المرجعيّة الإنسانيّة
في رواية "أنا مريم" للروائيّة "عنان محروس"

بقلم. الروائي محمد فتحي المقداد

مقدمة:
المرجعيّة أُسٌّ من أسُس الحياة البشريّة، سِمة لكلّ شخصٍ، وما فَعَل، وما حَدَث له، وأحدَثَ فيما بينه وبين خاصّة نفسه، أو بتفاعله الإيجابيّ أو السلبيّ، وما ينتج من ردود الفعل المُعاكسة.
تتعدّد محاور المرجعيّة بتعدُّد الموضوعات والدُّروب والمآلات والنوايا والمقاصد، وللمتوقّف في رحاب النقطة المرجعيّة متأمِّلًا، بسهولة يكتشف ما ذهبتُ إليه بإرساء فكرة المرجعيّة وإطلاقها كعنوان عريض للبشر على مختلف منابتهم وانتماءاتهم.
بهذا المدخل المُبسّط الذي يُعتبر مدخلًا صالحًا للولوج إلى عوالم رواية "أنا مريم" المُنتمية لمرجعيّتها الواقعيّة الاجتماعيّة ببعدها الإنسانيّ، الذي سيطر على مفاصل الحدث الروائيّ، ومُحدّداته المُتشعّبة في تفاصيل حياة أبطالها، ومُخرجاتٍ مختلفة كنتائج سليمة مُتوقّعة سلفًا، وذلك للتشابه الكبير الحاصل في مُعطيات الحياة البشريّة عُمومًا، مع اختلاف الخصوصيّة بكثير أو قليل بين كلّ حالة وأخرى.
حيث اتّخذت الرواية مسارات سرديّة اعتنت بالتحليل الاجتماعي، ودراسة وتجسيد الحياة الإنسانية للفرد والمجتمع المحيط، من خلال تعالقات مُترابطة بتشابكاتها المُعقّدة، من الصّعوبة بمكان فصل إحداها عن الأخرى.
الواقعية الاجتماعيّة في الأدب أصبحت مذهبًا نقديًا منذ عصور سابقة، و(تعتبر أحد أشكال التوجه الواقعي، وقد كان ظهورها بمثابة رد على انتشار الرومانسية، والشاعرية، والمثالية في أوروبا، وهدفت الواقعية الاجتماعية إلى توظيف كل ما يعبر عن الحقيقة والواقع في الأدب، وتجنب استخدام اللغة التصويرية، والتشبيهات، والاستعارات، كما تمتاز الواقعية الاجتماعية أنها تتجنب تزيين اللغة).
وقد ذكر الأستاذ "مفيد نجم": (أثبتت الرواية الواقعية أنها الاتجاه الجمالي الأكثر ديمومة وانفتاحا على التجدد والتطور طوال ما يزيد على ثلاثة قرون من تاريخها الحافل. قابلية هذه الرواية للتطور من داخل فضائها السردي والحكائي بنية وتقنيات ومنظورا سرديا، هو الذي منحها هذه القدرة على الاستمرارية والتجدد، عبر هذا التعاقب الذي عرفته، من الواقعية الطبيعية إلى الواقعية الاجتماعية والواقعية الاشتراكية، وصولا إلى الواقعية السحرية، التي تعدّ الإضافة المهمة التي جاءت من خارج حدود القارة الأوروبية).

العنوان:
جاء العنوان بصيغة الجملة الإسميّة الخبرية المُكوّنة من كلمتين، عبارة هما عن مبتدأ وخبر، فالكلمة الأولى ضمير المتكلّم "أنا"، والكلمة الثانية "مريم" غير المُعرّفة بأداة التعريف "أل". يتبادر للذهن أنّ المُتحدّثة ما دامت تحكي اسمها الذي هو بطاقة تعريفها التي أتت مُنكّرة، التنكير مطلق باتساع دلالاته المُتشابهة مع مثل هذه الحالة. بينما التعريف يكون على حالة مُعينةّ بالضبط.
فالاسم دلالة على الثبوت، والفعل يدل على الحدوث. فكلمة "مريم" منطلق للحدث الروائي بكافّة تعرّجاته. وبذلك تكون ازدواجية الاسم في مثل خصوص هذه الحالة، لتكون إعلان بطاقة الاسم، وفاعل قاد الحدث الروائي. جملة اسمية جاءت بدلالتها كعنوان لتفرد أجنحتها لتدخل في تفاصيل الفعل والعامل النفسية ومؤثراتها، وبذلك يكون العنوان خير من حكى المحتوى السردي، الذي كان بدوره تفسيرًا منطقيا متوافقًا حدّ التطابق مع دلالات العنوان بدقّة حاذقة وذكيّة.

شخصيَّات الرّواية:
السِّياق العامّ للرِّواية يوضّح بشكلٍ جليٍّ: أنّ رواية "أنا مريم" امتداد سرديٌّ طبيعيٌّ لرواية سابقة لــ"عنان محروس" "خُلق إنسانًا"، رغم أنَّ الحدث في رواية أنا مريم مكتمل بذاته، ولكن وردت بعض الإشارات المرجعيَّة الدّّالة على الارتباط الحدث بما سَبَق، وجاء إكمالًا وضَّح الكثير من القضايا التي كانت عالقةً مُؤجَّلةً، خاصَّة النّهايات حيث لم تأت رواية خُلق إنسانًا، لأنّها توقَّفت عند حدٍّ مُعيَّن.
شخصيَّتان رئيستان قادتا الحدث الروائي بأكمله، وامتدَّتا لاستكمال النتيجة المنطقيَّة لحكاية النِّهايات النّاطقة بلسان البدايات. (آدم – مريم) هما هاتان الشَّخصيَّان الرَّئيستان، فمن خلالهما توالد الحدث السَّرديُّ بتسلسله المنطقيِّ بتراتُباتٍ دقيقة، لم تجعل العقدة لتنفلت في ذهن القارئ، وكذلك انبثقت شخصيّات ثانويَّة جاءت كضرورة لتأثيث السَّرد بشكلٍ معقول.
ففي رواية "أنا مريم" لوحظ أنّ الرواية لم تكُن مزدحمة بشخصيَّات كثيرة العدد ممَّا سهَّل خدمة فكرة الرِّواية، وجلَّى بوضوح رسالتها. (آدم ومريم) و (سالم السّائق) والراهبة (كاترينا وأختها)، و (هدى) صديقة مريم من أيام الدراسة، وعند الذهاب لمصحة الأمراض العقلية ظهرت (شخصية الدكتور فهد) والممرضة المغربيَّة الجنسيّة (هند)، ومدير البنك ( شريف)، والموظف في دار النشر (أمين)، والمحامي (سلَّام) صديق لمريم من أيّام الدراسة الجامعية، كان مستشارها القانونيِّ.
بين يدي الرواية:
رواية " أنا مريم" جاءت كخاتمة لنهايات غير سعيدة لاستكمال سيرة "آدم" الشَّخصيَّة التي كانت المحور الأساسيّ للرواية "خلق إنسانًا" التي ابتدأت بسرد طفولته المُعذّبة في ظلِّ بلد مثل لبنان، مزَّقته الحرب الأهلية على امتداد ما يقارب العقدين، طفل التقطته امرأة فاجرة فشغّلته في أعمال قاسية، ما حدث له من تحرُّش وصل إلى درجة الاعتداء عليه، والآثار النفسية التي انسحبت على باقي حياته والآثار النفسيَّة، ومن ثم الهروب من جحيم المرأة التي كان يعتقد أنّها أمّه، ليلتقطه (عماد) شيخ جامع في أحد أحياء بيروت، ويأخذه ليتبنّاه ويعلمه من مكارم الأخلاق وحفظ القرآن، ومتابعة دراسته ليتخرج بشهادة جامعيّة، ويدفعه للعمل في دار نشر، التي يملكها شخص مسيحي نبيل وهو أبو البنت مريم، وسرعان ما يحدث الحبُّ بين مريم وآدم،
وتتكلّل العلاقة بالزواج بين شخصين من ديانتيْن مُختلفتيْن على الرَّغم من معارضة البعض لمثل هذا الزَّواج، يموت الأبوان ويبقى الزوجان (آدم ومريم)، آدم يعود لانحرافات القديمة التي حفرت مساربها في أعماق أعماقه، إلى عالم الخمر والنِّساء، ويترك محبوبته التي عشقها في فترة سابقة تُصارع أحلامها وخيباتها المفاجئة وغير المُتوقًّعة، أن تُحبَّ إنسانًا وتُعطيه كلَّ ما تملك من ثروة ودار النّشر، وتُصدَم بخيانته للأمانة وخيانته الزوجيَّة لها.
رواية "أنا مريم" تستكمل الحدث بمرض آدم العقلي وانفصام الشخصيّة، وإيداعه في مصحّة نفسيّة، وتضحية الزَّوجة "مريم" بالغالي والنَّفيس من أجل شفائه، وتقع في عجز ماديِّ، ممَّا حدا بالدكتور "فهد" لمساومتها ومُراودتها عن نفسها، لمّا تعثَّرت أمورها الماليَّة في سداد مستحقَّات العلاج، وكذلك "شريف" مدير البنك حاول ابتزازها بسبب عدم الإيفاء بتسديد ديونها المُترتّبة عليها للبنك، والموظَّف "أمين" كذلك كان له دور وطموحه في الوصول إليها.
خروج "آدم" من المصحَّة، لتتبيَّن علاقته المشبوهة بالممرضة "هند" التي تعمل في المصحّة، ولتعلم مريم فيما بعد أن زوجها "آدم" لم يكُن مريضًا أبدًا، إنَّما كان مُتمارضًا، وأنّه لم يكن يتعاطى أيّة مُهدِّئات، بل كانت الممرضة تعطيه المكملات الغذائية من المقويات والفيتامينات، لتستمر علاقته بها خروجه، ويتبيّن كذلك أنّ "آدم" سلبها مُدّخراتها من المال.
بعد عودة آدم للبيت رغم الحالة النفسيَّة للزوجة "مريم" فقد حدث بينهما وعلى مضض لقاء زوجي وحيد، أثمر عن حمل لم يتبيَّن حدوثه، إلّا بعد شهرين، حيث حدثت مستجدات متسارعة حدّ الانهيار المُريع. اختفى آدم الزوج، وهروب مريم والاختفاء عند صديقتها القديسة "كاترينا"، ومن ثمّ موت المحامي "سلام" في أميركا، وانهيار أحلام مريم بالسفر إلى أمريكا، ومن موت مريم بعد ولادتها مباشرة، وتترك طفلها بلا أمٍّ ولا أب، تتركه لمصير مجهول كمصير والده آدم، يختفي الطفل الوليد، عندما أخذته امرأة من على جانب الطريق من المكان الذي وضعته فيه الراهبة "كاترينا" لأنها لم تكن لتقوى على تربيته والقيام بنفقاته الكثيرة.
الخاتمة:
من المجهول إلى المجهول، تمتد العذابات لتستحوذ على حياة المظلومين المسحوقين في أسفل القاع الاجتماعيِّ، تنتهي الحروب، وتنسحب بآثارها المُدمِّرة على المستقبل، فتصبغه بالبؤس والفقر والانحراف.
رواية "خلق إنسانًا" ورواية "أنا مريم"، هما رواية واحدة تُمثِّل تراجيديا اجتماعيَّة تقطر أسىً وحُزنًا على أناس لم يكن لهم ذنب إلّا أنهم بشر، أحاطت بهم نار من كلّ اتجاه فكانوا حطبًا ووقودًا لها، تتشابه المآسي بمعطياتها، وتتجدَّد الآلام في نفوس القراء، وتصلهم الرِّسالة الإنسانيَّة المؤثّرة، وأسباب الشّقاء الطويلة التي تستغرق أعمارًا، وتُفني أجيالًا.


عمّان – الأردن
ــــا 10\ 7\ 2022