نظرات فى رسالة التوابع والزوابع
مؤلف الرسالة هو ابن شهيد الأندلسي والرسالة عبارة عن تخيلات مستحيلة بناء على مقولة أن وادي عبقر من أمسى ليلة فيه اتاه شاعر أو شاعرة من الجن تلقنه الشعر،وإن كل شاعر جاهلى كان له قرين من الوادي يلقنه الشعر مثل لافظ بن لاحظ صاحب امرؤ القيس وهبيد بن الصلادم صاحب عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم الأسدي وجالد بن ظل صاحب عنترة بن شداد
تطرح الرسالة عدة أسئلة :
السؤال الأول هل يجوز للمسلم شاعرا أو ناثرا أن يبنى كتابا على مقولة باطلة؟أى بألفاظ أخرى هل يجوز للمسلم ان يشيع الخرافة فى المجتمع ؟
إجابة السؤال هو أن المسلم عليه ألا يشيع الأباطيل فى المجتمع لأن البعض بمجرد ان يقرأ كتابا قد يعتقد ما فيه رغم أنه أكذوبة لقصر علمه أو بثقته فيمن كتبه ولذا قال تعالى :
"اتقوا الله وقولوا قولا سديدا"
وقد حرم الله إشاعة أى نوع من الفواحش فى المجتمع فقال :
"إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين امنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والاخرة"
السؤال الثانى ما هو التخيل المشروع للشاعر أو الناثر؟
إجابة السؤال يجوز للمسلم الشاعر أو الناثر تخيل أى شىء لا يعارض اية من كتاب الله ولا يجوز له أن يبنى كتابه على شىء باطل أو محال ومن أمثلة هذا حاليا ما يسمى بحروب النجوم أو تصغير أو تكبير المخلوقات بدرجة عظيمة أو بوابات الزمن
الشىء الباطل يمكن بناء كتاب عليه ولكنه يكون كتابا نقديا للباطل او يبين كيف تم ولادة الخرافة فمثلا دين الاغريق وأساطيره مثل التى تقوم على ولادة أطفال بشرية من الهة مزعومة تجامع بشرا
على أحد ما أن يبين أن الالهة المزعومة كانت بشرا يقومون باغتصاب النساء أو الزنى معهن وللخروج من العقاب كانوا يزعمون حكايات الجماع المزعومة
وقبل الشروع فى مناقشة ما جاء بالرسالة أقول أن هدف ابن شهيد من الرسالة ليس بث علم أو تعريفنا بشىء مفيد وإنما هو استعراض مقدرته النثرية والشعرية فى معارضة الكتاب والشعراء وهو قى سبيل ذلك لا يستحى من القول فى المحرمات من خمر ونساء كما قال من يعارضهم
وهذا النوع من الرسائل سبقه إليه عديدون أشهرهم أبو العلاء المعرى وقد ألف عدة رسائل منها رسالة الغفران ورسالة الملائكة وتبدو رسائل المعرى رغم قيامها على خرافات كصك الغفران وإدخال الجاهليين الجنة رسائل لها هدف فالرجل يستعرض فيها أراء نقدية فى علوم مختلفة كالنحو والصرف وغيرهم فهو رجل يريد انتقاد أخطاء وأما التوابع والزوابع فليس فيها شىء من النقد لأى شىء
استهل ابن شهيد الرسالة بالقول أن شيطانه هو زهير بن نمير وحكى كيف ظهر له عندما ماتت حبيبته وارتج عليه فى رثاءها فقال:
"لله أبا بكر ظن رميته فأصميت، وحدس أملته فما أشويت أبديت بهما وجه الجلية، وكشفت إن غرة الحقيقة، حين لمحت صاحبك الذي تكسبته ورأيته قد أخذ بأطراف السماء، فألف بين قمريها، ونظم فرقديها، فكلما رأى ثغرا سده بسهاها، أو لمح خرقا رمه بزباناها، إلى غير ذلك فقلت: كيف أوتي الحكم صبيا، وهز بجذع نخلة الكلام فاساقط عليه رطبا؛ أما إن به شيطانا يهديه، وشيصبانا يأتيه وأقسم أن له تابعة تنجده، وزابعة تؤيده، ليس هذا في قدرة الإنس، ولا هذا النفس لهذه النفس فأما وقد قلتها، أبا بكر، فأصخ أسمعك العجب العجاب: كنت أيام كتاب الهجاء، أحن إلى الأدباء، وأصبو إلى تأليف الكلام؛ فاتبعت الدواوين، وجلست إلى الأساتيذ، فنبض لي عرق الفهم، ودر لي شريان العلم، بمواد روحانية، وقليل الالتماح من النظر يزيدني، ويسيير المطالعة من الكتب يفيدني، إذ صادف شن العلم طبقة ولم أكن كالثلج تقتبس منه نارا، ولا كالحمار يحمل أسفارا فطعنت ثغرة البيان دراكا، وأعلقت رجل طيره أشراكا، فانثالث لي العجائب، وانهالت علي الرغائب وكان لي أوائل صبوتي هوى اشتد به كلفي، ثم لحقني بعد ملل في أثناء ذلك الميل فاتفق أن مات من كنت أهواه مدة ذلك الملل، فجزعت وأخذت في رثائه يوما في الحائر، وقد أبهمت علي أبوابه، وانفردت فقلت:
تولى الحمام بظبي الخدور، وفاز الردى بالغزال الغرير
إلى أن انتهيت إلى الاعتذار من الملل الذي كان، فقلت:
وكنت ملتك لا عن قلى، ولا عن فساد جرى في ضميري
فأرتج علي القول وأفحمت،فإذا أنا بفارس بباب المجلس على فرس أدهم كما بقل وجهه، قد اتكأ على رمحه، وصاح بي: أعجزا يا فتى الإنس؟ قلت: لا وأبيك، للكلام أحيان، وهذا شأن الإنسان! قال لي: قل بعده:
كمثل ملال الفتى للنعيم، إذا دام فيه، وحال السرور
فأثبت إجازته، وقلت له: بأبي أنت! من أنت؟ قال: أنا زهير ابن نمير من أشجع الجن فقلت: وما الذي حداك إلى التصور لي؟ فقال: هوى فيك، ورغبة في اصطفائك قلت: أهلا بك أيها الوجه الوضاح، صادفن قلبا إليك مقلوبا، وهوى نحوك مجنوبا وتحادثنا حينا ثم قال: متى شئت استحضاري فأنشد هذه الأبيات:
والي زهير الحب، يا عز، إنه إذا ذكرته الذاكرات أتاها
إذا جرت الأفواه يوما يذكرها يخيل لي أني أقبل فاها
فأغشى ديار الذاكرين، وإن نأت أجارع من داري، هوى لهواها
وأوثب الأدهم جدار الحائط ثم غاب عني وكنت، أبا بكر، متى أرتج علي، أو انقطع بي مسلك، أو خانني أسلوب أنشد الأبيات فيمثل لي صاحبي، فأسير إلى ما أرغب، وأدرك بقريحتي ما أطلب وتأكدت صحبتنا، وجرت قصص لولا أن يطول الكتاب لذكرت أكثرها، لكني ذاكر بعضها"
وبالقطع البيت:
كمثل ملال الفتى للنعيم، إذا دام فيه، وحال السرور"
هو تكذيب لله فى القول أن الجنة وهى النعيم لا ملل فيها كما قال تعالى "لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون"
فالملل هو نوع من السوء والحزن وهو لا يصيب من فى نعيم الله
ثم حكى الرجل أنه جالس زهير الجنى يوما وهو أمر محال لأن النبى(ص) نفسه لم يجالسهم رغم أنه رسول من الله لهم وأنه هم من سمعوه يتلو القران فذهبوا فاخبروا قومهم بالرسالة الجديدة ولم يعرف ذلك إلا بعد أنه اخبره الله باستماعهم للقران فقال " قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرانا عجبا يهدى إلى الرشد فامنا به ولن نشرك بربنا أحدا"
تجالس الجنى والإنسى وتكلما فطلب الإنسى من الجنة أن يجعله يقابل شياطين الشعراء والكتاب فى أرض الجن فأخبره الجنة أنه لا يستطيع أن يفعل هذا إلا بعد استئذان شيخ الجان ومن ثم تركه وأخذ الإذن له فذهبا وقابلا من ذكرهم ابن شهيد فيما يلى:
"تذاكرت يوما مع زهير بن نمير أخبار الخطباء والشعراء، وما كان يألفهم من توابع والزوابع، وقلت: هل حيلة في لقاء من اتفق منهم؟ قال: حتى أستأذن شيخنا وطار عني ثم انصرف كلمح بالبصر، وقد أذن له، فقال: حل على متن الجواد فصرنا عليه؛ وسار بنا كالطائر يجتاب الجو فالجو، ويقطع الدو فالدو، حتى التمحت أرضا لا كأرضنا، وشارفت جوا لا كجونا، متفرع الشجر، عطر الزهر؛ فقال لي: حللت أرض الجن أبا عامر، فبمن تريد أن نبدأ؟ قلت: الخطباء أولى بالتقديم، لكني إلى الشعراء أشواق قال: فمن تريد منهم؟ قلت: صاحب امرئ القيس فأما العنان إلى واد من الأدوية ذي دوح تتكسر أشجاره، وتترنم أطياره، فصاح: يا عتيبة بن نوفل، بسقط اللوى فحومل، ويم دارة جلجل، إلا ما عرضت علينا وجهك، وأنشدتنا من شعرك، وسمعت من الإنسي، وعرفتنا كيف إجازتك له! فظهر لنا فارس على فرس شقراء كأنها تلتهب، فقال: حياك الله يا زهير، وحيا صاحبك أهذا فتاهم؟ قلت: هو هذا، وأي جمرة يا عتيبة! فقال لي: أنشد؛ فقلت: السيد أولى بالإنشاد فتطامح طرفه، واهتز عطفه، وقبض عنان الشقراء وضربها بالسوط، فسمت تحضر طولا عنا، وكر فاستقبلنا بالصعدة هازا لها، ثم ركزها وجعل ينشد:
سما لك شوق بعدما كان أقصرا
حتى أكملها ثم قال: لي: أنشد؛ فهمت بالحيصة، ثم اشتدت قوى نفسي وأنشدت:
شجته معان من سليمى وأدؤر "
هنا قابل تابع امرؤ القيس وهو عتيبة بن نوفل وهو ما يعارض المعروف من كونه لافظ بن لاحظ وتبادلا الأشعار ثم قالا شيطان اى تابع طرفة ابن العبد عنتر بن العجلان وتبادلا الأشعار وفى هذا قال :
"فقال لي زهير: من تريد بعد؟ قلت: صاحب طرفة فجزعنا وادي عتيبة، وركضنا حتى انتهينا إلى غيضة شجرها شجران: سام يفوح بهارا، وشحر يعبق هنديا وعارا فرأينا عينا معينة تسيل، ويدور ماءها فلكيا ولا يحل فصاح به زهير: يا عنتر بن العجلان، حل بك زهير وصاحبه، فبخولة، وما قطعت معها من ليلة، إلا ما عرضت وجهك لنا! فبدا إلينا راكب جميل الوجه، قد توشح السيف، واشتمل عليه كساء خز، وبيده خطي، فقال: مرحبا بكما! واستنشدني فقلت: الزعيم أولى بالإنشاد؛ فأنشد:
لسعدى بحزان الشريف طلول
حتى أكملها، فأنشدته من قصيدة:
أمن رسم دار بالعقيق محيل
وممن قابلهم أبو الخطار صاحب قيس ابن الخطيم ومن أقواله فيه:
" فقال لي زهير: إلى من تتوق نفسك بعد من الجاهليين؟ قلت: كفاني من رأيت؛ اصرف وجه قصدنا أبي تمام فركضنا ذات اليمين حينا، ويشتد في إثرنا فارس كأنه الأسد، على فرس كأنها العقاب، وهو في عدوه ذلك ينشد:
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر، لها نفذ، لولا الشعاع، أضاءها
فاستربت منه، فقال لي زهير: لا عليك، هذا أبو الخطار صاحب قيس ابن الخطيم فاستبى لبي من إنشاده البيت، وازددت خوفا لجرأته، وأننا لم نعرج عليه فصرف إليه زهير وجه الأدم"
وممن قابلهم شيطان أبى تمام عتاب بن حبناء حيث تبادلا الأشعار وفيه قال:
"ثم انصرفنا، وركضنا حتى انتهينا إلى شجرة غيناء يتفجر من أصلها عين كمقلة حواء فصاح زهير: يا عتاب بن حبناء، حل بك زهير وصاحبه، فبعمرو والقمر الكالع، وبالرقعة المفكوكة الطابع، إلا ما أريتنا وجهك! فانفلق ماء العين عن وجه فتى كفلقة القمر، ثم اشتق الهواء صاعدا إلينا من قعرها حتى استوى معنا فقال: حياك الله يا زهير، وحيا صاحبك! فقلت: وما الذي أسكنك قعر هذه العين يا عتاب؟ قال: حيائي من التحسن باسم الشعر وأنا لا أحسنه فصحت: ويلي منه؛ كلام محدث ورب الكعبة! واستنشدني فلم أنشده إجلالا له، ثم أنشدته:
أبكيت، إذ طعن الفريق، فراقها
....فقال: إن كنت ولا بد قائلا، فإذا دعتك نفسك إلى القول فلا تكد قريحتك، فإذا أكملت فجمام ثلاثة لا أقل ونقح بعد ذلك، وتذكر قوله:
وجشمني خوف ابن عفان ردها، فثقفتها حولا كريتا ومربعا
وقد كان في نفسي عليها زيادة، فلم أر إلا أن أطيع وأسمعا
وما أنت إلا محسن على إساءة زمانك فقبلت على رأسه، وغاص في العين"
ثم قابل أبو الطبع صاحب البحتريمع أنه أراد مقابلى صاحب أبو نواس فقال :
"ثم قال لي زهير: من تريد بعده؟ قلت: صاحب أبي نواس؛ قال: هو بدير حنة منذ أشهر، قد علبت عليه الخمر، ودير حنة في ذلك الجبل وعرضه علي، فإذا بيننا وبينه فراسخ فركضنا ساعة وجزنا في ركضنا بقصر عظيم قدامه ناورد يتطارد فيه فرسان، فقلت: لمن هذا القصر يا زهير؟ قال: لطوق بن مالك؛ وأبو الطبع صاحب البحتري في ذلك الناورد، فهل لك في أن تراه؟ قلت: ألف أجل، إنه لمن أساتيذي،، وقد كنت أنسيته فصاح: يا أبا الطبع! فخرج فتى على فرس أشعل، وبيده قناة، فقال له زهير: إنك مؤتمنا؛ فقال: لا، صاحبك أشمخ مارنا من ذلك، لولا أنه ينقصه قلت: أبا الطبع على رسلك، إن الرجال لا تكال بالقفزان أنشدنا من شعرك فأنشد:
ما على الركب من وقوف الركاب
حتى أكملها، ثم قال: هات إن كنت قلت شيئا فأنشدته:
هذه دار زينب والرباب
....حتى أكملتها فكأنما غشى وجه أبي الطبع قطعة من الليل وكر راجعا إلى ناورده دون أن يسلم فصاح به زهير: أأجزته؟ قال: أجزته، لا بورك فيك من زائر، ولا في صاحبك أبي عامر!
ثم قابل تابع أبو نواس وتناشدا معه قصائد أبو نواس وقصائد ابن شهيد فى الخمور فقال:
"فضرب زهير الأدهم بالسوط، فسار بنا في قننه، وسرنا حتى انتهينا إلى أصل جبل دير حنة، فشق سمعي قرع النواقيس، فصحت: من منازل أبي نواس، ورب الكعبة العلياء! ... وصاح: سلام على أهل دير حنة! فقلت لزهير: أوهل صرنا بذات الأكيراج؟ قال: نعم ...فقالوا: أهلا بك يا زهير من زائر، وبصاحبك أبي عامر! ما بغيتك؟ قال: حسين الدنان قالوا: إنه لفي شرب الخمرة، منذ أيام عشرة، وما نراكما منتفعين به فقال: وعلى ذلك ونزلنا وجاؤوا بنا إلى بيت قد اصطفت دنانه، وعكفت غزلانه، وفي فرجته شيخ طويل الوجه والسبلة، قد افترش أضغاث زهر، واتكأ على زق خمر، وبيده طرجهارة، وحواليه صبية كأظب تعطو إلى عرارة فصاح به زهير: حياك الله أبا الإحسان! فجاوب بجواب لا يعقل لغلبة الخمر عليه فقال لي زهير: اقرع أذن نشوته بإحدى خمرياتك، فإنه ربما تنبه لبعض ذلك فصحت أنشد من كلمة لي طويلة:
ولرب حان قد أدرت بديره خمر الصبا مزجت بصفو خموره
....فصاح من حبائل نشوته: أأشجعي؟ قلت: أنا ذاك! فاستدعى ماء قراحا، فشرب منه وغسل وجهه، فأفاق واعتذر إلي من حال فأدركتني مهابته، وأخذت في إجلاله لمكانه من العلم والشعر فقال لي: أنشد، أو حتى أنشدك؟ فقلت: إن ذلك لأشد لتأنيسي، على أنه ما بعدك لمحسن إحسان فأنشد:
يا دير حنة من ذات الأكيراح، من يصح عنك فأني لست بالصاحي
....فلما انتهيت قال: لله أنت! وإن كان طبعك مخترعا منك؟ ثم قال لي: أنشدني من رثائك شيئا؟ فأنشدته من قولي في بنية صغيرة:
أيها المعتد في أهل النهى، ولا تذب، إثر فقيد، ولها
....فولت وللمسك من ذيلها، على الأرض، خط كطهر الشجاع
فلما سمع هذا البيت قام يرقص به ويردده، ثم أفاق، ثم قال: هذا والله شيء لن نلهمه نحن، ثم استدناني فدنوت منه فقبل بين عيني، وقال: اذهب فإنك مجاز فانصرفنا عنه وانحدرنا من الجبل"
ثم قابل شيطان أبو الطيب المتنبى وهو حارثة بن المغلس وكالعادة تبادل قول القصائد منه ومن الأخر وفى هذا قال :
"فقال لي زهير: ومن تريد بعد؟ قلت له: خاتمة القوم صاحب أبي الطيب؛ فقال: اشدد له حيازيمك، ..قال: هي اثار فرس حارثة بن المغلس صاحب أبي الطيب، وقصدي هو صاحب قنص ...فقال: بلغني أنه يتناول؛ قلت: للضرورة الدافعة، وإلا فالقريحة غير صادعة، والشفرة غير قاطعة قال: فأنشدني؛ وأكبرته أن أستنشده، فأنشدته قصيدتي التي أولها:
أبرق بدا أم لمع أبيض قاصل
....فلما انتهيت قال: أنشدني أشد من هذا فأنشدته قصيدتي:
هاتيك دارهم فقف بمعانها
فلما انتهيت، قال لزهير: إن امتد به طلق العمر، فلا بد أن بنفث بدرر، وما أراه إلا سيحتضر، بين قريحة كالجمر، وهمة تضع أخمصه على مفرق البدر فقلت: هلا وضعته على صلعة النسر؟ فاستضحك إلي وقال: اذهب فقد أجزتك بهذه النكتة فقبلت على رأسه وانصرفنا"
وبعد هذا قال ابن شهيد أنه شبع من مقابلة توابع الشعراء ويريد مقابلة توابع الخطباء فقابل عتبة بن أرقم صاحب الجاحظ وأبو هبيرة صاحب عبد الحميد الكاتب وفى هذا قال :
"فقال لي زهير: من تريد بعده؟ فقلت: مل بي إلى الخطباء، فقد قضيت وطرا من الشعراء فركضنا حينا طاعنين في مطلع الشمس، ولقينا فارسا أسر إلى زهير، وانجزع عنا، فقال لي زهير: جمعت لك خطباء الجن بمرج دهمان، وبيننا وبينهم فرسخان، فقد كفيت العناء إليهم على انفرادهم قلت: لم ذاك؟ قال: للفرق بين كلامين اختلف فيه فتيان الجن
وانتهينا إلى المرج فإذا بناد عظيم، قد جمع كل زعيم، فصاح زهير: السلام على فرسان الكلام فردوا وأشاروا بالنزول فأفرجوا حتى صرنا مركز هالة مجلسهم، والكل منهم ناظر إلى شيخ أصلع، جاحظ العين اليمنى، على رأسه قلنسوة بيضاء طويلة فقلت سرا لزهير: من ذلك؟ قال: عتبة بن أرقم صاحب الجاحظ، وكنيته أبو عيينة قلت: بأبي هو! ليس رغبتي سواه، وغير صاحب عبد الحميد فقال لي: إنه ذلك الشيخ الذي إلى جنبه وعرفه صغوي إليه وقولي فيه فاستدناني وأخذ في الكلام معي، فصمت أهل المجلس، فقال: إنك لخطيب، وحائك للكلام مجيد، لولا أنك مغزى بالسجع، فكلامك نظم لا نثر فقلت في نفسي: قرعك، بالله، بقارعته، وجاءك بمماثلته ثم قلت له: ليس هذا، أعزك الله، مني جهلا بأمر السجع، وما في المماثلة والمقابلة من فضل، ولكني عدمت فرسان الكلام، ودهيت بغباوة أهل الزمان، وبالحرا أن أحركهم بالازدواج ولو فرشت للكلام فيهم طولقا، وتحركت لهم حركة مشولم، لكان أرفع لي عندهم، وأولج في نفوسهم
...فقال الشيخ الذي إلى جانبه، وقد علمت أنه صاحب عبد الحميد، ونفسي مرتقبة إلى ما يكون منه: لا يغرنك منه، أبا عيينة، ما تكلف لك من المماثلة، إن السجع لطبعه، وإن ما أسمعك كلفة ولو امتد به طلق الكلام، وجرت أفراسه في ميدان البيان، لصلى كودنه وكل برثنه وما أراه إلا من اللكن الذين ذكر، وإلا فما للفصاحة لا تهدر، ولا للأعرابية لا تومض؟ فقلت في نفسي: طبع عبد الحميد ومساقه، ورب الكعبة! فقلت له: لقد عجلت، أبا هبيرة، - وقد كان زهير عرفني بكنيته - إن قوسك لنبع، وإن سهمك لسم، أحمارا رميت أن إنسانا، وقعقعة طلبت أم بيانا؟ وأبيك، إن البيان لصعب، وإنك منه لفي عباءة تتكشف عنها أستاه معانيك، تكشف است العنز عم ذنبها الزمان دفء لا قر، والكلام، عراقي لا شامي إني لأرى من دم اليربوع بكفيك، وألمح من كشى الضب على ماضغيك فتبسم إلي وقال: أهكذا أنت يا أطيلس، تركب لكل نهجه، وتعج إليه عجه؟ فقلت: الذئب أطلس، وإن التيس ما علمت! فصاح به أبو عيينة: لا تعرض له، وبالحرا أن تخلص منه فقلت: الحمد لله خالق الأنام في بطون الأنعام! فقال: إنها كافية لو كان له جحر "
وفى المقابل قام ابن شهيد باستعراض مهارته فى النثر المسجوع فذكر لهما قطعا من رسائله كرسالة الحلوى فقال :
"فبسطاني وسألاني أن أقرأ عليهما من رسائلي، فقرأت رسالتي في صفة البرد والنار والحطب فاستحسناها ومن رسالتي في الحلواء حيث أقول: خرجت في لمة من الأصحاب، وثبة من الأتراب، فيهم فقيه ذو لقم، ولم أعرف به، وغريم بطن، ولم أشعر له، رأى الحلواء فاستخفه الشره، واضطرب به الوله، فدار قس ثيابه، وأسال من لعابه، حتى وقف بالأكداس وخالط غمار الناس، ونظر إلى الفالوذج فقال: بأبي هذا اللمص، انظروه كأنه الفص؛ مجاجة الزنابير، أجريت على شوابير، وخالطها لباب الحبة، ....فقال فريق: ليس ذا الشعر شعره؛ وقال فريق: أيمن الله، ما ندري
أما علموا أني إلى العلم طامح، وأني الذي سبقا على عرقه يجري؟
وما كل من قاد الجياد يسوسها؛ ولا كل من أجرى يقال له: مجري
فمن شاء فليخبر فإني حاضر، ولا شيء أجلى للشكوك من الخبر
وأما أبو بكر فأقصر، واقتصر على قوله: له تابعة تؤيده وأما أبو القاسم الإفليلي فمكانه من نفسي مكين، وحبه بفؤادي دخيل؛ على أنه حامل علي، ومنتسب إلي"
ثم قابل صاحب الإفليلي وهو أنف الناقة بن معمر وقعدا يذكران كتب النحاة واللغويين فقال :
"فصاحا: يا أنف الناقة بن معمر، من سكان خيبر! فقام إليهما جني أشمط ربعة وارم الأنف، يتظالع في مشيته، كاسرا لطرفه، وزاويا لأنفه، وهو ينشد:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم، ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟
فقالا لي: هذا صاحب أبي القاسم، ما قولك فيه يا أنف الناقة؟ قال: فتى لم أعرف على من قرأ فقلت لنفسي: العصا من العصية! إن لم تعربي عن ذاتك، وتظهري بعض أدواتك، وأنت بين فرسان الكلام، لم يطر لك بعدها طائر، وكنت غرضا لكل حجر عابر
وأخذت للكلام أهبته، ولبست للبيان بزته، فقلت: وأنا أيضا لا أعرف على من قرأت قال: ألمثلي يقال هذا؟ فقلت: فكان ماذا؟ قال: فطارحني كتاب الخليل قلت: هو عندي في زنبيل قال: فناظرني على كتاب سيبويه قلت: خريت الهرة عندي عليه، وعلى شرح ابن درستويه فقال لي: دع عنك، أبا أبو البيان قلت: لاه الله! إنما كمغن وسط، لا يحسن فيطرب، ولا يسيء فيلهي قال: لقد علمنيه المؤدبون قلت: ليس هو من شأنهم، إنما هو من تعليم الله تعالى حيث قال: " الرحمن علم القران خلق الإنسان علمه البيان " ليس من شعر يفسر، ولا أرض تكسر هيهات، حتى يكون المسك من أنفاسك، والعنبر من أنفاسك، وحتى يكون مساقك عذبا، وكلامك رطبا، ونفسك من نفسك، وقليبك من قلبك، وحتى تتناول الوضيع فترفعه، والرفيع فتضعه، والقبيح فتحسنه!"
ثم استعرض ابن شهيد مهاراته النثرية فذكر صفة برغوث وصفة ثعلب فقال:
قال: أسمعني مثالا قلت: حتى تصف برغوثا فتقول:
أسود زنجي، وأهي وحشي؛ ليس بوان ولا زميل، وكأنه جزء لا يتجزأ من ليل؛ أو شونيزة، أوثقتها غريزة؛ أو نقطة مداد، أو سويداء قلب قراد؛ شربه عب، ومشيه وثب؛ يكمن نهاره، ويسري ليله؛ يدارك بطعن مؤلم، ويستحل دم كل كافر ومسلم؛ مساور للأساورة، يجر ذيله على الجبابر يتكفر بأرفع الثياب، ويهتك ستر كل حجاب، ولا يحفل ببواب؛ مناهل العيش العذبة، ويصل إلى الأحراج الرطبة، لا يمنع منه أمير، ولا ينفع فيه غيرة غيور، وهو أحقر كل حقير؛ شره مبثوث، وعهده منكوث، وكذلك كل برغوث، كفى نقصا للإنسان، ودلالة على قدرة الرحمن
صفة ثعلب
وحتى تصف ثعلبا فتقول: أدهى من عمرو، وأفتك من قاتل حذيفة ابن بدر؛ كثير الوقائع في المسلمين، مغرى بإراقة دماء المؤذنين؛ إذا رأى الفرصة انتهزها، وإذا طلبته الكماة أعجزها؛ وهو مع ذلك يقراط في إدامه، وجالينوس في اعتدال طعامه، غداؤه حمام أو دجاج، عشاؤه تدرج أو دراج"
ثم قابل صاحب بديع الزمان وهو زبدة الحقب وتبادلا وصف بعض الأشياء وفى هذا قال :
"وكان فيما يقابلني من ناديهم متى قد رماني بطرفه، واتكأ لي على كفه، فقال: تحيل على الكلام لطيف، وأبيك! فقلت: وكيف ذلك؟ قال: أوما علمت أن الواصف إذا وصف لم يتقدم إلى صفته، ولا سلط الكلام على نعته، اكتفى بقليل الإحسان، واحجتزى بيسير البيان؟ لأنه لم يتقدم وصف بقرن بوصفه، ولا جرى مساق يضاف إلى مساقه وهذه نسكتة بغذاذية، أنى لك بها يا فتى المغرب؟ فقلت لزهير: من هذا؟ قال: زبدة الحقب، صاحب بديع الزمان فقلت: يا زبدة الحقب، اقترح لي قال: صف جارية فوصفتها قال: أحسنت ما شئت أن تحسن! قلت: أسمعني وصفك للماء قال: ذلك من العقم قلت: بحياتي هاته قال: أزرق كعين السنور، صاف كقضيب البلور؛ انتخب من الفرات واستعمل بعد البيات، ...."
ثم قابل صاحب أبي إسحاق بن حمام وهو جارل فقال :
"وشمر لي فتى، كان إلى جانبه، عن ساعد، وقال لي: وهل يضر قريحتك، أو ينقص من بديهتك لو تجافيت لأنف الناقة، وصبرت له؟ فإنه على علاته زير علم، وزنبيل فهم، وكنف رواية فقلت لزهير: من هذا؟ فقال: هو أبو الاداب صاحب أبي إسحاق بن حمام جارل فقلت: يا أبا الاداب، وزهرة ريحانة الكتاب، رفقا على أخيك بغرب لسانك، وهل كان يضر أنف الناقة، أو ينقص من علمه، أو يفل شفرة فهمه، أن يصبر لي على زلة تمر في شعر أو خطبة، فلا يهتف بها بين تلاميذه، ويجعلها طرمذة من طراميذه؟ فقال: إن الشيوخ قد تهفو أحلامهم في الندرة فقلت: إنها المرة بعد المرة"
وانتهى ابن شهيد من كل هذا إلى الحصول على اعتراف من القوم بأنه شاعر وناثر عظيم حيث قال:
"ثم قال لي الأستاذان عتبة بن أرقم، وأبو هبيرة صاحب عبد الحميد: إنا لنخبط منك ببيداء حيرة، وتفتق أسماعنا منك بعبرة، وما ندري أنقول: شاعر أم خطيب؟ فقلت: الإنصاف أولى، والصدع بالحق أحجى ولا بد من قضاء فقالا: اذهب فإنك شاعر خطيب وانفض الجمع والأبصار إلي ناظرة، والأعناق نحوي مائلة"
ثم جالس نقاد الأدب وهو يذكرون بعض عورات شعر الشعراء فقال:
"وحضرت أنا أيضا وزهير مجلسا من مجالس الجن، فتذاكرنا ما تعاورته الشعرا من المعاني، ومن زاد فأحسن الأخذ، ومن قصر فأنشد قول الأفوه بعض من حضر:
وترى الطير على اثارنا رأي عين ثقة أن ستمار
وأنشد اخر قول النابغة:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم عصائب طير تهتدي بعصائب
تراهن خلف القوم خزرا عيونها جلوس الشيوخ في ثياب المرانب
جوانح، قد أيقن أن قبيله، إذا ما التقى الجيشان، أول غالب
وأنشد اخر قول أبي نواس:
تتأيا الطير غدوته ثقة بالشبع من جزره
...فاهتز المجلس لقوله، وعلموا صدقه فقلت لزهير: من فاتك بن الصقعب؟ قال: يعني نفسه قلت له: فهلا عرفتني شأنه منذ حين؟ إني لأرى نزعات كريمة؟ وقمت فجلست إليه جلسة المعظم له فاستدار نحوي، مكرما لمكاني، فقلت: جد أرضنا، أعزك الله، بسحابك، وأمطرنا بعيون ادابك قال: سل عما شئت قلت: أي معنى سبقك إلى الإحسان فيه غيرك، فوجدته حين رمته صعبا إلا عليك أنك نفذت فيه؟ قال: معنى قول الكندي:
سموت إليها بعدما نام أهلها، سمو حباب حالا على حال
قلت: أعزك الله، هو من العقم ألا ترى عمر بن أبي ربيعة، وهو من أطبع الناس، حين رام الدنو منه والإلمام به، كيف افتضح في قوله:
ونفضت عني النوم أقبلت مشية ال حباب، وركني خيفة القوم أزور
قال: صدقت، إنه أساء قسمة البيت، وأراد أن يلطف التوصل، فجاء مقبلا بركت كركنه أزور فأعجبني ذلك منه، وما زلت مقدما لهذا المعنى رجلا، ومؤخرا عنه أخرى، حتى مررت بشيخ يعلم بنيا له صناعة الشعر وهو يقول له: إذا اعتمدت معنى قد سبقك إليه غيرك فأحسن تركيبه، وأرق حاشيته فاضرب عنه جملة وإن لم يكن بد ففي غير العروض التي تقدم إليها ذلك المحسن، ...فصاح صيحة منكرة من صياح الجن كاد ينخب لها فؤادي فزعا، والله، منه! وكان بنجوة منا جني كأنه هضبة لركتنته وتقبضه، يحدق في دونهم، يرميني بسهمين نافذين، وأنا ألوذ بطرفي عنه، وأستعيذ بالله منه، لأنه ملأ عيني ونفسي فقال لي لما انتهيت، وقد استخفه الحسد: على من أخذت الزمير؟ قلت: وإنما أنا نفاخ عندك منذ اليوم؟ قال: أجل! أعطنا كلاما يرعى تلاع الفصحاحة، ويستحم بماء العذوبة والبراعة، شديد الأسر جيد النظام، وضعه على أي معنى شئت قلت: كأي كلام؟ قال: ككلام أبي الطيب:
نزلنا على الأكوار نمشي كرامة لمن بان عنه، أن نلم به ركبا
نذم السحاب الغر في فعلها به، ونعرض عنها، كلما طلعت، عتبا
...."
وبعد هذا قابل الحيوانات الشاعرة الحمار والبغل والإوزة الناثرة فحكى التالى:
"ومشيت يوما وزهير بأرض الجن أيضا نتقرى الفوائد ونعتمد أندية أهل الاداب منهم، إذ أشرفنا على قرارة غناء، تفنر عن بركة ماء، وفيها عانة من حمر الجن وبغالهم، قد أصابها أولق فهي تصطك بالحوافر، وتنفخ من المناخر، وقد اشتد ضراطها، وعلا شحيجها وهاقها فلما بصرت بنا أجفلت إلينا وهي تقول: جاءكم على رجليه! فارتعت لذلك، فتبسم زهير وقد عرف القصد، وقال لي: تهيأ للحكم فلما لحقت بنا بد أني بالتفدية، وحيتني بالتكنية فقلت: ما الخطب، حمي حماك أيتها العانة، وأخصب مرعاك؟ قالت: شعران لحمار وبغل من عشاقنا اختلفنا فيها، وقد رضيناك حكما قلت: حتى أسمع فقدمت إلي بغلة شهباء، عليها جلها وبرقعها، لم تدخل فيما دخلت فيه العانة من سوء العجلة وسخف الحركة، فقالت: أحد الشعرين لبغل من بغالنا وهو:
على كل صب من هواه دليل: سقام على حر الجوى، ونحول
وما زال هذا الحب داء مبرحا، إذا ما اعترى بغلا فليس يزول
بنفسي التي أما ملاحظ طرفها فسحر، وأما خدها فأسيل
تعبت بما حملت من ثقل حبها، وإني لبغل للثقال حمول
وما نلت منها نائلا غير أنني إذا هي بالت بلت حيث تبول
والشعر الاخر لدكين الحمار:
دهيت بهذا الحب منذ هويث، وراثت إراداتي فلست أريث
كلفت بإلفي منذ عشرين حجة، يجول هواها في الحشا ويعيث
ومالي من برح الصبابة مخلص، ولا لي من فيض السقام مغيث
وغير منها قلبها لي نميمة، نماها أحم الخصيتين خبيث
وما نلت منها نائلا، غير أنني إذا هي راثت حيث تروث
ففضحك زهير، وتماسكت، وقلت للمنشدة: ما هويت؟ قالت: هو هويب، بلغة الحمير فقلت: والله، إن للروث رائحة كريهة، وقد كان أنف الناقة أجدر أن يحكم في الشعر! فقالت: فهمت عنك وأشارت إلى العانة أن دكينا مغلوبا؛ ثم انصرفت قانعة راضية....
وكانت في البركة بقربنا إوزة بيضاء شهلاء، في مثل جثمان النعامة، كأنما ذر عليها الكافور، أو لبست غلالة من دمقس الحرير، لم أر أخف من رأسها حركة، ولا أحسن للماء في ظهرها صبا، تثني سالفتها، وتكسر حدقتها، وتلولب قمحدوتها، فترى الحسن مستعارا منها، والشكل مأخوذا عنها، فصاحت بالبغلة: لقد حكمتهم بالهور، ورضيتم من حاكمكم بغير الرضا
فقلت لزهير: ما شأنها؟ قال: هي تابعة شيخ من مشيختكم، تسمى العاقلة، وتكنى أم خفيف، وهي ذات حظ من الأدب، فاستعد لها فقلت: أيتها الإوزة الجميلة، العريضة الطويلة، أيحسن بجمال حدقتيك، واعتدال منكبيك، واستقامة جناحيك، وطول جيدك، وصغر رأسك، مقابلة الضيف بمثل هذا الكلام، وتلقي الطارئ الغريب بشبه هذا المقال؟ وأنا الذي همت بالإوزة صبابة، واحتملت في الكلف بها عض كل مقالة؛ وأنا الذي استرجعتها إلى الوطن المألوف، وحببتها إلى كل غطريف، فاتخذتها السادة بأرضنا واستهلك عليها الظرفاء منا، ورضيت بدلا من العصافير، ومتكلمات الزرازير، ونسيت لذة الحمام، ونقار الديوك، ونطاح الكباش
فدخلها العجب من كلامي، ثم رفعت وقد اعترتها خفة شديدة في مائها، ..؟ فقلت: ارتجال شعر، واقتضاب خطبة، على حكم المقترح والنصبة قالت: ليس عن هذا أسالك قلت: ولا بغير هذا أجاوبك قالت حكم الجواب أن يقع على أصل السؤال، وأنا إنما أردت بذلك إحسان النحو والغريب اللذين هما أصل الكلام، ومادة البيان قلت: لا جواب عندي غير ما سمعت قالت: أقسم أن هذا منك غير داخل في باب الجدل فقلت: وبالجدل تطلبيننا وقد عقدنا سلمه، وكفينا حربه، وإن ما رميتك به منه لأنفذ سهامه، وأحد حرابه، وهو من تعاليم الله عز وجل، عندنا في الجدل في محكم تنزيله قالت: أقسم أن الله ما علمك الجدل في كتابه قلت: محمول عنك أم خفيف، لا يلزم الإوزة حفظ أدب القران، قال الله، عز وجل، في محكم كتابه حاكيا عن نبيه إبراهيم، عليه السلام: " ربي الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت " فكان لهذا الكلام من الكافر جواب، وعلى وجوبه مقال؛ ولكن النبي، (ص)، لما لاحت له الواضحة القاطعة، رماه بها، وأضرب عن الكلام الأول، قال: " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر "
الكتاب هو مجرد استعراض من ابن شهيد لمهارته فى الشعر والنثر وهو منه تزكية للنفس لا تجوز كما قال تعالى " فلا تزكوا أنفسكم "