( 7 )
هل يبرد الحُب مع البُعد؟!
العجيب أنَّ هذا الحُب ما نشأ إلا على ذاك البُعد!!
الزيارات الدولية عابرة الحدود – وأحيانا عابرة القارات- على تباعُدها، تؤجِّج الحُب الملتهب، وتؤجج معه الأشواق، فما كانت تلك الزيارات القصيرة تُطفئ ظمأ العاشقيْن، بقدر ما كانت تشعرهما بفداحة الحرمان عبر فترات الفِراق الطويلة!!
تتعرَّض ذات العذوبة لحادثةِ سير وهي تقود سيارتها الصغيرة في وسط مدينتها الصاخبة.. المطلوب منها الكثير من الإجراءات مع عديد الجهات النظامية المختلفة كإدارة المرور، ومخفر الشرطة، والتأمينات، فضلا عن ورشة لصيانة السيارة المصدومة.. تتساءل صابرة في حِنق:
- أين رجُلها ليقف معها في مثل هذا الموقف المعقَّد؟
إنَّه يقيم بعيدًا عنها في قارة أخرى!!
وها هي تضطر للاستعانة بشقيقها الذي قاطعها بسبب ارتباطها بذاك الرجل على وجه الخصوص.. الرجل الذي يحجز في حياتها مكانًا، ويظل المكان شاغرًا، فلا هو موجود في حياتها، ولا هو ترك لها فرصة مغايرة للاختيار.. حتى ودون أية بادرة للتوبيخ أو التأنيب يبديها شقيقها.. يكفي للدلالة على رجاحة رأيه وموقفه منذ البداية، مكالمتها الهاتفية المستنجِدة به دون سواه!!
أي تقريع ذلك الذي تتلقَّاه عبر ظروف الحياة المختلفة، متضافرًا مع تقريع مجتمع يحارب المختلِف؟!..
عابد يدرك خطورة الموقف مما سيضطره إلى خوض مغامرتين في مرتين متباعدتين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في قلب ذات العذوبة وفي موقفها العام أمام المجتمع!!
أيْسَرْهما كانت الأولى إذ اضطر إلى ترك أبنائه في غربتهم، ودون الاستعانة بأي أحد لرعايتهم، وغادر إليها في رحلة مكوكية تستغرق أربعة أيام.. كانت الأيام والليالي الأربعة لا تُسمن ولا تُغني من جوع القلب، ولا عطش الروح.. كانت مُجرَّد محاولة للظهور في حياتها عبر المجتمع الذي تعيش فيه.. صابرة تدرك فروغ الزيارة المكوكية القصيرة من مضمون اجتماعي حقيقي، لكنها إلى أقصى حدٍ ممكن تُقدِّر التضحية، وجوهر المغامرة.. زيارة كهذه تحتاج إلى إجراءات معقَّدة طويلة وكثيرة، فضلا عن تكلفة مادية مُعتبرة، لا يُقدم عليها إلا مُحب يقدِّم قرابين العِشق إلى محبوبته!!
مِن العُشَّاق من يُقدِّم وردة بلدية حمراء كهدية رمزية إلى محبوبته، ومنهم من يقدِّم خاتم زُمرد، أو معطف من فرو المنك.. امتنَّت ذات العذوبة لزيارة عابد الخاطفة، امتنان مُحبَّة تتقبَّل وردة بلدية تمثِّل عندها قيمة أعلى من الزُمرد والمنك.. لكنَّ المحيطين لا يقنعون، والضغوط لا تلين!!
والفراغ الناشيء بمجرد انتهاء الزيارة لا يمتلئ.. تأتي مثل هذه الزيارات والمقابلات كاستثناء يؤكِّد القاعدة ويضغط عليها ويبرزها بشكلٍ ثقيل وصارم.. يمكنك أنْ تعتاد على الفِراق، أو البرودة.. لكنَّك عندما تجرِّب غمسة في النعيم، تتمرَّد على ما كنت اعتدت عليه قبلا.. وهذه اللقاءات العابرة كانت غمسة النعيم التي تُجرِّد ما قبلها من معناه، وتجعل ما يأتي بعدها عذابًا مُقيم..
مُحقَّة صابرة إذ تطرح في النِقاشات عبر الشاشة الوامضة الأمر على هذا النحو.. فهل يحق لعابد أنْ يعتبر تلك اللقاءات بمثابة الصدمة الكهربائية التي يجريها إخصائيّو غُرف الإنعاش، لمساعدة قلب كاد أنْ يتوقَّف على العمل من جديد؟..
- صقيعٌ متقطِّع ولو على فترات، خيرٌ من صقيعٍ دائم.
يقول عابد.. تُجيبه صابرة:
- الصقيعُ يظلَّ صقيعًا.. وأنا لا أُحبُّ البرد!
هكذا عادةً.. وجهتي نظر لا تتطابقان، لكن يمكن التقائهما عند نقطةٍ ما.. هل تظل تلك النقطة تبعُد وتصغر مع مرور الوقت؟
هل سيستحيل التماس بعد فترة من الزمن؟
هل ستتحول وجهتا النظر إلى قضيبين متوازيين، لا يلتقيان حتى في محطة ما؟!
هذه المرة ستُعلن ذات العذوبة وصولها لذلك الاقتناع.. لم تعد هناك فرصة للتقاطع، لا أمل في إدراك محطة للوصول، أو حتى للاستراحة.. الصقيع استزف كل طاقتها على التحدي.. إذ ذاك تُقرِّر غلق النوافذ.. صد كل تيارات الحياة الآتية خلال وسائل باردة وصمَّاء للتواصل عبر عدة آلاف من الأميال، تُرعش القلب وتُنعش الأمل، وتُضاف إلى رصيد وعود حالمة لا تتحقَّق أبدًا..
إذ ذاك يلجأ عابد إلى مغامرته الثانية.. الظروف عندها في غاية القسوة.. سيغامر بالسفر الدولي ليواجه مجتمعًا بكامله رافضًا لوجوده.. ذات العذوبة التي كانت الملاذ والملجأ.. والتي كانت حصن دفاعه الأخير.. أعلنت تخليها عن النضال لصالح قضيته الحالمة التي تتكسَّر كل يوم، على صخور واقعٍ لا حُنو فيه على الحالمين.. ومع ذلك سيقبل المغامرة.. كان يدرك ما يمكن أن تؤول إليه النتائج.. لكنَّه ظلَّ مؤمنًا أكثر بها.. مراهنًا بكل شيء على حبٍ أقوى من الموجودات!!
لم يكن شيء في شروط منحه تأشيرة دخول لدولتها ينطبق عليه.. بحيث يغدو الحصول على التأشيرة مستحيلا.. يستخدم الحيلة -لا أقول – التزوير.. إنْ كان استخدام خطاب تعريف قديم مرَّ عليه أكثر من عامين وصادرًا بصفة غير الصفة التي أصبح عليها عابد الآن، لا يُعدّ تزويرًا في أوراق رسمية، وعلى نطاق دولي!! كيف لن يفطن موظفي السفارة إلى تلك المقامرة؟ هل كان يراهن من جديد على شق قلب الليل؟!
عندما يأتيها صوته على الهاتف من أسفل منزلها في قلب مدينتها الصاخبة، ليقول لها:
- أنتظرك أسفل المنزل.. أنا موجود هنا من أجلك.. وأي قرار ستنتهين إليه.. أنا معك فيه..
لن يخامرها شك أنَّه مجنون.. تدرك بكل خلية في كيانها أنَّه عاشق حقيقي.. سيفاجئها عندما تمر بجواره بسيارتها لتقلَّه إلى الفندق الذي حجز للإقامة فيه بقوله:
- أنت تؤذين نفسك.. وأنا لن أسمح لك أن تكرري إيذاء نفسك مرة أخرى.. سأحميك حتى من نفسك!!
ربما تكون هذه الجملة المفتاحية التي تمتلك قلبها وروحها.. يقولون، أو تقلن:
- سَحَرك والله عابد!!
يظل رغم كل شيء هو السحر الحلال.. سحر يتم بإرادة المسحور، وليس رغم أنفه!!
ستتساءل صابرة طويلا فيما بعد، وفي حيرة:
- هل كان صادقًا حين نطق بها.. هل كان يعي معناها الحقيقي؟
لقد استقرَّت في وجدانها، وهي توقن أنَّه لا يخاطبها بلسانه، وإنما كيان العاشق هو الذي ينطق.. لم تسمح لنفسها من قبل أن تكون بلهاء.. ولا سِحر الدنيا كله كان قادرًا على إحالتها إلى امرأةٍ بلهاء.. لكنَّ الوعود لا تتحقَّق أبدًا..
- أين هو عابد الآن ليحميها من ثورات نفسها المتمرِّدة؟!
عابد كان صادقًا.. وهو قصد كل حرف نطق به.. لكنَّه فقط غير مستطيع.. لم يكن بقوة عنترة بن شداد إذ ينجو من الرمال المتحرِّكة في الرُبع الخالي، ولا وهو ينازل ملوك مملكة الحيرة ليسوق النوق الحُمر كمهرٍ لعبلة.. العالم الآن لا يُدار على طريقة عنترة بن شداد.. نواميس الكون غلابة.. الحدود المرسومة والأسلاك الشائكة وجوازات السفر، وتأشيرات العبور.. معوِّقات حديثة أقوى مائة مرة من الرمال المتحرِّكة ومن الرُبع الخالي كله.. السُلطة الفاتكة المسيطرة على كل شبر في كل مكان على الأرض.. لن تسمح لعنترة أن يصل إلى عبلة، ولا إلى مهر عبلة!!
ناديني أشق قلب الليل وأكون فارس لأحلامك
وإن تاهت في ليلي الخيل حجيلك حتى في منامك
أين أنت يا فارس الأحلام؟ أي قلب معتم ومصمت لليل لم تستطع شقَّه؟ ولماذا تخلو منك أحلامي؟!
- جَدُّك كان درويشًا الى حدٍ ما..
تقول أُمُّه.. وتُصدِّقها عمته في بعض ما تقول.. الرجل كان صاحب تجارة وكانت له أملاك، لكنَّه ما كان يمسك من المال كثيرًا ولا قليل!
يترك تجارته وحانوته من أجل أن يمضي في خدمة شخص استعان به في مسألة لا تخصه ولا يقدر على حلها.. فقط يدور معه من باب المؤانسة! هل ستكتشف ذات العذوبة أنَّ عابد ورث شيئًا من خبل؟ -أو سمها إن شئت- دروشة عن جده؟!
لماذا يخاصم عابد مقوِّمات الحياة، وهو القادر على حيازة الكثير منها؟! يتمتع بموهبة فطرية، إضافة إلى جلد في العمل ومثابرة يشهد بها كل من تعامل معه.. أين مكمن الخلل في شخصيته؟ أهي دروَشة ورثها عن جده؟ أم لوثة مسَّته كما مسَّت شمس التبريزي من قبل؟!
هل لعبتْ لُعبة السُلم والثعبان التي كنا نلعبها ونحن أطفال؟.. هل جرَّبت أن ترمي الزهر فتربح النقاط تلو الأخرى، حتى تصعد إلى المربع رقم ثمانية وتسعين، ويتبقى لك نقطتين لتصل إلى نهاية الدور وتصبح فائزًا، بينما منافسك يقبع في منتصف الرُقعة؟ هل جرَّبت أن يُخرج لك النرد (الزهر) نقطة واحدة ليهوي بك رأس ثُعبانٌ بشع وطويل عند المربع رقم تسعة وتسعون إلى المربع رقم واحد لتخسر اللُعبة بجدارة؟!
لا بد أنَّك ضربت الطاولة بقبضة يدك.. وأرجعت الهزيمة الساحقة الى حظِك العاثر ليس إلا..
الثعابين التي تُطل برؤوسها قبل أن يصل عابد الى القمة بخطوة واحدة في كل مرة، لا يمكن عزوها الى سوء الحظ.. عابد نفسه لا يعزوها الى ذلك..
ذات مرة نصحه عمُّه الحكيم قائلا:
- لا تتفوَّق أكثر من اللازم في عملك فتضع نفسك تحت الأضواء الكاشفة.. كُن جيدًا.. هذا يكفي..
بعد عدَّة سنوات سيقول له صديق قديم:
لا تُشرق أكثر من اللازم.. لا تُشعِر صاحب العمل أنَّك عقلٌ ممتاز، يمكنك أنْ تُدير أفضل منه، رغم أنَّ ذلك يصب لصالح رصيده المصرفي، لكنَّه عندما يلاحظ تفوقك سيحذر منك.. ثم.. يحظرك!!
لا عابد ولا صابرة سيقتنعان بشيءٍ من هاتيك المبررات.. لا الحظ، ولا سرعة الوصول إلى أعتاب الأبواب المغلقة.. ولا خوف المنافسين من سطوة صدارته.. هذه تظل أسباب خارجية، يمكن تدوينها في خانة المبررات -حقًا كانت أو خداعًا- لكنَّ الأسباب الجوهرية الأهم، تظل هي الأسباب الداخلية.. لا هزيمة تصيب النفس من الخارج.. كل الهزائم لا تصيب إلا نفوسًا مهزومة، أو على استعداد لتلقي هزيمة.. الأقوياء من الداخل لا ينهزمون، كالأشجار تموت واقفة!
لن تؤمن ذات العذوبة بمسألة الوراثة عن الجَد.. إنَّ مسألة الوراثة تبرِّئ عابد من المسؤولية عن السقوط المتكرِّر قبل خُطوة من القمة.. لا بد أنَّ عابد يعاني من خللٍ ما.. لا بد أنَّ في تركيبته ناحية ضعف ما هي التي جعلت استمرار الرهان عليه نوعًا من إدمان الوهم.. عابد كان مشروع عاشق من طراز فريد، غير أنَّ فيه شيء غير حقيقي..
كتبت ذات العذوبة في صفحتها الأخيرة من كتاب "عابد"
كنتُ أتمايل على نغمك.... تهدهدني كلماتك......
فجعلت من حدود ذراعيك... دفئي.
كانت كل دروب الحُزن تختفي وأنا أتدحرج في طياتها، أصبحتْ قناديلها الحزينة شموع دافئة.... جعلت ظلي عملاقًا يتوارى بين أجنحة الليل....
كان حصار الغسق آسرًا بحُمرَته الهَفهافة وهو يصبغ حدود ذراعيك، لتستحيل لكل مدافئ الوجود، لتجعلني أُمسك بنَجمة بطرف سَبابتي وأضعها بين حاجبي، فيسري نورها ليملأ جوانح العقل والنفس.....
كنتُ......
أغمضتُ عيني .... ورسمتُ حدودَ ذراعيك، وجعلتها عالمي المضيء بكل نجوم الكون، واكتفيت بأن أكون امرأة بين ذراعيك.....
أغمضتُ عيني.... وصدري يمتلأ بنسائم أنفاسك، وابتسامتي لا تفارقني ومسامعي لا تلتقط إلا حفيف أوراقك..
أغمضتُ عيني.... وارتميتُ في أحضانك.. لكني اصطدمتُ بأرضٍ صخرية.. لأنَّكَ أنتَ كنتَ غير حقيقي!!