شحن الأسماء
علاقتنا مع هذه اللغة التي يشتغل بها العقل واللسان محكومة بقانون الفعل وردّ الفعل . وغالبا ما تكون هي الفاعلة فينا ونحن المنفعلين بها ، هي المؤثرة ونحن المستجيبين انجذابا موجبا ،أو سالبا .
لقد شحنّا الكلمات والتراكيب بأنواع مختلفة من الطاقة الانفعالية (المعنوية - العاطفية ) عبر تاريخ استخدامنا لها كبشر . وها هي الكلمات والتراكيب تتحول حسب طبيعة شحناتها إلى حقول كهربائية صغيرة متناثرة في مدى وعينا اللغوي وتفكيرنا . هاهي قراراتنا المصيرية في الحياة جماعاتٍ وأفراداً تتردد في وعينا الكلي والجزئي، بين الانجذاب والنفور،من تلك الحقول الكهربائية المحيطة بالأسماء والمصطلحات . ضمن التراكيب اللغوية أو بدونها .
إنَّ ولاءنا وبراءنا وعقائدنا الثابتة وآراءنا المؤيدة أو المضادة وميولنا الفكرية كل ذلك انجذابات موجبة أو سالبة، لحقولٍ من الطاقة تحيط بالمفردات اللغوية . حقولٍ شحنّاها بنوعين اثنين من الطاقة العاطفية المكثفة : الحبّ والبغض .
فمتى وكيف تتكوّن هذه الحقول ؟ وكيف تكبر أو تصغر مع الزمن؟ وكيف تؤثر فينا ؟
لا شك أن للفعل الحيوي المسمّى (الفعل المنعكس الشرطي ) دوراً أساسياً في ربط المفردات أصلاً بنوع محدد من الطاقة الانفعالية . فعن طريقة آلية سلوك التعلم بالفعل المنعكس الشرطي يبدأ الطفل بالتمييز بين المعاني عندما يربط كمرحلة أولى بين الأسماء والمسميات المادية المدركة بالحواس في البيئة المحيطة به .
وتكون هذه المسميَّات( الأشياء المادية ) أولا مجردة من المعاني العاطفية الخاصة بالطفل ، إلا أنه ومع نمو الوعي المرافق للتمييز بين المسميَّات القديمة والمسميَّات الجديدة تنمو عاطفة الألفة، التي تجعل الطفل يصنف المسميَّات مبدئيا ً في نوعين : مألوفة ، وغير مألوفة
. وبطبيعة الحال فإن معظم المسميَّات المألوفة هي تلك التي تخص الطفل نفسه، كونها تنتمي بشكل دائم وثابت إلى بيئته . كألعابه وسريره وزجاجة حليبه وأمه وأبيه وأخوته . وهذه المسميَّات المألوفة أو الأليفة هي التي تستجلب الراحة والسرور للطفل عبر تلبيتها حاجاته العضوية . ومن ثمَّ فإنّ تفتّح وعي الطفل على المألوف من المسميَّات يربط ميل الطفل إلى هذا المألوف على سبيل التلازم . وأقصد بالتلازم أن الطفل يميل إلى المسميَّات المألوفة ويتمسك بها بشدة لكونها مألوفة . وسر ذلك أن المألوف يوفّر أمناً ما ، ثم يتحول التلازم بين الوعي والميل للمألوف إلى حالة الامتلاك في مرحلة تالية .وذلك عندما تنشط غريزة التملك . ولأن الطفل سيصطد بالممانعة التي لا تسوغ له امتلاك كل المسميَّات، فإن المسميَّات ستنتقل بالوعي إلى مرحلة التمييز بين ( لي وليس لي ) . فما كان لي فهو في مقام الانجذابات الموجبة ، وما كان ليس لي فهو في مقام نفور الطفل منه .
وسنرى فيما بعد كيف أن هذا المعيار في التملك أو اللاتملك سيبقى حتى نهاية العمر يدير الصراع النفسي عند كل قرار يتوجب فيه الاختيار بين حالتين نفسيتين متفاوتتين في توفير الأمان النفسي . ولكل من هاتين الحالتين اسم يختلف عن الآخر .
وغالبا ما تكون الدلالة المعنوية الخاصة بكلّ من الاسمين مشحونة بكل الطاقة الانفعالية التي تم تخزينها عبر تاريخ العلاقة مع المسمّى الخاص بها .
يتبع بإذن الله ..