هذا مقال لشيخ البلاغيين الأستاذ الدكتور محمد محمد أبي موسى يدور حول نوع من القراءة غفل عنه أبناء جيلنا هدفه استخراج العلم من العلم والمعرفة من المعرفة والفكرة من الفكرة وكل ذلك من الشعر والنثر ويضرب أمثلة لذلك مثل استخراج الشيخ عبدالقاهر الجرجاني لعلم البلاغة من علم النحو ومن القرآن والحديث ومن كلام سيبويه والجاحظ ومن الشعر والنثر.
هي باختصار قراءة تتأمل وتتفكر في الأفكار القديمة لتخرج خباياها من زواياها ومجهولها من معلومها فتنتج فكرا جديدا .
القراءة المسكوت عنها
أشــرت في المقالات الســابقة إلى ما أفاض فيه الباقلاني من
معرفــةأهــل صناعةالشــعر والأدب لصفة كل صانع من شــاعر
أو كاتــب وأنهم يميزون بين الشــعراء الذين تتشــابه أشــعارهم
كمســلم وأبي نواس والبحتــري وابن الرومــي، وأنهم لا يخفى
عليهــم الفصل بين رســائل عبد الحميد وطبقتــه وبين طبقة من
بعــده،وأنه لا يخفــى عليهم من يعرف بالبديهــةوحدة الخاطر
ومــن يعرفون بالكد والتعب ومجاهــدة الخواطر، وأن كل ذلك
وأكثر منه وأجل وأدق لا طريق إلى تحصيله إلا طريق واحد وهو
قراءة الأدب والشــعر وإلغاء أي وســيط بينك وبين الشــعر والأدب وأن وضع وجهك في وجه
شــعر الشاعر وأدب الكاتب هو الذي يريك وجه شعره وأدبه فلا يلتبس عليك بشعر غيره ولا
بــأدب غيره،وأشــرت إلى أن هذا من ّ أجل ما في كتاب الباقلانــي، ثم إن الخطوة التي تلي هذه
الخطوة في الكتاب هي أن يضع بين يديك جملةمن كلام أهل البيان العالي؛ لتتفقدهاوتتعرف
على صورهاوهيئاتها ثم تقرأ ما شئت من القرآن؛لتدرك الفرق المتسع والشأو الذي لا تطمح
نفسك في أن تقترب منه .
يقول الشــيخ : « فــإن أراد أن نقــرب عليه أمرا
ً
ونضــع له طريقــاونفتح له بابا ليعرف به إعجاز
القــرآن فإنــا نضــع بيــن يديــه الأمثلــة،ونعرض
عليه الأســاليب،ونصــور له كل قبيــل من النظم
والنثــر ُونحضــر لــه من كل فــن من القول ً شــيئا
يتأملــه حق تأمله،ويراعيه حق رعايته،فيســتدل
استدلال العالم ويســتدرك استدراك الناقد، ويقع
لــه الفرق بين الكلام الصادرعــن الربوبية الطالع
عــن الإلهية » إلى آخر ما قــال وهوكلام جيد ًجدا،
والمقصــودهو ما نقلناه من أن الطريق إلى معرفة
الفرق بيــن كل كلام الناس وبيــن الكلام الصادر
عــن الربوبيــة الطالع عن الإلهية هــو تأمل الكلام
حق تأمله وإعطاؤه حقه من الفهم والوعي، وإدراك
خوافيــه التــي تحمل وســم قائله؛ لأن مــن لوازم
إدراكك طلــوع الــذي بيــن الدفتين عــن الألوهية
أن تدرك طلوع غيره ليس عن البشــرية فحســب،
وإنمــاهــو طالع من زيــد أومن عمــرو،وهذاهو
معنى َســبك البحتري وسبك أبي تمام أي أن
مطلع هذا الكلام ومصــدره ومخرجه هو أبو تمام
بذاتــه وشــخصه، ليــس المطلــوب أن تعرف أن
هذا مصدره بشــري وهذا مصــدره إلهي، وإنما أن
تعرف الأفق المخصوص الصادرعنه الذي مصدره
بشــري، وهــذه المرتبةالعاليــة لا يرقى بك إليها
علم عالــم ولا ُ تنطس ناقد،وإنما ترقى إليها أنت
وحدك بالمواجهة المباشــرة للأســاليب والقراءة
الخاصة لفنون من النظم والنثر .

ومــن أجل أن نقتــرب من القراءة المســكوت
عنهــا نحــاول أن نقتــرب مــن الدقائق والأســرار
والخفايــا التي تتجه هذه القــراءة للوصول إليها،
ومــن أفضل من حدثواعن هــذه الدقائق والخفايا
والأسرار في الشعر والبيان الشيخ عبد القاهر في
كتابــه الأخير الذي هــو « دلائل الإعجــاز » والذي
كتبــه بعــد وفــاة الباقلاني بســبعين ســنة تقريبا
قال الشــيخ يردعلى القراءات الســطحية للشعر
والأدب والتــي أفضــت بأصحابها إلــى الزهد في
البحث في أســرار البيان : « لا يعلم هؤلاء أن هاهنا
ً دقائق وأسراراً طريــق العلم بهــا َّ الر ِوَّية والفكر،
ولطائف مســتقاها العقل،وخصائص معان ينفرد
بهــا قوم قد هُدوا إليها ودُلوا عليها وكُشــف لهم
عنهــا، ورُفعــت الحجــب بينهــم وبينهــا، وأنها
السبب في أن عرضت المزية في الكلام، ووجب
أن يفضــل بعضــه بعضاً وأن يبعد الشــأو في ذلك
وتمتــد الغايــة، ويعلو المرتقــى ويعــز ُ المطلب
حتــى ينتهــي الأمر إلــى الإعجــاز،وأن يخرج من
طوق البشــر » انتهى كلام الشــيخ ( صـ - ٧دلائل
ً
الإعجاز )
وراجع هــذا النص كثيرا لأنه يبين لنا
الضالة التي في الشــعر والأدب والتي يبحث عنها
أهــل العلم بالشــعر والأدب،ثم هــي الضالة التي
يبحــث عنها علماء الإعجاز فــي الكتاب العزيز،
وأنهاهي الشــيء الذي أعجز جيــل المبعث ومن
بعده أجيال الناس الذين هم الإنس كل الإنس.
ثم
إن هذا النص الــذي فيه هذه الضالة متضمن ً أيضا
إشــارة بارعة إلــى القراءة الهادية إلــى هذه الضالة
تجد وصف هــذه القراءة في قولــه : « طريق العلم
بها الروية والفكر ومســتقاها العقل، وينفرد بها
قوم هــدوا إليهاودلوا عليهــا » والبناء للمجهول
لا يعنــي الإلهام وأنت متكئ على أريكتك بل
يعنــي الصبــر والجــد والانقطاع حتــى يفتح لك
الصبــر والجد والعــزم والانقطاع البــاب المغلق
وحتى يرفع لك الحجب .
وكان الباقلانــي يعلــم هذه الأســرار والدقائق
التــي طريق العلــم بها الرويــةوالفكــر كما كان
يعلمها كل المشــتغلين بالشعر والأدب، بل كان
يعلمها الشعراء، وكان طرفة وعبيد وأوس وامرؤ
القيس ومــن قبلهم ومن بعدهم الكل كان يطلبها
ويســعى إليها، والباقلاني يقطــع بأنه ليس هناك
علــم يفضي بــك إليها وإنمــا القــراءة وحدها ..
وناهيــك عن قراءة تهديك إلى دقائق وأســرار في
البيــان والشــعر لا يهديك إليهاعلم مــن العلوم،
وهذا هــو الذي أردته بالقراءة المســكوت عنها،
وقــد وصفها الباقلاني بأوصــاف كثيرة في أماكن
متفرقة .
ومــن كلماتــه التــي يحرص أهــل العلــم على
غرســها في نفــوس أجيالنا قوله : « وجــه الوقوف
على شــرف الكلام أن تتأمــل » وقوله: « تأمله حق
تأمله وراعه حــق رعايته » وقوله: « تأمل بســكون
طائر وخفض جناح » والطائر لا يسكن ولا يخفض
جناحه إلا إذا كان قد ّفرغ نفسه من كل ما يشغل،
وهكذا القراءة الهادية إلى سر الأسرار في البيان،
وراجع القراءة التي توقفك على وجه شرف الكلام
والتدبر الذي هو حق الشعر والبيان والقراءة التي
تســكن فيها نفسك، ســكون الطائر الذي خفض
جناحــه وليس فيك أي ِحــس وأي حركة إلا وهي
متوجهة صوب أسرار البيان ودقائقه وخفاياه التي
دونها الحجب والأســتار، واعلــم أن الباقلاني لا
يريــد منك أن تقف علــى الذي يريــده منك عبد
القاهــر وهو الأســرار والدقائق التــي طريق العلم
بها الروية والفكر،هذه الغاية الرائعة ليســت هي
كل مطلــوب الباقلانــي؛ لأن المطلوب منك بعد

ذلــك أن تلتقط من هذه الدقائق والأســرار نَفَسَاً


خاصــا بصانع هذه الدقائق والأســرار حتى تقول:

إنهــا َســبك فلان وصنعة فلان وأنه لايلتبس
عليك وســم صاحبها كما لا يلتبس عليك خطه،
أنــت عند الباقلاني مطالب بــأن تزيد على بيانها
ً بيانــا آخر من بيانها وهو بيــان خصوصية مذهب
صانعها،وليس لك معين من خارج نفســك وإنما
أنت والشــعر والتدبر والروية والمراجعة لا غير،
وضــع هذا المنهــج بجوار ما نحن فيــه،وهو أننا
نقــرأ عن الشــعر والأدب أضعاف ما نقرأ الشــعر
والأدب فحفظنــا النقــد وجهلنا الشــعر وحفظنا
البلاغة وجهلنا الشعر .
وكان زمــن الباقلانــي الــذي هو القــرن الرابع
ً متميزا بوفرة العلماء الكبــار، فهو زمن الخطابي
والرمانــي وعلــي بن عبــد العزيز والآمــدي وأبي
علــي الفارســي والمتنبي وأبــي الفتح بــن جني،
وفــي الجانــب السياســي كانت قامات تتناســب
مع هذه القامات العلمية، فهو زمن ســيف الدولة
وعضــد الدولــة ومن علــى شــاكلتهم؛ لأن الأيام

ُتُحـْـدِث تناســبا بين رجالاتها وراجع التاريخ
كله إلى يومك الــذي أنت فيه، ومقصودي هو أن
القراءة المفضية إلى أسرار الشعر كانت تماشيها
وتعيــش معها قراءة في كتــب العلماء تبحث عن
الدقائــق والخفايــا والأســرار، ولم تكــن الدقائق
والخفاياوالأسرار التي في كتب العلماء أقل ًشأنا
مــن الدقائــق والخفاياوالأســرار التي في الشــعر
والبيان، وكان الباقلاني وهو يقرأ الشعر بسكون
طائــر وخفــض جناح،بجانبــه أبو علي الفارســي
يقــرأ في كتاب ســيبويه بســكون طائــر وخفض

جناح، ويســتخرج من جملة كلام سيبويه بابا من
أبــواب العلم،وفــي مجلس أبي علــي تلميذ نابه
يفهم كلام أبي علي بسكون طائر وخفض جناح،
ويســتخرج منه بابا من أبواب العلم ويزيد هذا
التلميــذ النابــه على شــيخه فيســتخرج من كلام
ًالخليل وسيبويه وأبي علي علما جديدا هو علــم خصائص العربية الباحــث عن الحكمةالتي
بنيــت عليها هذه اللغة فــي مفرداتها وتراكيبها،
ثــم لم يكتب أحــد بعده أي زيــادةعلى ما كتب،

ولم يكتب أحــد قبله كلاما يُذكر في الذي كتبه،
وبقي كتابه ً متفردا في تراث العربية وأنا أعني أبا

الفتح بن جنــي، والحقيقة أننا جميعا نُحدِّث عن تميزه
ولم ندرس أســباب هذا التميز،ونضع هذه
الأســباب أمام أجيالنا القادمــة،لعل االله يتيح لهم
ما لم يتح لنا، ولا أشــك في أن طريقة القراءة هي
من أهم أسباب تخلف المتخلف ومن أهم أسباب
تقــدم المتقــدم؛ لأن أســباب التقــدم والتخلــف
ليســت غامضة وأن القراءة السطحية التي تعودنا
عليهــا ورُبِّينــا عليها لا تصنع ً تفوقــا ولا تَقَدُّم إلا
بالتفــوق والمتفوقين، لــو أننا ربينــا الجيل على
كلمــات الباقلانــي التــي قلما نلتفــت إليها وهي
ضرورة التعمق وإحضار الفكر واليقظة واســتنفار
كل طاقــات العقــل والتركيز الشــديد في القراءة
أقول: لو أشعنا ذلك في مدارسناوجامعاتناوكان
الأســاتذة المعلمــون فــي المــدارس والجامعات

ســلكوا هذا الطريق ِوألفوه َولحَظه طلابهم فيهم
كما لحظ أبو الفتح هذا العمق في شيخه أبي علي
أقــول: لو غيرنا طريقةالقــراءة وأحضرنا القراءة
التي كان عليها علماؤنا لتغيرت أشياء كثيرة لن
تتغير إلا بها، ولا أشــك في أن مجيء كلمة « اقرأ »
أول بلاغ ربنا لنا، لا أشــك في أن هذا إشــارة إلى
أن ســر التغيير فــي هذه الكلمــة وأن الخروج من
الظلمــات إلــى النور مفتاحــه هذه الكلمــة، وأن
الظلمــات ليســت الكفر وحــده وإنمــا التخلف
ظلمــات والفقــر ظلمــات والجهــل ظلمــات،
وأن الكتــاب الذي أنزلــه ربنا لإخــراج الناس من
الظلمات إلى النور بابه كلمة « اقرأ » وأن الباقلاني
لما جعل الســبيل الواصل إلى برهان نبوة ســيدنا
رســول الله صلى الله عليه وسلم هو أن نقرأ بســكون طائر وخفض
جنــاح لم يكن الباقلاني إلا ً شــارحا لكلمة (( اقرأ ))
التي أضــاءت في غار حراء،والشــيخ عبد القاهر
حين يؤســس القــراءة علــى الرويــة يعنــي الأناة
والفكــر وأن ُتســقى القراءة مــن العقل َوتســقى
العقــل،لم يكن الشــيخ إلا ً شــارحا لكلمة « اقرأ »
التــي كانت أول ضوء أضاء للإخراج من الظلمات
إلى النور .
والقــراءة التــي قلت وأقــول: إنها مســكوت
عنها لهــا تاريخ حافل في حياتنــا العلمية، وتنبه
إلى أشــياء كثيــرة وأن علومنا ُ اســتقى بعضها من
بعــض، وأن نموهــا وتقدمها وازدهارهــا كان من

داخلهــا وأن كلام العلماء الكبــار يُضمِر ويطوي
فــي باطنــه ودائع لمن يأتــي من الأجيــال القادمة
يفطن إليها من يفطن منهم ويستخرجها ويضيف
بهــا لبنة جديــدة إلى العلم، وليــس لهذه الحركة
النامية في العلوم إلا القراءة التي وصفت بسكون
طائــر وخفض جناح ووصفت بأفضل من هذا عند
كل العلماء الكبار، حتى إنهم شــبهوا قدح العقل
للفكــرة في القراءة المطلوبة بقدح الزناد للحجر
الصلــد، والزنــاد يخــرج النــار الكامنــةفي قلب
الحجــر، وكذلــك العقل يخرج الفكرة الســاكنة
فــي قلب الــكلام، ولم يكــن فهم ظاهــر الكتاب
ً هدفــاوحده كماهو الحال معناوإنما كان النفوذ
من ظاهــر المعلومات إلى باطنها ثــم التغلغل في
هــذا الباطن ً بحثاعن فكرة مختبئة،فإذا لم توجد
فــي الكتاب فكــرة مختبئة أخــرج التغلغل وطول
البحــث والقدح والتفكير مــن نفس القارئ فكرة
مختبئــة،ولولا البحث في الكتاب ما خرجت من
مخابئهــا في عقــل القارئ،وكل هذا مــن القراءة
التــي عمادهــا الرويــة والفكــر والتــي يســقيها
العقل،فتربو أوتســقي هــي العقل فيزكو، وهذه
القراءة يجب أن تكون حاضرة بين أيدي الأجيال
الجديدة؛ لأنه لا سبيل إلى التقدم إلا بها،ويجب
أن يكــره الجيل الجديــد التخلف كمــا يكره أن
يقــذف في النار، ُ قلت: إن فهــم ظاهر الكتاب لم


يكن ً هدفا لكرام القراء من أهل العلم،وإن القراءة
الحيــة التي ُتَثَـوُّر الكتاب وتهيج أفــكاره، تحيي
َ الكتاب غير الحي، وتزيــد الحي حيوية ً ووهجا،
وإن القــراءة الســطحية المنطفئــة تقتــل الكتاب
الحــي، وإن القــارئ الحي لم يكن مســتقبِلا فقط
وإنما هــو أيضا يبعث ويرســل وينفث، وهذا هو
ًا
الــذي أفهمه حين أقرأ قــول المزني وكان صاحب
للشافعي، قال رحمه الله : « قرأت الرسالة للشافعي
خمس مئة مرة ما من مرة منها إلا واستفدت فائدة
جديدة لم أســتفدها فى الأخــرى » راجع كلمة « ما
مــن مرة منها » لأنه يؤكــد أن كل مرة من الخمس
مئة كان يســتفيد فائدة جديدة،ثم اســأل نفسك
هل بقي في ظاهر الرسالة شيءلم يستفده المزني
بعد قراءة الرســالةعشــرين مرة ً مثلا؟ أم أن هناك
خفايا وخبايا لم تتكشــف لهذا العقل الكبير من
كلام الشــافعي إلا بعد تكــرار القراءة خمس مئة،
ولاحظ أنه ترك القراءة وهو يستفيد أعني : لو أنه
قرأها بعد الخمس مئة سيستفيد .. واسأل نفسك
عــن النبع الــذي كانت تخرج منــه الفائدة؟ وقال
المزنــي ً أيضــا : « أنا أنظر في كتاب الرســالةعن
الشــافعي منذ خمســين ســنة ما أعلم أني نظرت
فيهمن مرة إلا وأنا أســتفيد ً شــيئا لم أكن عرفته »
وأقــول: فكــر في هذا وســتجد فيه أكثــر من كل
الــذي كتبتُه في هذا المقال،واســتخرج أنت من
كلام المزنــي القراءة المســكوت عنها وخاطب
بها الجيل الذي يجب أن يكره التخلف كما يكره
أن يقذف في النار .
كان أبو عمر الجرمي ً محدثا ً فقيها توفي ســنة
٢٢٥هـــ أعني بعد وفاة ســيبويه بخمس وأربعين
ســنة، وفاجأ أهل العلم بقولــه : « أنا منذ ثلاثين
سنة - هكذا قال - أفتي الناس في الفقه من كتاب
ســيبويه ».. قال أبو جعفر الطبري: « فحدثت به
محمد يزيــد - أراد المبرد - علــى وجه التعجب
والإنــكار» فقال : « أنا ســمعت الجرمي يقول هذا
وأومأ بيديه إلى أذنيه - وذلك أن أباعمر الجرمي
كان صاحب حديث فلماعلم كتاب سيبويه تفقه
في الحديث إذ كان كتاب سيبويه يتعلم منه النظر
والتفتيش » انتهى الخبر، وهذا الخبر يقدم لنا لونا
آخر من القــراءة، ولونا آخر من الفهم، ولونا آخر
مــن التأثير والتأثر، وخلاصته أن أباعمر الجرمي
لما استوعب مادة الكتاب لم ينتفع بها من حيث
هي مــادة علميــة، وإنمــا انتفع بطريقة ســيبويه
في اســتخراجها من كلام العرب وأنــه كان ينظر
ويديم النظــر ويفتش ويطيل التفتيــش فلم ينقل
علم سيبويه وإنما نقل طريقة نظر وتفكير وتدبر
ســيبويه،فأحدث ثورة في علــم الفقه والحديث،
وظل ثلاثين سنة يُفتي في الفقه من كتاب سيبويه
الــذي ليــس فيه فتــوى واحــدة، يجــب أن يفهم
الجيــل هذا حتى يعرف كيــف ينتفع وحتى يكره
التخلــف .. وأنا لا أخاطب الســادة العلماء وإنما
أخاطب الجيل الذي يُعد نفســه لحماية الأرض والعــرض والتاريخ وأن أي تفريط فــي إعداده هوتفريط في الأرض والعرض والتاريخ .
بقي ّ علي أن أنقل لك ً بعضا من أخبار ولع بعض
علمائنــا بتكرار قراءة كتاب ســيبويه قالوا : كانعبد الله بن محمد بن عيســى النحوي الأندلســي يختم كتاب ســيبويه في كل خمســة عشر يوماكأنه يتلوه تلاوة القرآن .
وكان القاضــي أبو الحســن الســعيدي يحفظ
كتاب سيبويه عن ظهر قلب .
وكان عبد الملك بن ســراج القرطبي المتوفى
ســنة٤٨٩ هـ مولعا بكتاب سيبويه عكف عليه ثمانية عشر عاما لايرى سواه.
قالــوا : وكان العقــاد يقــول : لأن أقــرأ كتابًا؛ عشرين مرة أفضل من أن أقرأعشرين كتاب لأنه يســقي الكتــاب من عقلــه كما يســتقي عقله من
الكتاب، وقد ُسئل شيخ كان شديد الحفاوة بعلم
عبــد القاهر فقيــل له : كم مرة قــرأت كتابي عبد
القاهر؟ فقال لا تسأل هذا السؤال ولكن قل : كم
نســخةمن كتابي عبد القاهــر بليت بين يديك ..
هذا والله أعلم