الاعتماد على الآخر وانعكاسه على الشخصية
من منطلق التربية وتجديد درجات الشخصية لبناء مجتمع واع نحتاج لتنظيم القيم في الإنسان وتجديدها، وهذا يتطلب نضوج في الوعي؛ لتستطيع مواكبة مراحل التغيير وتجدد الثقافة التي يتعرض لها الفرد وهو يقبع في مجتمع له قيمه وعاداته وأساليبه في بناء العلاقات الاجتماعية الواعية.
وبناؤنا للإنسان يتطلب إدراكًا عميقًا في تهيئة الوسائل عبر درجات فكرية ونفسية واجتماعية واعية متزنة، حتى لا يتعرض في لحظة من اللحظات إلى معوقات يصطدم بها لتنحدر إلى الإحباط وهدم معاول البناء، ثم اليأس البغيض وهذا لوحده هادم للعلاقات الاجتماعية وهادم لدرجات الفكر الناضجة.
فالتربية الواعية تعمل على تنمية الشخصية الإنسانية ونضجها. ومن معاول التنمية هذه هي مفهوم "الاعتماد على الآخر"، التي تصبح في مفهومها الخاطئ قيودًا وعادات نفسية تقيده في مواجهة التحديات وتسبب له العجز.
فالارتقاء في الفكر والتربية الواعية يساهم في الارتقاء في العمل، والارتقاء في العمل يساهم في حصد الناتج من عادات ونفسية وعلاقات اجتماعية، لتتبلور شخصية متكاملة ناضجة، لنحصد في النهاية مصيرنا في المجتمع.
لذا كان من الأنسب لنا أن نطلع على مفهوم الاعتماد على الآخر وما يحتوي من إنجاز، وهل مجتمعنا يميل اتجاهه إلى هذه الرؤية من الاعتماد على الآخر، أم أنه يقوم بمسؤولية فاشلة تجاه أفراده في المجتمع، وهل الأمة اليوم على وعي تام بماهية الفرد وايجاد السبل والوسائل التي تدعم استقلاليته في رؤية ذاته ووعيه الكامل بما يدور في المجتمع وما يختلج النفس من قدرات في تنظيم شؤونه لينخرط في مسار المؤسسات الاجتماعية للتنشئة كالأسرة مثلاً ومؤسسات التربية كالمسجد والمدرسة والمؤسسات الإدارية الحاكمة في المجتمع.
هل الأمة في كامل استعدادها لتنظيم البيئة الملائمة وتوفيرها للفرد لتنمية المهارات الفكرية والأخلاقية وغيرها، لحصد طاقات بشرية سليمة تقوم على الاحترام والسلوك الفاعل في تكوين بيئة صالحة عادلة تتجه نحو حرية الذات والمجتمع.
ولكن للأسف الشديد نجد أننا جميعًا إلا من رحم ربي نحمل خصال الاعتماد على الآخر، وهذه الخصال هي بؤرة الجمود والتوقف عن الإبداع والتغيير للأفضل في النفس وفي المجتمع.
في هذه الخصال نبقى في قيود تربطنا بالآخر لنصبح عاجزين عن الاستقلالية الذاتية وغير قادرين على ضبط الشخصية وننتظر انعكاس تام من المجتمع في جميع مجالاتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لنتأثر بها سريعاً دون تحليل ودون تفكير للصواب أو الخطأ، ونبقى في انتظار الحلول من الآخر الغربي وغيره، فنريد أن يفكر عنا الغرب دون أن نستقل بفكرنا وقدراتنا ونعتمد على ذواتنا لا على غيرنا، مما نفقد من خلال ذلك روح المبادرة الحرة ونصبح كدمى متحركة يسكنها العجز عن التفكير والعمل والاختيار السليم للخطوات في حياتنا المختلفة.
وهذه الشخصية تصبح في مهب الريح، تتأثر بسرعة وتلقي اللوم على الآخر أو المجتمع، وتبقى في حالة استجداء دائمة للآخر واستنجاد به. وهذه النوعية من البشر هي التي يلعب بها الغرب أو ساسة العرب كلوحة الشطرنج، لا تحسن التفكير أو التحرك إلا بأيدي الكبار.
وهذه للأسف حال أمتنا العربية، والتي ربما كانت مقصودة في صنمية البشر من قبل الحكام وعليهم إلقاء الأوامر فقط والشعب يستجيب بالقوة للأوامر تحت التهديد وتحت سطوتهم للنفس الضعيفة التي لا تحكم الذات ولا قيد أنملة وتظل منساقة كليا للكبار. وهنا تبدأ عملية السيطرة على الشعوب ليصبح سلوكنا مجرد ردود أفعال وانعكاسات مشروطة لأهوائنا وانفعالاتنا التي تصبغ بالاعتماد على الآخر، فلا يحسن التصرف إلا بتوجيه من ولاة الأمر من قادة أو حكام أو رؤساء إلخ.. كما يحدث في مجتمعنا العربي. ومن هنا تأتي معاني التقديس للشخصيات وللحكام وللساسة دون أن نوقظ هذا الفكر ونحلل تصرفات الآخر ونقيّمها، على أنها سليمة أو خاطئة. وما أكثرنا من تماثيل لا تتحرك ولا تنتقد ولا تتفوه للحق. خوفًا على النفس من العقاب من ولاة الأمر.
لذا يأتي دور التربية والجيل الصاعد والأسرة الواعية التي تقوم على ترسيخ استقلالية الشخصية عن الآخر منذ نعومة أظفاره. ليتحرر من هيمنة الآخرين وتسلطهم عليه واستغلالهم له، حيث يجب تدريب الطفل على الاستقلالية والحوار والمناقشة، ثم دور المدرسة في تجهيز الطالب ليكون مفكرًا محللًا بطريقة تجعله بعيدا عن أن يكون متلقيا فقط للمواد النظرية أو العملية، إنما ليساهم في بناء قرارات وتدريب على سلوكيات تجعله شخصية متزنة واعية مستقلة لا تنخرط مع الآخرين لمجرد التبعية تماما كشعبنا وحكامنا؛ حيث نرفع رايات التمجيد والتسبيح لهم ونبصم على أفعالهم دون أن ننفرد بالتفكير ولو للحظة بظلمهم وقسوتهم وقتلهم الأبرياء والدمار والهدم الذي سببوه وعدم فقههم سياسيا ولا اجتماعيًا ولا اقتصاديًا. فقط نصفق بحرارة ونكون حينها في قمة العجز؛ نجلد الذات ونقلد الآخر تقليدًا أعمى دون وعي أو بصيرة أو إدراك.
جهاد بدران
فلسطينية