أي بُنيّ 2 ...

أي بُنيّ، هذا حديثي الثاني إليك، فلا تُلْقِهِ دَبْرَ أُذُنك ولا تستهن به، فإنّ أبوابَ النّدامة مُشرعةٌ على ما يُرى هيّنا مُحتقَرًا، وإن معظمَ النّارِ من مُستصْغَرِ الشَّرَر...
ويأتي عليكَ زمنٌ تبحثُ فيه عن العَجَب فلا تجده وإن قصدتَ أبراجَ السماء أو أفلاكَ الفضاء الوسيعْ، أو حفرتَ في أطباق الثّرى و لهثْتَ خلفَ سرٍّ في النّباتِ والحيوانِ مَنيعْ؛ فتجده ثاويًا بين جنبيك، يُحادثُك كلّ صباح ومساء . إنّما العَجَب هو ذاتُهُ صانع العجائبِ والباحثُ عنها... هو الإنسان يا بُنيّ !!
كائنٌ لو وَزَنْتَهُ زِنَة الحيرة حِرتَ فيه والِداً وما وَلَدْ، ولو وَزَنته على ميزان التناقض والتّضادّ ما وجدتَ أغرب منه إلى الأبَدْ، فهو الخيرُ والشّرّ يعْدو أحدهما على الآخر عدْوَ الذّئاب على مَن لا كلابَ له ولا عِزْوَة؛ وهو العَتمةُ والنّورُ يتلاعنانِ في جوفه تلاعُنَ الأمم والدّول على هذه البسيطة، حيث تدّعي كلّ واحدة الحقّ لنفسها؛ وهو الضّعف والقوّة يتناوبان فيه تناوبَ الليل والنهار، لا يأفُلُ هذا حتى يطلّ الآخر بقرنه، وكلاهما ردّةُ فعل حيال المواقف والأحداث؛ وهو الحرّيّة والاستبداد متعانقان في كيانه تَعانُقَ اللام والألف في الحروف الأبجديّة، فتراه يجمعُ إلى حرّيّتِه، مزهوًّا بها، استبدادَه وتعسُّفَهُ على مَن دونه مزهوّا بهما زَهْوَ المنتصر؛ وهو الجهلُ والعِلم متصالحيْن في تجويف جمجمته تصالُحَ الفئران والقطط إذا عبثتْ بفطرتها يدٌ ماكرة، ولعلّك واجدٌ عالِمَ ذَرّةٍ يتّقي الأرواح الشرّيرة بحذْوةِ حصان !! وهو الغِنى والفقر مجتمعيْن في جيبه وقلبه يترصّد أحدهما للآخر على غِيلَةٍ وغفلةٍ؛ وهو الإيمان والإلحاد جنبا إلى جنب، فهو الملحدُ في هَدْأةِ اللّيل والعابدُ المُتنسّك في واضحة النّهار، وقد قال القائل:
إذا حَوَّلَ الظِّلَّ العَشِيُّ رأيتَهُ // حنيفًا، وفي قَرْنِ الضُّحى يتنصَّرُ !
وهو الحاضرُ والماضي ينظر الواحد منهما إلى الآخر فيُنكِرُه، لكنّه قادرٌ على الجمع بينهما كما تجتمع الضُّرَّتان تحت سقف بيت واحد؛ وهو العقل يجمع الأمر ونقيضه دون أدنى حريجة، خاصة إذا انقادَ وذَلَّ لغرض أو لمصلحة، وأنتَ أدرى بالذي مَدَحَ الباذنجان وذَمّه في نفس الآن، لأنّه نديمُ سُلطان وليس نديمَ باذنجان ! أمّا إذا أَقَمْتَ خوالجَ القلبِ إزاء نوازع العقل رأيتَ رأس العجَب، إذ لا يطمئنّ القلب إلى خاطِرة أو سانحةٍ حتى ينقُضهما العقل ويهدمهما، ولا يقتنع العقل برأي حتى يحشُد القلب كلّ المَدْحَضَاتِ أمامَهُ تَتْرى فيموت الرّأي في مهده، حتى تتدخّلَ الأوهامُ فتجعَلَ الأبيضَ أسودَ والأسودَ أبيضَ، فيُقبل المرء على الأمر وإن كان بعدئذ جارّا العقابيلَ مجروراً بها...
أخيراً يا بنيّ، دونَكَ الإنسانُ _الذي أشْكَلَ على الإنسان_ مُرَكّبًا من كيمياء عجيبة تجمع الشيء وضدّه، كأنه القنّينة التي يمتزج فيها ماء الورد بماء النّار من حيثُ لا يمتزجان ! وإلى حديث مُقبل بحول الله...

أخيراً يا بنيّ، دونَكَ الإنسانُ _الذي أشْكَلَ على الإنسان_ مُرَكّبًا من كيمياء عجيبة تجمع الشيء وضدّه،
كأنه القنّينة التي يمتزج فيها ماء الورد بماء النّار من حيثُ لا يمتزجان .

ولا نعي كل التناقضات التي تسير عليها النفس البشرية، وأي عراك وصراع فيما بينها،
بين الخير والشر، الحق والباطل، الأمل والبؤس، الخيال والواقع، الوهم والحقيقة،
التفاؤل والتشاؤم، نعيش كل هذه في آن واحد كأن لا بد من أن تعاش…
أن التناقض هو ما يحرك الحياة وهو ما يحافظ على الحركة،
فبدون وجود التناقض والصراع بين القوى لا توجد حياة.

نص أدبي راقي ـ متألق الفكرة والموضوع وصاخب الحرف والتصوير
بلغة رصينة وقلم وائق من نضوج المعاني.
دام إبداعك وتألقك.

.

وصايا معقلٍ لعاقل
كلمات فوق العادة ، ولغة تبهر العقل ، ولا مجال لإبقائها خارج العقل
أبدعت ورب الكعبة
غبتُ فترة عن هنا وعدتُ لأقرأ هذا الجمال ..فيا لحظي أنني صافحت هذه الوصايا !!
بانتظار ما تبقى
لك التحية ... ناريمان

مشرفتنا الفاضلة ، إنما التناقضات جزء من تركيب الإنسان في نقصانه، لهذا يسعى إلى الكمال...
شكرا حقا على المتابعة والتحفيز...

شكرا أديبتنا الفاضلة
هذا بعض ما تملكونه من بيان وبلاغة...
أحييكم على الدعم والتحفيز

أنتظر الباقي بفارغ الصبر
وجزاك ربي كل خير
تحية ... ناريمان