جلستُ إلى جوار مصبّ النهر الهرِِم، بُعيدَ إقبال الليل المدلهمّ ، أكرع من أكؤس آلامي المريرة على مائدة خانت صداقتي وأبلت حبال مودتي "ببسّام" ؛ ذاك الصديق الذي عرفته منذ عشرين موتا وعشرين حياة، عاش طوالها في خلدي مبجلا مكرما كما يعرف صديق من صديق . وجلس الليل إلى جانبي يواسيني بل يلومني على بذل الغالي للرخيص قال: « ماأعجب طباعكم معشر بني آدم؛ نعلمكم فتنسون، ونذكركم فتنسون، ونقرئكم تدالولنا الأحزان فتنسون! أنا لست صديق النهار -كما تعلم- ولكننا رفيقان نظلل تعاستكم، ونشعل قناديل نعاسكم، نتناوب أويقات هجوعكم وصحوكم ... فأقرض رفيقي النهار ساعات إبان عصر الكروم وتذرية البيادر على أن يردها لي متى آن اصفرار وشي الخمائل وسبات الكائنات تحت الصقيع، فلم يخلف لي وعدا ولم أبخسه حقا مذ عرفت الأحزان والأفراح والموت والحياة ... تأوه مرتين ثم أردف: كم شهدت لكم آثاما وآلاما وأحلاما، وكم شهدت لبعضكم تضرعا وتهجدا ودعاء وتسبيحا ! ولكن أكثركم يجرحون سوادي ويهتكون أسرار صمتي بشرر من عيون غادرة خائنة وأيد آثمة لئيمة...
آه! ماأظلمكم وأغباكم معشر البشر... تململت بداخلي حمية تدافع الحروف والألفاظ، وهمّ لساني أن ينسج نطقا لبعض كلام فبدا كالمترافع في صدر محكمة اللا إنصاف؛ فعاجلني الليل مستطردا: لا تقل شيئا ! فإن أي كلمة تطلق عنانها ستطير برشدي وتزيد من حنقي ... إنكم تدعون أنكم تفكرون وتدعون المنطق والحجة ؛ وما حجة قوم منكم سوى نفاق يدس إيهاما بوجه حقيقة لاوجود لها لديكم إلا متى كان وراءها مأربٌ خسيس ...
وإذا ضياء الفجر يطرد خيلا من حاشية الليل بح صهيلها فارتدت على أعقابها نحو اللامنظور من ذاك المصب الهادر. لم الليل جلابيبه واتجه صوب ساحة المعركة حيث يدور سجال بين أذيال الظلمات وبواكير الأنوار المقبلة في جحافل تحيطها الزغاريد ويتخللها التهليل والتسبيح في أعذب لحن شهدته الدنيا، مرتلا في أهاجيز الربيع الزاهي بأطياف تبصرها الآذان وترى شدوها العيون الكحيلة على نرجس يباهي الشقائق والجلنار .