.. لكنني في كل مرة أفعل فيها ذلك، أنتظر اللَقطة، سأقولها لك بالعامية المصرية (البرواز أو السوكسيه).. في كل مرة أُقدم فيها على لفتة من لفتات المروءة أو الإنسانية، أنتظر الشكر أو الدعم أو حتى الإشارة أو إماءة إعجاب، من جمهور مُتخيَّل ما، أو شخص ما!! ذات العذوبة لا تفطن إلى أنَّها أقدمت على تقديم لفتة ما من حيث الأساس!! من أجل هذا وغيره لا تعجب إن قلت لك أنَّ ذات العذوبة علَّمتني المروءة والإنسانية!!
    علَّمتني كذلك ألا أُقحم نفسي في خصوصيات الآخرين، ولا أتوهم لنفسي القيام بدور العُمدة أو كبير العائلة، أو حلال مشكلات وعُقد الأصدقاء.. ولا أجعل من نفسي صندوقًا لإلقاء نفاياتهم، معتقدًا أنَّ ذلك يُخفِّف عنهم المعاناة.. فلستُ طبيبًا نفسيًا لأسمع لكل صاحب شكوى!!

    تعلَّمتُ منها كثيرًا وطويلا، ولن أعرف أبدًا هل استطعت -وكانت تصفني بالفليسوف-أن أُعلِّمها شيئًا ما تجهله في هذه الحياة، أم أنني لم أستطع؟
    لم يعرف عابد هل لهذه العفوية الفطرية طلبت منه ألا يكتب عنها في صفحات كتاب حياته، أم لماذا؟


    على الرغم من العلاقة الغرائبية التي نشأت بينهما فإنَّ عابد كان يراها تجاوبًا طبيعيًا بين الأرواح التي يؤمن أنَّها التقت في عالم آخر من قبل وءاتلفتا معًا في ميثاق أزلي ثم شُكِّلت هذه الأجساد لتتلاقى فيما بعد.. لقد كان يُحضِّر لحضور المؤتمر الإقليمي بالتنسيق بين ورقات عمل المؤتمرين، حتى تتعدَّد زوايا الأطروحات ولا تتكرَّر أو تتداخل.. آنذاك كانت الأوراق المقدَّمة للتنسيق منزوعة الأسماء ومعبَّرًا عنها بالأكواد مع رمز الدولة المشارِكة.. ما الذي جذبه إلى ورقة صابرة على وجه الخصوص؟ يتساءل.. فيما كان كل ما يربطه بها شعاعٌ من الفكر يتقاطع ولا يتطابق!
    لا شئ في تقديره سوى لقاءٍ سابقٍ، واتفاقٍ مبرم بين روحين في جسدين لم يلتقيا من قبل!!


    ناديني أشــــق قلب الليل وأكون فارس لأحلامـــك
    ولو تاهت في ليلي الخيل حاجيلك حتى في منامك!

    كلام أغاني!!
    من ذا يُصدِّق؟!
    عابد يُصدِّقها.. مؤمن هو حتى بلُغة الأحلام.. روحه ولا بد زارت روحها في منامٍ ما.. طيفها سكنه ذات مساء!!
    صابرة كذلك على شدَّة واقعيتها لم تكن ترى في العلاقة الغرائبية ضربًا من ضروب المستحيل!

    ربما كانت ترجمة العلاقة من لُغة الأرواح والمشاعر والأفكار، إلى لُغة الأمر الواقع المحسوس -على صعوبته البالغة- لا تُشكِّل أعباء إضافية كبيرة على عاتق عابد.. اقتصاديا واجتماعيا على الأقل! لكن الأمر لن يكون كذلك بالنسبة إلى ذات العذوبة.. إنَّها معركة الحُب الأخيرة الحاسمة، فإمَّا أن ينتصر الحُب كقيمة مجرَّدة، أو تسقط رايته إلى أجل غير معلوم!

    هل تستطيع أن تُقنع مجتمعك، محيطك، أقرب المقرَّبين إليك بعلاقة حُب وزواج عابرة للقارات؟! وعابرة للماديات، وعابرة للعادات والعاديات؟ لا أحد من أطراف العلاقة الأساسيين عايش الآخر أكثر من فكرة في الوجدان، أو نبضة في القلب، أو دفقة في الشعور، أو ومضة في الفؤاد! لا أحد في أهل بيت الحبيبين مُقدَّر له أن يرى أهل الآخر أو يعايشه!

    إنَّ قائمة ارتباط اي منهما تشده إلى عالم خاص لا يمكن تجاوز حدوده.. ارتباطات العمل، وارتباطات مراحل الأبناء التعليمية، ووشائج اجتماعية.. من ذا الذي يستطيع حقًا أن ينسلخ من عالمه بكل مكوناته ومؤثِّراته وامتداداته؟

    إذا استطاع رجلٌ أن يفُكَ كلَّ تلك الخيوط الحريرية منها والخشنة ليخرج من مسرح عالمه الخاص.. فهل أنتِ كامرأة تقدرين؟
    كيف تواجهين مجتمعًا تبحث فيه المرأة عن زوجٍ محتملٍ في كل رجلٍ تراه، ويبحث فيه الرجل عن زوجة محتملة في كل امرأة تقع عليها عيناه، ثم يُنكر عليك حُبَ رجلٍ بعينه؟!

    كيف تقولين لهم أنَّك أحببت أجنبيًا بمعايير الاجتماع السياسي؟
    وأنَّه لا يقيم حتى في قارَّتك..
    ولا ينتمي إلى مهنتك المرموقة، ولا إلى طبقتك الاجتماعية، ولا إلى مستواك الاقتصادي؟
    مُحمَّلا بأثقال مسؤولية حِفنة من الأبناء!!

    ألا تقول لكِ صديقتك وهي تُحذِّرك:

    - إنَّ مباراة في كرة القدم بين منتخبي الوطنين كفيلة بقطع العلاقات الدبلوماسية والاجتماعية، وشن حرب إعلامية ضروس بين البلدين!
    تصمت برهة تتأملك قبل أن تضيف وعلى شفتيها ابتسامة باهتة:
    - أين تذهبين وقتها؟
    وتواجهك شقيقتك:
    - إنَّ عابد هذا قد سحرك.. فأنت الآن إمَّا مسحورة، أو منوَّمة مغناطيسيًا، أو مسلوبة الإرادة!
    وتتصعَّب أُمُك في وجهك قبل أن تدير وجهها عنك وتتمتم بكلمات، يصلك منها:
    - بالنسبة إليه دجاجة بكَمُّونها!!

    يتساهل المجتمع مع المتساهلين حيال أنفسهم، ومع المترخصين، ومع الذين واللواتي يخلعون القيم الاجتماعية السائدة كلها أو جُلها أو بعضها.. لكنَّه لا يتساهل أبدًا مع الملتزميين بالمعايير الأخلاقية، كأنَّه يراهم بعيون خاصة ضيقة ولماحة في ذات الوقت، ويقيسهم على مسطرة من نوعية دقيقة وفارزة.. كأنَّه يختبر جدِّيَتهم حيال القيم التي يعلنون اعتناقها!! أو ربما يعاقبهم لأنَّ بقاءهم على تلك القيم يُعرِّي بعض أوكار العَفن فيه!
    لكنَّ المجتمع يتشدَّد حِيال ذات العذوبة، ويتكلَّف في تشدُّده ما لا يتكلَّفه تجاه أترابها.. وذات العذوبة لم تتجاوز معاييرها الأخلاقية ولا معايير المجتمع الذي تحيا فيه، هي تريد رجلا تُحبه في النور وعلى رؤوس الأشهاد..


    تنطلق ألسنة كأنَّ صابرة تَُهرع في إثر رجل.. وكأنَّ صابرة لا تفر من كون كثير من النساء تريد مُطْلق الرجل، إلى أنَّها تريد الرجل المطْلَق، أو الذي تظن أنَّه رجلٌ مُطْلق، فعابد في تقديرها هو ذاك الرجل.. صابرة لا تُهرع خلف رجل وإنَّما تسعى إلى عابد بالذات.. فأين الضرر؟ وما هي المشكلة؟!
    ومع ذلك تظل المشكلة الاجتماعية تلاحقها كأنَّها أذنبت ذنبًا ربما لا يُغتفَر .. أو قد يُغتَفر شريطة تبرؤها من هذا الحُب! أو أنَّها على وشك الإتيان بالمنكر الأكبر إذا استقر عزمها على الارتباط بزواج عابر للحدود والقارات!!

    زواج أجانب!!

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة