موعدٌ مَعَ الخِلافَة



لم يعد بإمكان أحدٍ قط إغفال تلك الحملة العالمية المعادية للإسلام. والتي طالما تم طرحها تحت عناوين شتى، كالحرب "الوقائية"، والحرب على "الإرهاب"، وعولمة ثقافة "حقوق الإنسان" ونشر "الديمقراطية" وما شاكل من مزاعم، ليس مقام بحث زيفها وتداعيها ونسبيتها هنا.

ولإحداث شرخ بين المسلمين، فقد اعتاد الغرب تناول الإسلام في خطابه الرسمي مقسماً المسلمين إلى "معتدلين" و"متطرفين"، محاولاً بذلك تشتيتهم، طامحاً إلى تفريخ إسلامٍ مرن ومتطور يميع أحكام الإسلام وينتج إسلاماً على الطراز الغربي. ألا إننا شهدنا في الآونة الأخيرة هجماتٍ فجَّةً ومباشرةً ومتعاقبةً في آن معاً على قضايا تمسُّ أحكاماً مجمعاً عليها، كتحكيم الشريعة والخلافة وجهاد المحتلين الغزاة، حيث أصبح التعرض "لإسرائيل" ولو بمجرد الكلام، أمراً مثيراً لسخط الغرب ومؤججاً لغضبه بشكلٍ غير مسبوق، ما يعني أن حملة علمنة الإسلام لم تحقق المرجو منها. ولذلك فقد آثر الغرب أخيراً مواجهة الإسلام كما هو، واصفاً جوهر ما يقوم عليه بأيديولوجية شر لا بد من وأدها في مهدها.

وهكذا صرنا نرى أبعاد الصراع واضحة المعالم، وأنَّ فريقي الصراع هما: أمة الإسلام من جهة - وليست أيٍ من جماعاتها بمفرده- والغرب - مجسداً بالقوى الرأسمالية الكبرى- من جهة أخرى، وبات واضحاً للعيان أنَّ "سيمفونية" القضاء على الإرهاب ونشر الديمقراطية وغيرها من الترهات، ما هي إلا مجرد حجج لاستئصال الإسلام وتركيع المسلمين.

وبما أنّ أية أمة لا يمكن أن تدخل حلبة الصراع الدولي بشكلٍ فاعلٍ من غير أن ينتظم عقدها في كيان سياسيٍ تمثله دولة بكل مقوماتها وإمكانياتها، وأن مشروع دولة الخلافة هو ما يحقق ذلك وحده دون سواه للمسلمين، الأمر، الذي حدا بالغرب مهاجمة فكرة الخلافة بغية الانتقاص منها وإضعاف الداعين إليها، محاولاً تشويهها وتقديمها في ثوب يقطر دماً ويقدح شراً.

وفي هذا السياق تأتي تصريحات وزير الداخلية البريطاني تشارلز كلارك الأخيرة موضحاً: "إنّ مسألة إعادة الخلافـة وتطبيق الشريعة الإسلامية أمران مرفوضان لا يقبلان النقاش أو المساومة" معتبراً "أن هذه القيم أساسيّة وغير قابلة للتفاوض ...". وقد سبقه إلى ذلك رئيس وزراء بريطانيا توني بلير حيث أعلن تبنيه لما سلف مضيفاً إليها موضوع القضاء على دولة "إسرائيل"، معتبراً "إن تحكيم الشريعة في العالم العربي، وإقامة خلافة واحدة في بلاد المسلمين، وإزالة نفوذ الغرب منها، هو أمرٌ غير مسموح به ولا يمكن احتماله مطلقاً".

وعلى النمط البريطاني، قام رموز الإدارة الأميركية بالتحذير بشدة من الخلافة، فبعد تتالي وتكرار تحذيرات الجنرال مايرز ورامسفلد من الخلافة، فها هو بوش يحذّر من قيام الدّولة الإسلاميّة التي ستمتدّ من إندونيسيا إلى الأندلس، منبهاً إلى: "إنَّ استراتيجية أوسع لناشطين إسلاميّين تهدف إلى إنهاء التأثير الأميركي في الشرق الأوسط، واستغلال الفراغ الناجم عن ذلك، في الإطاحة بأنظمة للحكم في المنطقة" وأضاف "إن المخطَّطَ الأكبر هو: إقامة إمبراطوريّة إسلاميّة متطرّفة من إسبانيا وحتّى إندونيسيا». ويتطابق هذا أيضا مع ما ذهب إليه بوتين عن التهديدات التي تؤرقه في آسيا الوسطى، منبهاً إلى "إنه يوجد من يعمل على إسقاط الأنظمة العلمانية بغية إقامة دولة إسلامية في آسيا الوسطى".
والخشية من دولة الخلافة والتهجم عليها وعلى تحكيم الشريعة بهذا الشكل غير المسبوق، تحمل عدة دلالات أسوق أبرزها على النحو التالي:

1. بأنه لا يوجد الآن نموذجٌ ميداني يمثل المسلمين ويجسد هويتهم كأمة. وهذه حقيقةٌ لا مراء فيها، حيث إن الأنظمة المقيتة المتحكمة بمصائر الأمة الإسلامية فاقدة الشرعية والشعبية، مسلطةٌ عليها بغطاءٍ جليٍ من قبل الغرب، مُشَكِّلَةٌ حائلاً واضحاً دون نهضة الأمة ووحدتها.
2. بأنَّ الأمة الإسلامية قد أسقطت البدائل التي حاول الغرب تسويقها إليها، وأنها لم تعد ترى سوى الإسلام ملاذاً لها، كما أنها باتت جاهزة أكثر من أي وقتٍ مضى لمعانقة التغيير الذي يوحدها ويحكم شرع الله فيها ويضع حداً لتمادي أعدائها عليها.
3. إنَّ إصرار زعماء الدول الكبرى بالانتقاص من الشريعة والنيل من فكرة الخلافة بل وعملهم على تشديد قوانينهم لمحاربة أي شكلٍ من الإسلام السياسي الذي ينتمي إلى فكرة الخلافة، ليدلُّ على حالة الأرق من احتمال نجاح دعاة الخلافة في تحقيق مشروعهم، ذلك الذي يشكل نموذجاً فريداً على الصعيد الدولي لمباينته كل ما هو موجود من أنظمة، مما سيغير قواعد اللعبة السياسية القائمة بشكلٍ أساسي، ويشكل معها منعطفاً جديداً على صعيد النظام العالمي.

وخلاصة القول هو: إن نظرة متفحصةً في الواقع الدولي، يجعل من الأمة الإسلامية وحدها هي من يستطيع إيجاد حدّ للسفه الذي ترعاه الدول الكبرى من خلال المؤسسات الدولية. ويرجع ذلك لطرح الإسلام رؤية إنسانية بحق، كبديلٍ عن الرأسمالية السائدة، أضف إلى ذلك الأهمية الجغرافية والثروات والمقدرات التي تمتلكها الأمة، ما يعني أن قيام دولة الخلافة فيه طرح لنظام عالمي جديد بلا أدنى شك.

ولعلَّ ما ذهبت إليه تصريحات كبار ساسة الغرب، وما أصدرته مراكز البحوث والدراسات العالمية من احتمال قيام دولة الخلافة، لينبئ بأن الجمر مشتعلٌ تحت الرماد، وإنَّ خطوات الغرب التي يتخذها الآن ضد فكرة الخلافة وأنصارها، ما هي سوى محاولة أخيرة يائسة منه لوأد تلك الفكرة قبل أن تنجب واقعاً يصعب التعامل معه. على كلٍّ فإنّ كثرة الحديث عن الخلافة، يجعلنا نستبشر بقرب بزوغ فجرها من جديد، فكما قال الشاعر:
أرى خلل الرماد وميض نار ---- وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ------- وإن الحرب مبدؤها كلام