أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: ارتعاشة آخر ليلة / قصة قصيرة

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي ارتعاشة آخر ليلة / قصة قصيرة

    ارتعاشة آخر ليلة

    يرتجف المدى في أعماقه، ينحدر إلى مساحات أنفاسه، يتسلّل إلى زوايا حادّة، ضاقت بعتمة الأزمنة وجفاف المكان، عتمة تغازل انطفاء المصابيح، تلقي بعباءتها فوق الضوء الشحيح المندلق من نافذة مرتعشة بالصدأ، روحه التائقة للتحرر من قبو سنين الأسر تمخرالعتمة، تسرج لهاثاً مثخناً برائحة الانتظار، قاب نبضة قلب عليل أو أدنى من شهقة عاشق، فيشهد انطفاءة سنوات العزلة، ما هي إلّا ليلة وينضوي في هدأة البوح، بوح مبلّل بندى يشبه الدمع. محطات وجع وألم غادرته، لكنّها نهشت ملامحه، هصرت قلبه هصراً بأنياب الحنين والقلق والخوف، الحلم بمداه اللامتناهي يتشكّل حقيقة عند ظلال الرؤية، لم ينم تلك الليلة، أنّى يأتي له النوم وقد طال الغياب؟ تطاولت عيناه نحو آفاق مطرّزة بالنقاء، تضوّع شرك الجنون دون وعي، حلّق بعيداً في سماء قِطافه، يحفي به خيط من نور تسلّق وهجه،أطلق أنفاس اللهفة بقدر السنين وأيامها وكلّ عذاباتها، عانق كلّ شيء في دربه، الأشجار، المارّة، أرصفة الطرق التي احتضنت خطواته بالأمس، استأنس بصدى مُتخيّل لصوت وليده الذي لم يرَه، صدى يترقرق كماء عذب في نهر ذاكرته، ماهي ملامحه؟هل يشبهني أم يشبه أمّه ؟هوى في لجّة اللقاء، يتدارك دمعة صفعت وجه الأقدار، دمعة تشهق بأحلامه المفقودة على ضفاف وطن تعثّر بغيابه، زوجة هناك أسيرة وحدتها، مسكونة بترقّب مدمّر، تجوب قصور الصمت، تذرع مسافات الألم والحنين، حالمة بفضّ معالم غربتها، يراها مع الصباح المضيء بما تبقى من أحلام تفتح ذراعيها عن بعد ظمأى للعناق، سرت في جسده رعشة هيام من مسّ جبهة صبرها، نشوان يرفل بدفء أنفاسها، صدى ولده لم يكن كما تخيله، كان صراخاً موجعاً يرتجف بغصّة أيام خلت، أيام صُلبت على جدار الخوف ووحشة الظلام . صدمته الذاكرة بأنين الموتى، جثث ممزّقة تُركت منسيّة عند حافة حرب قذرة قبل وقوعه في منفى الأسر، كان المجهول يحدّق بشراسة في وجوه أتعبتها الأسفار وهول الجحيم، كانت الأرض تلتهب ناراً، والسحب تمطر وابلاً من حمم بركان يفور بشهوة الموت، الأجساد الملتحفة بغطاء البقاء تنتظر موتاً من نوع آخر، حينها صار الوطن أرقاً، وفي صحراء الحرب الشاسعة كان الجنود يلوذون بظلال أنفسهم، وظلال أدعية تنطلق إلى السماء. كم من وجوه بريئة غيّبها عبث جنرالات الموت ونزق الذئاب الماكرة،
    " آه لشدّ ما عذبني رعب الحرب وانهكتني سنوات الانتظار"
    كتم زفرات لوعته حين أعياه غياب ملامح رفاقه إلى الأبد، احتضن ماتبقى من أرواحهم، صدى أحاديثهم، ذكرياته المتوهجة بزينة الدمع وصهيل الوجع، كانت مرايا تلك الليلة تستغرق كلّ كنوز الترقب والذكرى، كان عليه أن لاينسى امرأة تتأهب في ظلّ انتظار حارق مع ابنهما لترقد تحت قبة ظلّه، ها هما يحدّقان بعينين نهمتين في وجهه اللامع بانعطافات العزلة، عبر نافذة خرائب الوحدة وحيرة الطفولة المقتولة قرباناً لآلهة الحرب. التهم الليل صراخه المخنوق في أعماق صمته. ليلة تمتدّ بقدر سنواته الموحشة، التهمه الحنين، تهرع إليه الأعين والنظرات المرتعشة، ممتشقة وجه الفجر، يسمع صوتها من بعيد، شعرها ينسدل على ذراعيه فيغمزعطرُها أنفاسَه بجنون الرغبة، أنوثتها تطرق باب القلب، تضيء بانشودة الحرمان:
    "آه أما لليل من منتهى؟ "
    ارتشف نبيذ ما تبقى من وهم الزمن المعتّق بجمر الاغتراب، يتلو صمت المنافي الشقية على تخوم الجوع والحرائق والحرمان:
    " أ ترى يأزف قبل موتي ذلك اليوم السعيد، يوم ألقى بالصلاة والنشيد، فأضمّ قلبي إليها، وعلى الصدر تمثالاً لربّي أقيم، أسقيه درر الحلم وعطر الياسمين ... أترى القاكِ هدى؟! أم يبقى ردّي شارة للغابرين، يحكي انتظاري في جنون للبحر والمبحرين؟"*
    حدّق في وجه السماء أكثر من مرّة، ما يزال الليل يرقد عند ساعاته الأولى، لم يكن منه إلاّ أن ينشطر شطرين، شطرمجنون بالعشق واصل المسير، يلهث بخطواته نحو روحه التي هجرها، وشطر آخر يعاني من ثقل الانتظار.

    *نادر هدى/ مملكة الجنون (مجموعة شعرية)

  2. #2
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    تلسعنا عقارب الساعة في لحظات الانتظار ليسري سمها في احلامنا فنعيش ألم الحقيقة
    وصف دقيق للمشاعر بفكرة عميقة وحرف جميل
    قصة مؤثرة و جميلة
    بوركت وكل التقدير

  3. #3
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت خلود محمد جمعة
    شكراً لكرم مرورك على النص، مثمناً رؤيتك وبهاء كلماتك... دمت لنا أختاً عزيزة.

  4. #4
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    يقبعون هناك في أقبية الأسر ويعانون ما يعانون!
    قصّة إنسانيّة وصفت المعاناة والقهر في الأسر
    قاصّ ما هر متمكن.. ولغة قويّة معبّرة بصورها وتراكيبها
    بوركت
    تقديري وتحيّتي
    (عذرا ما المقصود هنا: "وعلى الصدر تمثالاً لربّي أقيم، أسقيه درر الحلم وعطر الياسمين ؟"

  5. #5
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت العزيزة كاملو بدرانة
    أشكر لك حضورك ومثمناً إعجابك... المقصود ب [ وعلى الصدر أقيم ، هي كناية عن القلب... تمثالاً لربي أقيم ( الشكر والحمد له ) لأسقيه أجمل ما يليق بجلاله سبحانة وتعالى)... خالص التقدير لك.

  6. #6
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    نص إبداعي، برع فيه السارد بالغوص عميقا في الحوار الداخلي للشخصية، سابرا غور صراعها تفاعلا مع محرشات الفعل والفكر وتأثيرا فيه، بأداء متقن وبراعة في رسم التفاصيل الحدثية ومعطيات المؤثر الخارجي ...
    تمكن سردي لافت، وقدرة عالية على تمكين الحبكة وتوزيع خيوطها..

    راق لي ما قرأت هنا أديبنا
    لحرفك الألق

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  7. #7
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت ربيحةالرفاعي
    دام حضورك البهي... زانك الله رفعة وعلواً .

  8. #8
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي الكمبارس / قصة قصيرة

    الكُمبارس

    هناك حيث مقاهي الظلّ، ضجيج أسى وأحلام يقظة تحلّق في مستنقعات يابسة، منفعلة بأوهام التخيلات، ثمة مقهى تقع في طرف زقاق منسي، تعجّ بالحالمين، ينتظرون إطلالة مندوب أستوديو الإنتاج كلّ يوم، علّه يشير بسبابته على أحدهم؛ ليؤدي دوراً صغيراً في فلم، أو دوراً هامشياً على خشبة المسرح، أي دور كان، خليفة، تاجراً، سكّيراً، مليونيراً، جندياً، أي دور حتى لو كان قوّاداً، كانوا مهووسين بالسينما، يتقاضون أقلّ الأجور ليسدّوا رمق الإملاق، لا أحدّ منهم يستطيع الفكاك من أسر العيش في الظلّ، يتنفسون أحلامهم خلف الكواليس، إلّا هو، كان يحلم أن يكون نجماً، لكنّه لم يفلح، كان منسيّاً، منفياً، يفكّر في تزيين صومعته، قابعاً في صمته، محدّقاً في سقف الزمن، يرمي حجراً في الفراغ، يتوسّل أحلامه لمّا بدا يجوس قتامة الخريف. يطلّ على عالمه المنتظر من ثقب إبرة، يرتدي ثوب الكُمبارس منذ عشرين عاماً، يمتطي الحلم حصاناً في ميدان المتاهة والضياع. كثيرون فتحت لهم أبواب السماء، اعتلوا صهوة المجد صدفة، وآخرون لفّهم نسيج العنكبوت ليخوضوا في وحل النسيان. يفتضّ صوتُ أحدهم صمته:
    - الريجسير قادم.
    تشرئب الأعناق، الأبصار تمتدّ نحو باب المقهى، تنطلق الأحلام مرفرفة بأمل دور صغير، بيد أنّه تجاوز الجميع، أسمع وقع خطواته، أتوكّأ على التفاتة أمل، تتهودج نظراته فوق ملامحي، رعشة تسري في جسدي، أتأرجح على خيط نور، فأنا ما زلت وسيماً، حاذقاً، أتقنت كلّ الأدوار المذلّة، تلقيت صفعات وسباب حتى لامسني الجنون، يأسرني الصوت:
    - أنت .
    أرتكن إلى نرجسة الروح؛ كي لا أنطفئ، مختلطاً بتلة من الهواجس، لأبقى صامتاً رغم دهشة الحضور، حدّق الرجل في وجهي مبتسماً على غير عادته، يتفرّس ملامحي، وكأنّه يمعن النظر في مرآة لم يرها من قبل، جلس لصقي، ناولني حزمة من الورق، أكبحُ استغرابي، لهفتي، لمعرفة الدور، أفكر بقلق شديد، عشرات الأدوار أسندت إليّ، لم تتجاوز جملة، جملتين، مشهداً صغيراً، مشهدين، فما بال هذه الأوراق؟. يقدّ صمتي بصوت أقرب للهمس:
    - أنت محظوظ، ستؤدي دور البطولة هذه المرة أمام " كاميليا"، لا تبرح مكانك.
    " الكُمبارس" عنوان جميل، يسرق ابتسامة شفيفة من شفتيه الملتهبتين بالصمت، يبدو أنّي ما زلت على قيد الحياة ، تنفتح له كوة، يطلّ على مقهى النجوم، ينظر عبر الممر المؤدي إلى معبد الجمال، معبد منثور بأزهار النرجس، ينثّ سحراً، تظهر له كاميليا بكامل زينتها، كانت تنتظره، يحدّق فيها، يشمّ عطرها عن بعد، يتشربه بعمق، يغرق فيه ثملاً. ابتسامتها، شفتاها المنقوعتان بماء الورد، بياضها، يجرح شغاف قلبه، يبهج حواسه، سأقيم عزاءً لكلّ ذكرياتي النابضة بالجفاف على شرفة رقّتها، شرفة مغطّاة بالنرجس وزنابق الدفء، وأمارس بعض جنوني في جلال يليق بروحي التائقة للتوهج، سأتهدّج في البروفة كما نسمة صيف على ضفة جدولها، ستعشق كمبارساً أتقن دوره شغفاً ببريق عينيها، أكاد أقترب منها، أختلس همسة عطرها، أتعرى شوقاً لأنفاس رعشتي، سرور وحشي ينتابني، تستعر فتنتها، تحتلّني ابتسامتها، أرتعد من ذات الصوت:
    - الريجسير قادم.
    أهرع إلى باب المقهى، الحالمون يحلّقون حول فجر أمنية، يطاردون حلماً ضبابي البهجة، يَتْلون رغبات بسيطة، مندوب أستوديو الإنتاج يحرث ملامح الحضور بنظراته، يشير إلى أحدهم بطرف سبابته، تنطلق السيارة وسط ذهولي، العرق يتصبّب من جبهتي، أرتطم بوجه الحيرة، ألتفت إلى يمين الوجع، أحدّق في اللافتة المنتصبة وسط الجدار، أقرأ حروفها بالمقلوب "مقهى النكرات"، أغرق في صمت يبوح بالدموع، يسكرني كأس الخيبة، ينخر فاكهة الخيال،
    " هل الحلم خرافة؟، أيمكن أن يكون حقيقة ذات يوم؟ ". قهقه بصوت عالٍ،
    " أنّى للثمل أن يحلم ولمّا يتبيّن الخيط الأبيض من خيط النسيان؟".
    يمضي وحيداً في أساه، يحصي تخوم الذكريات، تتزاحم خلفه أزمنة شائهة، كان الطريق أضيق من خطواته.

  9. #9
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,124
    المواضيع : 317
    الردود : 21124
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    بلغة قوية إلى حد الإبهار ، وببلاغة طاغية تأسر القارئ وتمسك بتلابيبه
    في نص يتميز بنكهة خاصة، وبطابع متميزحيث يعيش بطل القصة آخر
    ليلة في غياهب السجن ـ ويعيش البطل لحظة انشطار ذاتي بين مد الحاضر وجزر الماضي،
    فالحاضر يجثم بكل تقله على صدره في غياهب سجون الأسر ومستقبل مفعم بالأمل
    للقاء الإبن والحبيبة، فالإبن لم يستطع حتى تصوره كيف هي صورته؟!
    وتذهب روحه مفعمة بالأمل والشوق للقاء زوجته وإبنه.
    لوحة مرسومة بريشة الحرف والإبداع
    دام ألق حرفك المعتق.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


المواضيع المتشابهه

  1. ارتعاشة _ عاهد الشريف
    بواسطة عاهد سليم الشريف في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 05-04-2017, 06:41 PM
  2. ليلة صابر الأخيرة - قصة قصيرة
    بواسطة عماد هلالى في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 23-01-2017, 03:52 AM
  3. ليلة من ألف ليلة و ليلة
    بواسطة المختار محمد الدرعي في المنتدى الأَدَبُ السَّاخِرُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-09-2015, 08:46 PM
  4. ليلة بألف ليلة وليلة (قصة حب اسطورية)
    بواسطة محمود ابوعواد في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 30-10-2008, 01:21 PM
  5. ارتعاشة القلم
    بواسطة وفاء شوكت خضر في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 41
    آخر مشاركة: 13-07-2008, 12:29 PM