تعاني العلوم الإنسانية من التباس في النظر لمنهجيتها وتطبيقات نظرياتها بشكل عام . فظهور المنظرين والعلماء الغربيين منذ القرن السابع عشر جعل العلوم الإنسانية تنهج في بحوثها طريقا تاثر كثيرا بالأحداث التي عرفتها الثورة الصناعية والظروف السياسية السائدة وقتئذ مما دعا لتفرعها إلى شعب ماتزال تنقسم على نفسها حتى وقتنا الحاضر . واكتسبت تلك العلوم خصائص مما بني على افتراضات – غير تجريبية – قبل الدخول في مرحلة استخدام وسائل وآليات استقتها من علوم أخرى لتفسير ظواهر إنسانية قد لا تجدي فيها الدراسات الغربية نفعا مالم تخضع لبحوث ودراسات أكثر دقة وشمولية.
ونظرا لكون موضوع العلوم الإنسانية هو الفرد ومحيطه والمجتمع وتفاعلاته مع الأفراد والجماعات فإن الحقائق التي تتوصل لها الدراسات العلمية بهذا المجال تخضع لأبعاد متباينة منها البعد الفلسفي والبعد الإيديولوجي وغيرهما، مما ينتج عنه تأثّر الباحثين بمنظومة بيئتهم التي منها ينطلقون ؛ كمرجع غير معبر عنه وإنما يدخل ذلك المرجع ليصبغ جوانب البحث دون استئذان. ومهما يدعي العلماء من موضوعية في دراساتهم ، تظل لديهم الرؤية الدونية للذات موضوع الدراسة ... وكل بحوث "دوركهايم" و "جون ديوي" و "بياجيه" و"فريديريك تايلور" و" جوستاف لوبون" وغيرهم؛ تفيد أن العالم يظل ذلك الجزء من بيئة أفرزت نظريات وباتت تعتقد في "قدسيتها" – إلى حد ما – ولاتقيس الأمور إلا اعتمادا على مرجعيتها. وقد ظهرت نزعة عصفت بادعائهم الموضوعية والحياد كشرط علمي للبحث.
أما معاهدنا وجامعاتنا فإنها تعتمد مناهج العلوم الإنسانية الغربية كمسلمات لا تقبل النقاش وتحشر عقول الطلاب في آلية الحشو الإجباري بما لايجدون له صورة في مجال التطبيق . وإن من أساتذتنا من يتلون نصوص النظريات على الطلبة بصيغة توحي بتنـزيه المصدر عن النقد؛ ويرفض أي تصرف فيها مما قد يبديه الطالب في معالجته لسؤال حول الموضوع. وكأن ما جاء في محاضرة الأستاذ من حقائق، مطلق لايرقى إليه الشك .
ولئن كانت التقنيات الحديثة قد وفرت للباحثين وسائل أكثر دقة وسرعة فليس من اللائق استمرارنا في وضع الببغاوات نردد ما يملى علينا دون إعمال عقولنا ودون حشد الهمم لإقامة صرح لعلوم إنسانية تأخذ في اعتبارها مقومات مجتمعنا و تنقب في رصيده لانتقاء مايصلح منه كوسائل لفهم الظواهر العديدة وتفسيرها بما يؤهلنا لمسايرة الركب الحضاري – الظاهر – والتفاعل معه بما يضمن احترام هويتنا وخصوصيات ثقافتنا. وقد يقول قائل : سبقنا الغرب ولا سبيل لنا للحاق به ... فأدعو القائل لقراءة المستجدات بهذا المجال قراءة فاحصة، وسيعثر على سمات الأزمة بل الأزمات التي تعاني منها العلوم الإنسانية الغربية بكافة فروعها. وسبب تلك الأزمات – باعتراف المختصين – أن الأساسيات المكونة للنظرية عندهم لاتستند إلى مبادئ يقينية بل كان بناؤها منذ البداية يستجيب لظروف سياسية واقتصادية معينة ، واليوم ظهرت ظروف غير تلك الظروف وتبدل الناس غير الناس، فأعيد النظر في العديد من المفاهيم لتدارك ما علق بالحقائق السابقة من تحيز وأوهام كالتي حددها "فرانسيس بيكون" في أربعة أوهام واعتقد جازما أنها ملازمة الإنسان ويستحيل التخلص منها . وكذلك ما كتبه "جوستاف لوبون" في [سيكولوجية الجماعات]، وغيره كثير.
فمن تلك الحقائق ما لاتزال وستستمر كما هي إلى أن تفقد جدواها ومنها ما ثبت بطلانه فأقيمت على أنقاضه نظريات جديدة، ونحن هكذا في موقف المتفرج ننتظر أن يمدنا الغرب بالجديد لنصبه في عقول النشء. أليست لدينا حقائق يقينية نؤمن بها دونما حاجة للتمحيص والتأكيد على صحتها؟ يجد هذا السؤال آلاف الردود المتفقة على وجود تلك الحقائق دون مراء. متبوعة بعبارة ولكن! بينما الوضع الراهن لا يسمح بأسلوب الاستدراك السلبي الذي غدا غذاء العقول المتراخية التي لاتنظر إلا للورقة الأكاديمية التي سيحرزها المتلقي بعد ترديد ما أملي عليه خلال عدد من السنين بين جدران أربعة. وتحضرني مقولة :"من اعتمد على زاد غيره طال جوعه !"