ذاكرة ضائعة
حاول أن يتذكر جيداً ما حدث ، أفكاره ما زالت مشوشة .. لقد قال الطبيب منذ قليل إنه يستطيع أن يمشي على قدميه مرة أخرى .. شهر كامل وهو يرقد في سرير المرض تحت العلاج .. جرح قدميه كان خطيراً .. ولكن الجرح الذي في عقله كان أخطر بكثير .. فإنه لا يتذكر أي شئ عما حدث بل لا يتذكر شيئاً عن حياته السابقه كلها ..
قالوا إن المعركة كانت أكبر من إمكانياته .. بل مستحيلة بالنسبة إليه ، فهو لا يملك في بيته أي سلاح .. زوجته التي كانت تغط في نومها القلق قالت إنهم أوسعوه ضرباً كادوا أن يحطموا كل عظامه لم يرحموه وقف أمامهم كالأسد يدافع عن عرينه ولكنهم لم يمهلوه الوقت ..
إنهالت طلقاتهم على باب البيت قامت زوجته فزعه حماها بجسده النصف عاري .. إنه لم يشترك في أي مقاومة ظل على الحياد ، ولا يظن إنهم سيصلون لبيته الريفي .. فهو بعيد عن العمران بكثير .. في كل صباح كان يقرأ الصحف .. سقط النظام القديم .. السادة القادمون سيرحمون البلاد من الحكم الفاسد .. لا يصدق .. ولكنه في نفس الوقت يرفض الإحتلال بعقله وكيانه .. ولكنه كان يخاف على أسرته الصغيرة ، وأحلامه القديمة ، قطعة الأرض التي يملكها .. كل ذلك فقده .. عقله يرفض التذكر .. ذهنه شارد في منطقة منعدمة الرؤية .. الضباب يلف كيانه كله ، بدأت المقاومة تزداد في بلدته المنعزلة .. لم ينضم إليها وقف موقف المتفرج اليقظ .. بلاغ كاذب لم يعرف من أين أتوابه .. ولكنهم أقتحموا بيته عند الفجر .. حطموا بوابته الرئيسية وأقتحموا سريره .. نزعوا زوجته من بين يديه .. عروها أمامه بكى حسرة وأصابعهم تداعب صدر زوجته في تلذذ بشع .. صرخ ، إزداد عبثهم جاثوا خلال جسد إمرأته .. تشبث بأقرب جندي إليه ركله الجندي في بطنه وهو يسبه .. إرهابيون .. واصل صراخه وأظافره تخمش وجه الجندي الذي صرخ بدوره وهو يضربه بظهر البندقية الآلية .. ثم إنهالت الضربات على رأسه بمنتهى الوحشية والعنف ..
تلقى عدداً من الرصاصات في قدميه وضحكاتهم من حوله تتزايد .. المحررون يفكون قيود ذل الحكم القديم أين هم من الحاكم القديم بكل جبروته ؟ .. يحررون جسده من ذلك العبودية .. يمزقونه .. يحطمون عظامه .. خلايا مخه تئن تحت ضرباتهم .. يفقد عقله تركيزه .. تتلاشى ذاكرته ويسقط في بئر النسيان .. إنتهوا من تفتيش البيت ومن توغلهم القذر في جسد زوجته .. غاب عن الوعي أفاق إلى نفسه وهو يترنح إلى باب الحمام .. أسند زراعه إلى الحائط .. المستشفى يعج بالمصابين .. القدم الصناعي التي صنعوها من أجله في أوروبا لا تؤدي عملها بشكل كامل .. صوره تصدرت الصحف الأجنبية .. لقد تعطف الرئيس الأمريكي عليه بمنحه قدم جديدة .. المحررون يشكلون جسده الجديد .. يجب عليه أن يشعر بالإمتنان .. عقله يئن .. ومضات خاطفة تومض في عقله .. يحس بالإمتنان لجيش التحرير .. ثم يرفض كيانه ذلك الإمتنان الزائف .. يقف في شرفة المشفى يتطلع إلى الدمار حوله .. يفيق إلى نفسه .. يخلع القدم الصناعي ويقذفها بكل قوته من أعلى .. ودموعه تتساقط على وجنتيه ولا يستطيع التذكر ..