اشْتَقْتُ إِلَي نَفْسِي فَجِئْتُ أَبْحَثُ عَنْكِ ، أَدسُّ يَدَ الشَّوقِ فِي حَقِيبَةِ الذِكْرَى القَاحِلَةِ إِلا مِنْكِ ؛ أَتَلَمَّسُ فِيهَا أَثَرَ طُهْرٍ أَقْبضُهُ بِكَفِّ الشُّكْرِ لِأَنْفُخَ فِيهِ مِنْ رُوحِ وَفَاءٍ ، وَأَتَحَسَّسُ فِيهَا مَلامِحَ أَدْرَكَهَا القَلْبُ قَبْلَ العَينِ وَأَفْرَدَهَا الحُبُّ فِي مَنَازِلَ لا تَسْتَوي إِلا عَلَى أَنْفَاسِ عِطْرِكِ مُنْعِشِ الرُّوحِ ، وَلا تَرْتَوي إِلا مِنْ وَشْوَشَاتِ دَلالِكِ مُسْكِرِ اللُّبِ بِسُلافِ اللذَاذَاتِ السَّادِرَةِ. جِئْتُ أَبْحَثُ عَنْكِ عَلَى مَشَارِفِ فَجْرِنَا الحَالِمِ بِابِتِسَامَةِ شَوقٍ وَبِنَظْرَةِ تَوقٍ ، أَتَسَكَّعُ عَلَى أَرْصِفَةِ الانْتِظَارِ أَتَأَمَّلُ صَفْحَةَ بَحْرِ مَشَاعِرِكِ تَعْكِسُ عَلَى وَجْهِ القَمَرِ فِي أَعْلَى الأُفُقِ نُورَهُ ، وَعَلَى خَدِّ الدُّرِّ فِي أَسْفَلِ العُمْقِ بَهَاءَهُ فَكَأَنَّ نُورَكِ فِي عَينَيَّ قَدْ عَمَّ وَبَهَاءَكِ فِي قَلِبِي قَدْ تَمَّ. وَأَنَا بِالحُزْنِ السَّادِرِ فِي ذُهُولِ الغِيَابِ لا زِلْتُ أُهَاجِرَ إِلَيكِ فِي مَوَاسِمِ المَشَاعِرِ عَبرَ الخَوَاطِرِ أَبْتَنِي بِالوَهْمِ فَنَارَاتِ أَمَلٍ فِي دَيْجُورِ البَينِ المُقْلِقِ ، وَأَجْتَنِي بِالوَجْدِ مَسَارَاتِ أَلَمٍ عَرِفَتْ كَيفَ تَسْلكُ دَرْبَهَا سَرَبًا إِلَى حَيثُ مَوْطِن الوَجَعِ الدَّفِينِ. وَفِي بِرَاثِنِ الأَلَمِ وَالأَمَلِ أَتَقَلَّبُ فِي الحَيرَةِ الكَأْدَاءِ بَينَ إِقْدَامٍ يُمْلِيهِ قَلْبٌ جَعَلَ الحُنُوَّ أَرَبَهُ ، وَبَينَ إِحْجَامٍ يَكْتُبُهُ عَقْلٌ جَعَلَ الوَقَارَ مَطْلَبَهُ. وَمَا أَعْسَرَ حَالَتِي بَيْنَهُمَا يَا مُنَى العُمْرِ المُسَافِرِ لِلمَغِيبِ ، وَمَا أغْطَشَ وِحْدَتِي!

كُنْتُ خَاصَمْتُ نَفْسِي يَومَ خَاصَمْتُكِ ، وَأَضَعْتُ بِالأَسَى لُغَتِي وَأَنَا أُمَزِّقُ الكَلِمَاتِ وَأَنْثُرُ أَشْلاءَهَا عَلَى ضَرِيحِ المَعَانِي النَازِفَةِ وَجَلاً بِصَمْتِ لِسَانٍ انْكَفَأَ عَلَى عيٍّ يُصِيبُهُ فِي جَنَابِكِ ، وَحَدِيثِ جَنَانٍ اتَّكَأَ عَلَى عِشْقٍ يُصْبِيهِ فِي غِيَابِكِ ، فَيَقْطفَ لَكِ عَنْدَلِيبُ البَّوحِ مِنْ حَدَائِق الرُّوحِ أَجْمَلَ كَلِمَاتِ الغَزَلِ ، ثُمَّ يَسْتَأْمِرُ العَينَ أَنْ تَكُونَ رَسُولَ شَوقٍ لِلقَمَرِ فِي طُقُوسٍ حَالِمَةٍ مِنْ أَبْجَدِيَّةِ الصَّمْتِ وَالصَّخَبِ. تِلْكَ هِيَ لُغَتِي الأَفْصَحُ وَالأَجْمَلُ فِي عَصْرِ زَخْرَفَةِ الحُرُوفِ وَابْتِذَالِ المَشَاعِرِ. أَجَلْ ، رغْمَ فَصِيحَاتِ الحُرُوفِ عَلَى لِسَانِ يَرَاعَتِي يَظَلُّ تَاَمُّلُ جَمَالَكِ فِي هَدْأَةِ الأَسْحَارِ لُغَتِي الأُولَى ، فَللِصَّمْتِ يَا بَهْجَةَ الرُّوحِ حَدِيثٌ هُوَ أَمْتَعُ مَا فِي الوُجُودِ مُمَارَسَةً لِفُنُونِ وَصْلِكِ وَأَرْقَى مَا فِي القَولِ صِدْقًا وَبَلاغَةً لا يَعْدلُهُ فِي المُتْعَةِ إِلا ابْتِسَامَةُ عَينِكِ المُدْرِكَةِ لارْتِجَافَاتِ المَشَاعِرِ فِي شغَافِ وَقَارِ الهَائِمِ حِسًّا والصَّائِمِ نَبْسًا ، وَلا يَفُوقُهُ إِلا الدِّفْءُ الذِي تَبثُّهُ رِقَّتُكِ فِي أَنْحَائِي المُبْتَلَّةِ بِأَمْطَارِ الحَنِينِ ، وَإِغْفَاءَتُكِ بَينَ الجَفْنِ وَالحَدَقَةِ فِي أَحْضَانِ قَلْبِي المُعَتَّقِ بَالأَنِينِ أَمْسَحُ حِينًا عَلَى رَأْسِكِ بِكَفِّي الوَانِيَةِ ، وَتَمْسَحِينَ أَحْيَانًا عَنْ رُوحِي الكَدَرَ بِكَفِّكِ الحَانِيَةِ فِي طُمَأنِينَةٍ وَسُكُونٍ.

نَقِيَّةٌ أَنْتِ كَمَا أَنْتِ ، مَا يَكَادُ يَشُوبُكِ كَدَرُ عَتَبٍ حَتَّى يَجْلُو بِلَورَ قَلْبِكِ الدُّرِّيُّ نُورُ صَفَاءِ وُدِّكِ وَخُيُوطُ نَقَاءِ سَجِيَّتِكِ وَأَخْلاقٌ شَفَّافَةٌ تَنْسجُكِ فَرِيدَةً فَكَأَنَّكِ مِنْ عَجِينَةِ الشَّمْسِ جُبِلْتِ ، وَمِنْ مَاءِ الكَوثَرِ سُكِبْتِ ، وَقَامَتْ فِيكِ الرُّوحُ مقَامَ الأَطْيَافِ النُّورَانِيَّةِ فِي العَوَالِمِ العُلْوِيَّةِ تَسْبَحُ بَينَ طَاعَةٍ وَقَنَاعَةٍ وَبَينَ حُبٍّ وَاجْتِبَاءٍ. كُلَّمَا أَرْسَلْتُ رَسُولَ رُوحِي لِتَحُومَ حَولَكِ وَتَتَأَمَّلُ قَسَمَاتِ وَجْهِكِ الرَّزِيْنِ أُدْرِكُ أَنَّ تَرَاتِيلَ الحُبِّ لَنْ تَقْضِيَ مِنَ الوجْدَانِ وطْرًا ، وَأَنَّ مَعَانِي الغَزَلِ عَلَى شُرُفَاتِ أَنَاقَتِكِ تَتَلَعْثَمُ فِي عَوَالِمِ الدَّهْشَةِ بَينَ هَمْهَمَاتٍ تَسْتَنْطِقُ مِنْ كَلِمَاتِ العَينِ وَمَهْمَهَاتٍ تَسْتَغْرِقُ فِي عَينِ الكَلِمَاتِ لاسْتِقرَاءِ كَيْنُونَةِ المَعَانِي المُبْهَمَةِ واسْتِجْلاءِ صَدَى الإِيمَاءَاتِ المُلْهِمَةِ. وَأَنَا فِي احْتِدَامِ مَرَاسِم انْشِغَالاتِي بِكِ أَبْحَثُ عَنْ نَفْسِي فِي نَفْسِي فَأَجِدُهَا فِي الجَسَدِ غَرِيبَةً وَقَدْ أُسْكِنْتِ مَسَامَاتِهَا وَجَرَيتِ فِي خَلايَاهَا دَمًا زَكِيًّا وَأَقَمْتِ فِي المَآقِي صَرْحَ طَيفِكِ شَامِخًا وَسَكَبْتِ رَحِيقَ عِطْرِكِ حَائِمًا فِي القَلْبِ وَالرُّوحِ. وَأَجِدُنِي بِدُونِكِ أَلُوكُ مِنْ نَبَاتِ الشُّجُونِ صَابًا وَأَجْرَعُ مِنْ بَنَاتِ العُيُونِ صَبَابَةً مَسَافِرًا بِهَا إِلَيكِ فِي دُرُوبِ التِّيهِ وَبِيدِ الغُرْبَةِ لا رَاحِلَةً تُقِلُّ وَلا قَدَمًا تَكِلُّ وَلا نَجْمًا يَدِلُّ وَلا أَمَلًا يَملُّ وَلا يَأْسًا يَشُلُّ وَلا مَاءً يَعلُّ وَلا فَيْئًا يُقِيلُ.

فَيَا مُنَى القَلْبِ وَالحُبِّ وَالدِّفْءِ وَالحَنِينِ ، يَا مُوسِيقَى القِيثَارَةِ الحَالِمَةِ فِي حُلُمِي الطُفُولِيِّ المُمْتَدِّ مِنْ إِرْهَاصَاتِ عَناقِيدِ رَبِيعِي الفَجِّ حَتَّى بَقَايَا أَعْنَابِ خَرِيفِي النَّاضِجِ ، إِنِّي أَنَا ذَلِكَ الطَّيرُ المُحَلِّقُ فِي سَمَاءِ المَسَافَاتِ أَقْتَرِفُ خَطِيئَةَ البَحْثِ عَنْكِ وَالحِرْصِ عَلَيكِ أَفْرِدُ أَجْنِحَتِي حَانِيَاتٍ فِي فَضَاءَاتِ عَالَمِكِ المُغْرِقِ فِي دَيْمُومَة الوَجَعِ لا لأَسْرِقَ مِنْكِ ضُوءَ الشَّمْسِ بَلْ لأَمْنَحَكِ ظِلَّ النَّفْسِ ، وَأَحْتَوِي بِالابْتِهَالِ لِرُوحِكِ رَجفَاتِ قَلْبِكِ المُرْهَقِ بِعَذًابَاتِ السِّنِين. وَحِينَمَا تَتَقَلَّبُ الرِّيحُ فِي مَسَارَاتِهَا تَنْقَلِبُ لَكِ الرُّوحُ فِي مَدَارَاتِهَا تَحُومُ حَولَكِ قُطْبًا بَلْ مَجَرَّةً لَهَا سَبْعُ شُمُوسٍ مِنْهَا تَسْتَمِدُّ ضِيَاءَهَا وَلَهَا تَمْنَحُ من دِفْئِهَا. فَاعْذُرِينِي يَا نَكْهَةِ الحُبِّ فِي زَمَنِ نَزْفِ الجِرَاحِ ، وَعَلِّمِينِي كَيفَ أَصْنَعُ مِنْ بَقَايَا ذِكْرَيَاتِ العُمُرِ وَمِنْ نَزْفِ الجِرَاحَاتِ إِكْسيرَ غَدٍ أَجْمَل نَبْحَثُ فِيهِ عَنْ عَالَمِ الصَّفْحِ الرَّحِيبِ ، وَعَنْ صُبْحٍ يَحْمِلُ نَجْوَى البِشَارَاتِ وَيُزَيِّنُ وَجْهَ البشَاشَاتِ بِأَلْوَانِ الذِّكْرَى وَالوُدِّ وَالحَنِينِ.

اشْتَقْتُ إِلَي نَفْسِي فَجِئْتُ أَبْحَثُ عَنْكِ ، وَعِنْدَ مَشَارِفِ الفَجْرِ المَاثِلِ شَوْقًا سَيَظَلُّ دَوْمًا لِلعَاشِقِينَ لِقَاءٌ.