بقلم/ د. حسن محمد أبو حشيش

جاء الانفجار الذي أوقع عشرات الشهداء والجرحى في مخيم جباليا شمال قطاع غزة يوم الجمعة 21/9/2005م ليؤكد عمق الأزمة القائمة داخل النظام السياسي الفلسطيني, سواء في غياب الموقف الموحد للجهات الرسمية من مجمل الأحداث والمواقف, أو في العلاقات الفصائلية مع بعضها البعض, أو في علاقة الفكر المقاوم مع الفكر المفاوض. حيث تعددت الروايات والتفسيرات لما حدث من قبل ثلاث جهات رئيسة ذات علاقة مباشرة وغير مباشرة بالأحداث وهي: وزارة الداخلية الفلسطينية ومن ورائها السلطة وحركة فتح, وحركة حماس, والاحتلال الصهيوني.

موقف السلطة وحركة فتح

وكان التفسير الأول والأسرع هو من قِبَل الداخلية عبر رسائل الجوال والتصريحات الإعلامية والبيانات الصحفية المتتالية, حيث أكدت الداخلية عبر هذه الوسائل أن الانفجار ناتج عن خلل داخلي من قبل مسلحين حماس, ويجب عليها تحمل مسؤوليّتها الأخلاقية والأدبية عن ذلك, ولا تتهرب من الأمر بتحميلها الاحتلال المسؤوليّة. وبقيت هذه الرواية حتى اللحظة وأكدت عليها حركة "فتح" وجهات عديدة في السلطة, كل ذلك تم في وقت خيالي غير كافٍ لمعاينة المنطقة التي كانت مسرحاً للحادثة, إضافة للوقت الطويل المطلوب لإجراء تحقيق معمق وتوضيح الحقيقة.

والمتابع للأحداث من فترة غير قصيرة يجد أن تصرفات حماس وتصريحات قادتها موضوعة تحت المجهر والنقد من قبل السلطة والتي تولت الأمر مؤخراً وزارة الداخلة ومكتبها الإعلامي, الشيء الذي نجده مفقوداً تماماً تجاه أحداث فوضوية مقصودة وغير مقصودة من فصائل وتشكيلات أخرى, ومن جهات أمنية رسمية تابعة للسلطة. وأعتقد أن السلطة وحركة "فتح" تهدف إلى تحقيق جملة من الأهداف من وراء استمرار تحسس سقطات حماس وتهويل صغائرها من أهمها:

أولاً: زعزعة ثقة الجماهير بحماس, وفض الالتفاف الجماهيري الكبير حولها, وخاصة بعد فوز حماس بالانتخابات البلدية الأولى والثانية, وعزمها الدخول في الانتخابات التشريعية التي قرر الرئيس محمود عباس إجراءها يوم 25/1/2006م المقبل, وخوف السلطة من فوز حماس بها, وبالتالي فقدان حركة فتح الريادة. لذا وجدنا استغلالاً مباشراً وغير مباشر بطرقٍ غير مقبولة لحادثة استشهاد الفتاة من آل العزامي في بيت لاهيا, وحادثة استشهاد الطفل من آل أبو غبن في مخيم الشاطئ, وحادثة الانفجار في بيت آل فرحات بحيّ الشجاعية... ومحاولة البعض إلصاق تهمة اغتيال موسى عرفات لحماس رغم وضوح جهة التنفيذ. ولربما كان ذلك وفق رؤى مدروسة ومسبقة وتحتاج لمبررات ومصوغات ميدانية يتم استغلالها.

ثانياً: اعتقاد حركة فتح أنّ التصعيد مع حركة حماس المنافس التقليدي والرئيس من فترة إلى أخرى, من شأنه لملمة الصف الفتحاوي المبعثر والمختلف والمتصارع, بل وزيادةً على ذلك محاولة اللعب على ورقة حماس وتهديدها لكيان فتح, للهروب من استحقاق الإصلاح الداخلي الذي يطالب فيه الصف الثاني والثالث بالحركة, والتنصل من عقد المؤتمر السادس الذي من المتوقع أنْ يشهد انقلاباً على العديد من القيادات المتنفّذة على مدار السنوات الماضية.

ثالثاً: من المسلّمات التي باتت راسخة في الأذهان أنّ منهج "فتح" والسلطة الرسمي لا يتقاطع إطلاقاً مع منهج المقاومة المسلحة التي ترعاه وتقوّيه وتحميه حركة حماس بجانب بعض الفصائل, وما التشكيلات العسكرية الفتحاوية إلا خارج قرار المؤسسة الفتحاوية الرسمية وهم على تضادٍّ معها, لذا فإنّ "فتح" ترغب أنْ ينتهي هذا المنهج كي يعود الفلسطينيون إلى طاولة المفاوضات, فنرى أنّها تلجأ إلى تشويه أساليب المقاومة وحركاتها مستغلةً خطأ هنا وخطأ هناك, ولعل الذي حدث قبل بضعة شهور في شمال غزة وحي الزيتون من الأدلة على ذلك من جرّ المقاومة للصدام, ومن ثمّ القول للشعب هذا هو سلاح المقاومة الذي لا يختلف عن سلاح الفلتان ويجب تحجيمه!! وفي نفس السياق والهدف تأتي التصريحات المتتالية حول ضرورة سحب السلاح من الشوارع, ومطالبة "إسرائيل" وأمريكا للسلطة بعدم تمكين حماس خوض الانتخابات في ظلّ تمسكها بسلاحها...

رابعاً: لقد أثبتت حركة حماس قدرتها التي لا تنافس على حشد الجماهير وتنظيم العروض المختلفة, وإبداعاتها في الشعارات والملصقات وبقية الوسائل الإعلامية, مقابل عجز الجميع على مجاراتها رغم الميزانيات الهائلة التي رصدتها اللجان التابعة لـ"فتح" والسلطة, ورغم صرف الكابونات والرواتب المقطوعة لآلاف الشباب تحت بند الجيش الشعبي ولجان الدعم والمساندة , والتي لم تمكّنهم من تنظيم فعاليات ذات بال... كلّ ذلك في اعتقادي استوجب حملة جديدةً ضدّ حماس لتعكير صورتها القوية التي بدت فيها.

موقف الاحتلال "الإسرائيلي"

أمّا على صعيد الموقف "الإسرائيلي" فلقد سارع الاحتلال إلى نفي علاقته بالانفجار, وحرَض على المقاومة, وطالب بضرورة وبوجوب تفكيك البنى التحتية للحركات المسلحة, وذرف دموع التماسيح على الأبرياء الذين قُتِلوا نتيجة عبث حماس!!! وأرى أنّ "إسرائيل" باتت تنتهج أسلوباً قديماً جديداً وهو التكتم على عملياتها ولا تتبناها وتنفي مسؤوليتها. والمتتبع للشأن الداخلي "الإسرائيلي" يجد أنها تملك دوافع عديدة لتنفيذ مثل هذه الجرائم البشعة بغضّ النظر عن الأسلوب سواء كان عبر الجو أم عبر العملاء في الأرض, من أهمها:

أولاً: إحداث حالة من الفوضى والفرقة بين أبناء الشعب الفلسطيني, وتنغيص حياتهم, وإفقادهم لمعالم الفرحة بالانتصار الجزئي التي أغاظته خلال الشهر الماضيز

ثانياً: توجيه رسالة للفلسطينيين توضح قدرة الاحتلال على تنفيذ ما يريد من بطش وإرهاب إذا لم يخضعوا لسياسته, والتأكيد على أنّ "إسرائيل" ما زالت تتحكم في مصيرهم.

ثالثاً: أرادت الردّ على هدم الحدود بين غزة ومصر والسماح بالتحرك بين البلدين وما صاحب ذلك من إدخال كميات سلاحٍ من قِبَل المقاومة حسب مصادر "إسرائيل", كذلك افتتاح المعبر بشكلٍ رسمي لمدة يومين دون تدخل طرفٍ "إسرائيلي".

رابعاً: تحريض السلطة والجماهير ضدّ حركة حماس والتي تتعرض إلى حملة تحريض دولية بسبب مواقفها ومنهجها المقاوم, وإشعار الجماهير أنّ تأييد حماس يساوي الموت والهلاك والحصار والعذاب والحرمان.

خامساً: اختبار قدرات المقاومة وتهديدها المستمر أنها سترد على العدوان, ومحاولة استقراء نوايا فصائل المقاومة وخاصة حركة حماس في كيفية التعامل مع المقاومة من قطاع غزة بعد التحرير.

سادساً: محاولة الهروب من الأزمة الداخلية للحكومة والأحزاب داخل "إسرائيل", وتصديرها للمجتمع الفلسطيني.

موقف حركة "حماس"

أمّا حركة "حماس" والتي يعنيها الحدث فقد وجّهت الاتهام مباشرة للاحتلال وحاولت أنْ تُقدّم أدلةً وبراهين وشهود عيان وتفسيرات منطقية. وإضافة لأدلة حماس فإننا نعتقد أنّ إمكانية أن تكون "إسرائيل" وراء الموضوع كبيرة جداً بسبب المبررات التي سقناها في موقف "إسرائيل" إضافةً لاعتباراتٍ عديدة من أهمّها:

أولاً: تعرض بلدة "سديروت" الإسرائيلية لصواريخ ظهر يوم الجمعة وبالتالي وجود حالةٍ من الاستنفار في أجواء القطاع وظهور الطائرات العمودية و التجسسية.

ثانياً: كان من المفترض أنْ يكون عرض حماس في جباليا الأخير في قطاع غزة الأمر الذي على ما يبدو لم يرُقْ للاحتلال أن تمرّ كلّ الفعاليات بنجاحات وبدون أخطاء تذكر فقرر ما قرر.

ثالثاً: الانتقام من مخيم جباليا كمنطقة من أكثر مناطق القطاع مرّغت أنف الاحتلال وخاصةً أنّ الاحتفال كان بمناسبة الذكرى السنوية لمعركة "أيام الغضب" التي قادتها حماس وسقط فيها عشرات الشهداء والجرحى, وتمكّنت المقاومة من صد العدوان, وأثبتت عجزه عن مواصلة الاجتياح, فأراد أنْ يصفّي حساباتٍ قديمة من باب أنّه خصمٌ لا ينسى ثأره.

رابعاً: الاستمرار في قصف القطاع, واستهداف مواقع متفرقة لـ"حماس", كان آخرها استهداف سيارتين لكتائب القسام وسقوط شهداء وإصابات, ظهر اليوم السبت 24/9/2005م.

هذه قراءة سريعةٌ للأحداث الأخيرة في قطاع غزة, نأمل أنْ تكون عظةً وموعظة للجميع, والبعد عن الأحكام, والمواقف والسلوكيات التي تعكّر الأجواء الداخلية. والمطلوب من الفلسطينيين لملمة جراحاتهم, وتجاوز هذه الأزمة, التي تتكرّر باستمرار, وتوحيد الرؤى حول ما هو مطلوب, وسبل التعامل مع الوضع الجديد.