(هكذا كُتِبَ على بوابةِ "مملكــة الجرح": )
"يحفر الألم بداخلي..ويتعاظم قدري
....ومع ذلك
لا أبدد شمسك هباء
لأنني أفكر في عزلة الشتاء القادم
لأن ليلي سيجيء...
ويجب أن أكون قد أعددتُ كوخي قبل أن أرحل معبدا لرعاة الحب"
* للشاعر اليوناني" نيكيفوروس فريتاكوس"
.................................................. .....
(بعد أن دخلتُ المملكة، وأُوصدتْ بعد دخولي الأبــواب كلها: )
عاد الجميع إلى بيوتهم..إلاّيَ..
كان البرد قارسا..والنجوم بدأت تمضي إلى أعشاشها لتخلد إلى النوم، ولكنها تركت قناديل البيت مشتعلة ليستنير بها عابرو السبيل ..مثلي..
كان البحر هو الآخر، واقفا بمحراب البوح..ينتظرني كعادته..قد أسكتَ كلّ غضب الموج، وأغلق الصدف الذي كان ينتظر بعض الهدايا أو بعض الأسرار ليخبئها ..أما الليل، فكان مرتديا جبة من قطن وفُــلّ، طُرِّزَتْ حواشيها بالنجوم المتلألئة، وقد غطّتْ في النوم كرضيع جميل يستسلم لقدره طوعا...ظل الليل جالسا على صخرة الشاطئ..يكتب بعض ذكرياته...ويتنهد مغالبا النعاس الذي ظل يخِزُه بالصمت، وقد خيّم على المكان كله...رمقني البحر بنظرة غريبة، أَتُراه يدعونـي للرحيل؟ هل آن أوانُ سفري؟
لم أشأ أن أزعج خلوة الليل..فجلستُ قربه..هناك..على الرمل المبتل..وترنحتْ بي ذكرياتي..على هذا الرمل كتبنا عهدنا..وعلى هذا الموج أعتقنا بوحنا..وفي عيون الصدف أودعنا سرّنا وحلما راودنا في العيش بعيدا عن أعين الحزن..
سيدي،
أتذْكُرُ يوم كتبنا على البحر بعضا منا..وأقسمتَ لي أنك على العهد...أتذكر يوم ألقيتُ بصمتي بين أمواج الروح، أطرّزه بعشقك، ومضيت أنثر كل أحزان الشتاء خلفي ..فقد كنتَ هناك وكنتُ هنا..أمحو غيابك لأكتبني؟؟
أتذْكُرُ ..آهٍ من حرقتي...!! يومَ قطفتَ قلبي، ووضعتَه بمزهرية قلبك تراقبه..تحرسه من كل حزن لا ينام.. من كل أوراق الخريف، وهي تحاول أن تترك بصماتها على خاصرتي.....
لماذا سيدي؟..أأناديك سيدي؟؟ وقد أقفلتَ عيون الصبح..كانت ..مثلي ...تعاتبك همسا ..تعشقك ..قصيدا تعلّمَ أن ينساني كلما مر طيفك يختال ...بين أشجار شوقي ودوالي عشقي؟حتى هذا البستان اليوم..قد أُقْفِل ...
مضيت..أهمس للصدف الذي حفظ بوحنا..كان لا يصدّق أنك قيسُ الهوى (..)...ولكنني كأية نبضة تائهة في سماء الحب، نثرتُ كل العطر، وأرسلتُ قلبي كله إلى جزيــرة اسمها : أنــت..
كنت أرقب العشاق، أراهم يرمقونني من بعيد..وصمتهم يقترب مني ..ينهر صمتي الذي سكنك..قبل أن أولد..
لماذا؟؟ لماذا ضيّعتَ فتاةَ البحر؟ كانت دائما تنام بين ضلوعي لتحلمَ بك..لماذا هدمت صومعتي، وألقيتَ أفئدة النرجس بعيدا؟ لماذا سلّمْتَني لمواكب الوجع تسجنني بأكبر بئر للنزف، وثبّتْتَ قلبي بأكبر خارطة للعذاب؟ لماذا ألقيت بي في نهر الملــح، وجعلتني صحراء محرّمة؟..لماذا نفيتَ الشمس عن ستائر شرفتي، وسجنتَني بامرأةٍِ أكثر ما يربطني بها أنت ..وأقل ما يربطها بي ..أنا...
حسِبْتَني خاطرةً تبدأ في الأحداق وتنتهي فيها..قبل أن يقرأ البحر عودتي منك ومنه..حتى السنابل رافقتني لأقرب طريق إلى التيــه..ثم افترقَتْ عني..وأخذت معها المفاتيح كلها..وتركتني نهبا لريح الغدر تأخذني أسيــرة إلى مملكـة الجرح..لا أدري لها موقعا على الخريطة سوى أنها من جزر القلب..
سيدي،
أأناديك سيدي؟؟؟
والشمعةُ التي أشعلتَها بأعواد حزني ماتزال تُحرقني..هكذا مضيتَ بعيدا..تختال في حدائقك السرّية..ولم تأبه لهذه الغريبة التي دفنتها بأرض التعب، بأرضٍ لم تُنبِت إلاّ رحيلك وبضعة أشجان خائنــة..ماالذي اقترفَه عشقي؟ كنتُ لك كهديل الورد القادم من الطفولة، لا أتدفق إلاّ لك..لا أحكي أسرار ليلى الأخيَلية إلاّ لك..لم أكن أهذي إلاّ بك..كانت حياتي كلها زهرة أنت رحيقها..أنت الماء الذي يسقي جدب أيامها..كنتَ طيفا لأمي...عنقودا من العنب...جمعتُ لك إكليل الهوى من كل البساتين المنثورة على محياك. ..من أهداب اليمام..من أكمام الورد..من الإشراق الأول للأرض...من عطر لم تصنعه النجوم إلا لك..من كل نخيل الوفاء الذي زرعته أمي على مقربة من النهر، وقد أحاطتْه بقلبها...مذْ قرأ الليل في كف الأندلس الجميلة، تفاصيلَ أول قصيدة غنّت لي ولك أغاني اللوتس ورقصات الماء والنار...
قل لي...سَيّ(....)
هل أرقب الليل الطويل لأعود فيه إلى ذاكرة البحر.. أمحو ذاك العهد الذي خنتَه؟ أم أزرع من جديد ذاكرة أخرى لقلبي لتنفيك عنها......أم أتبع البحر، وأحمل في يدي هاته مماتي وفي يدي الأخرى همسَ الأمس المخدوع؟ أم أحفر على الرمل صرختي وقد غطّت وجهي، أم أتركها توزعني على كل مدائن الدنيا ، على كل أوجاع الدنيا..لأنني أغمضت يوما قلبــي و..أحببتُك...فقد كنتُ الضحى، وكنتُ الرحيل الغائب فيك..وكنتَ أنت القصيــد...
لكنني اليوم.. وبعد أن ودّعتُ كل من أحبهم، على نفس الصخرة التي شهدت ولادة مماتي، على يديك الرقيقتين(..)، تطاولَ الصمت فيّ حتى أفنى كل زهر الرمّان..وما عدتُ أدري..إن كان العشق حقا وردا يعتني بأنامله، أم أنه بنفسجٌ ضاعت منه أيامه الأولى....لم أعد أدري إنْ كانت لغتُه قد أُريقتْ على أطلال العشـق كلها أم على قلبي وحـده....
فلماذا أمضي مرة أخرى إلى الهوى؟؟..يكفي أنك كنتَ سجاني....وليلَكًا أضاع مني عناوين الورد التي مازلتُ للآن أحاول أن أستعيد بعضها.. لأستعيدني.. الآن عرفتُ أن ذنبي كـان إخلاصي في هــواك!....ياليتني أطعتُ أمي، ورحلتُ مع أول أفواج الطير التي رحلت..وياليتني قبل أن أرددك في خوفي، تركتكَ خلفي وحفِظْتُ من قلوب العشاق الذين سبقوني هذا السرّ أذاعوه على لسان شاعــر منهم:
نونُ الهوان من الهوى مسروقةٌ
فإذا هويـتَ فقـد لقيـتَ هــوانا
.......
.....إذاً لمَا كنتَ أنتَ ...هنا......