ــ كل عام و أنت بخير يا جدي...عقبة لمائة سنة .كل عام و أنت بخير
ــ يا حفيدي كما تعلم ،مكثت في هذه الدنيا تسعون سنة وازددت سبعا.
ــ الله يبارك لك في عمرك و ربي يخليك لنا.
تنهد جدي تنهيدة عميقة تَنم عن حسرة و ندم.
ــ لماذا يا جدي هذه الحسرة ؟ ما بك ؟
سكت برهة ثم أردف بصوت مُترهل :
ــ أقراني فقط هم من يفهموني ...لا شك أن أمثالي يتحسرون في هذا العمر.
ــ تقاعدت عن العمل و عمري ستون سنة ، وقتئذ بدا لي أن حياتي انتهت و لم أعد أصلح لشيء، و بتُّ قريبا من القبر...وقتها أشارت علي المرحومة جدَّتك ان افكر في نشاط ما...ضحكت منها و قلت لها : و هل بقي لي ما أعمله و أنا على باب الشيخوخة...لامتني آسفةً: كأني بك تتعجل الرحيل قبل الرحيل...
سعل طويلا ثم واصل يحدثني :
ــ آه لو كنت أعلم أنني سأبقى حيا الى هذا العمرلفعلت الكثير و الكثير..عوضا عن ذلك ... أُبتليت بالإدمان على المقاهي و الجلوس في الساحات العمومية التي يرتادها المتقاعدون يتحدثون عن كل شيء يعيدون على بعضهم ما شاهدوه في التلفاز .. يتحدثون عن الغلاء... نعود الى ديارنا فترة القيلولة و نلتقي من جديد ...كان على حق من أطلق علينا تسمية " الموتى قاعدون " ...في دول أخرى المتقاعدون كانوا يمارسون الرياضة و يتفرغون للأعمال التطوعية ذات المنفعة العامة.. ينقلون تجاربهم الى الاجيال الصاعدة..
عاد اليه سعاله ثم واصل و علامات التعب تظهر عليه:
ومِنا من كان مسؤولا، الكل كان يتقرب منه لكسب وده، محظوظ من كان يعرفه او يعرف من يعرفه ...و لما أُحيل على التقاعد أضحى وحيدا يتسول الصداقة...فتبنًى الشعار: " من التقاعد الى التعاقد مع الله "إذ أصبح من مرتادي المساجد لعله يكفر عما اقترفه من آثام أيام عمله من تهاون و تغيّبات و تماطُل في قضاء حوائج المواطنين....كان قد زين مكتبه بلافتة وضعها تحت صورة رئيس الجمهورية آنذاك كُتب عيها و بخط جذاب :" المسؤولية تكليف و ليست تشريف "...هذه اللافتة المُذهبة أهداها له أحد المتزلفين...ههههه..يا حسرتاه...
نعم يا حفيدي مضت سبعة و ثلاثون سنة منذ تقاعدت أُهدِرت بين المقاهي و الساحات العمومية و على أبواب مكاتب البريد في طابور طويل نستلم منحتنا كل شهر ...و المصيبة أن الشباب حديثي العهد بالحياة العملية كانوا يغارون منا و يتشوّقون الى موعد تقاعدهم ليتفرغوا للتسلية و اللهو...
ــ جدي العزيز ما زالت فيك البركة و يمكن أن تقوم بأشياء و لو بسيطة..
ضحك مني قائلا:
ــ و هل بقي لي من العمر ما أفعله و أنا طاعن في الشيخوخة ؟
قلت له:
ــ أترى ؟..نفس جوابك للمرحومة جدتي تكرره اليوم...
و أضفت مازحا :
ــ قد تنقضي ثلاثون سنة أخرى و تندم على ضياعها..
رد علي مُقهقِهاو هو يتمدد على سريره:
ــ هذه المرة أكيد لم يتبقى لي الكثير لأعيشه...