أدرت محرك السيارة . إلى أين ..لا أعلم ! فلقد تركتُ لسيارتي حرية الركض في طرقات المدينة المنورة على غير هدى وطفقت أجوس بمخيلتي في فجوة الصمت المكتظة بصخب الأفكار وتزاحم الأسئلة , أُفرغ الذكريات من حقيبة السنين الملأى بمشاهد لم يوقف تدافع حشودها سوى تلك الإشارة المرورية الرابضة عند منتصف طريق العنبرية , عن يمين تلك الإشارة أبنية شاحبة تستجدي بواعث الدمع من مآقي العابرين وهي تدلي بشهادتها في صمت على ما تبقى من مكان يُقال له حوش الراعي أما عن يسار الإشارة فأنبتت الحضارة فندقاً بديعاً يُعنون لمرحلة الآن اتي تعيشها المدينة , عُدت بالذاكرة القهقرى إلى أصيل ذاك اليوم من أيام الصبا ومقتبل الشباب حين كانت الشمس تخطو فوق بناء الاستصيون الأثري في طريقها نحو المغيب , تلم في آخر الدروب المتاخمة للغروب أطراف أشعتها قبل أن يبسط الليل غلالته على سماء المدينة . في ذاك الوقت كنّا نعبر أنا وصديقي بسيارتنا طريق العنبرية تاركين شمس الأصيل وراء ظهورنا تُكمل ما بدأته من نسيج الوداع بيد أن شمساً أخرى انبثّ شعاعها من أحد المسارب تحث الخطى على رصيف العنبرية وقد توارى وجهها المتوّج بخصلتين انسدلتا على جانبي الجبين خلف حجاب خفيف لا يحول دون نظرات التطفّل والفضول المنبعثة من أعين جوعى . تهلل وجه الفتاة حين غمرته أنفاس الشمس الذهبية ليُنبت في أحداقنا حنيناً أينع خفقة حين أجرت عليه ابتسامتها التي حرت في أمرها ..
هل كان ذاك الثغر يُخاطبني بلغته التي تختزل الحنان في حروف لا تُنطق ..
هل كان يخاطب صديقي بسؤال كان رجعه ابتسامة حيرى أطلّت من شفتيه ..
أم كانت تلك الابتسامة تعجباً من هذين الغرّين الّذَين يقودان سيارة في هذه السن المبكرة ..
أفلت الشمسان في آنٍ معا وأشرقت في قلبي لحظة حب أجترّها بالتذكّر كلما طرقت ذاك المكان .......
أين نحن الآن ؟
أنا هذا الماثل أمامكم حرفه المتعلّق بأهداب الذكرى ..
صديقي غادر الحياة بعدما ذوى قنديلها النابت بين أحناءه حين هوى نجمه في تجاويف لياليها - رحمه الله - ..
وهي جِرم يسبح في ملكوت الله . أين ؟ ..لا أعلم ..- أسعدها الله - ..
.
.
ابن المدينة / يوسف الحربي ..