السلام عليكم
قصيدة تلفت الانتباه بتدفق إيقاعها وموسيقاها الداخلية ، والشيء الغريب فيها؛ أن الشاعر قد استخدم في نظمها إيقاع البحر الكامل التام مذيلاً . مع العلم أن التذييل والترفيل ، وفقاً لقواعد العروض ، لا يأتيان إلا مع مجازيء البحور .
حُبُّ الوَرَى عِنْدِيْ كَفَرْضِ كِفَايَةٍ = إِلَّا هَواكَ لَدَى فُؤَادِيَ فَرْضُ عَينْ
لَكَ أَلْف بِيتٍ قَدْ بَنَيتُ بِدَاخِلِي = أَرْجُوكَ لَا تَسْأَلْ مَكَانَكَ أَينَ أَينْ
فَأَنَا وَهَبْتُكَ مُهْجَتِيْ وَ جَوَارِحِي = وَرَضِيتُ أنْ أَبْقَى وَحيدًا بَينَ بَينْ
إن جزءاً من هذه السلاسة في الموسيقا الداخلية قد يرجع إلى استخدام ما توشح القافية من خفة ظل المعنى، مع الجرس المنبسط لحرف الردف (الياء)، وما تلاه من حرف الروي (النون)، في هذه القافية المقيّدة . فالنون يتجانس تماما مع حرف اللين لأنه أشبه به . وأما خفة الظل فقد أضافت لطافة المعنى، وشيئاً من المرح والرشاقة على القافية .
فالقافية الأولى ( فرض عَيْن ) جاءت من الناحية البلاغية على سبيل المقابلة مع (فرض كفاية) في عروض الصدر . والمعنى المرح يتأتى من الإحساس بهذه المقابلة ، وما تضمنته من تشبيهين ناجحين طريفين . وأما القافية الثانية (أَينَ أَينْ) فاللطافة فيها جاءت من اللجاجة في السؤال المكرر (أَينَ ؟أَينْ؟) كما قد يسأل ملهوف لمعرفة الجواب .
وفي القافية الثالثة لطافة تأتي من الوضع القلق الذي رضي به الشاعر لنفسه بعد أن وهب جوارحه ومهجته لصديقه فلم يبق له من جسمه شيء يعيش به سوى أن مهجته وجوارحه ما تزال في جسمه، وإن كانت ليست من ملكيته، فهو إذن منها بين بين ،أي : له وليست له ، وهذا المعنى القلق يثير لطافة ومرحا معنويا، أشبه بالنكتة . والأمر نفسه في المقابلة بين اقتراب الشاعر بخطوة، وابتعاد الصديق عنه بخطوتين، في البيت
أَوَ كُلَّمَا مِنْكَ اقْتَرَبْتُ بِخُطْوَةٍ = عَنِّيْ ابْتَعَدْتَ وَسِرْتَ عَكْسِيَ خُطْوَتَينْ
ولاحظوا معي اللطافة المتأتية من فرق السعر بين من يرخص اللقاء بأن يدفع ثمنه دمعة واحدة للحصول عليه ، ومن يغلي ثمن اللقاء بأن يسكب دمعتين لعدم اللقاء (الفراق)
إَنْ كُنْتَ أَرْخَصْتَ اللِّقَاءَ بِدَمْعَةٍ = فَأَنَا سَكَبْتُ عَلَى فِرَاقِكَ دَمْعَتَينْ
وهكذا تتوشح خفة الظل البيتين الأخيرين من القصيدة الأولى ،عندما يجعلنا الشاعر نتصور بأن مضاعفة عدد الجوارح (الأعضاء )، ستؤدي إلى مضاعفة مرات الحب ،أو مضاعفة كميته.
وَاللهُ يَعْلَمُ كَمْ وَدَدْتُ بِأَنَّ لِي = ضِعْفَ الجَوَارِحِ كَيْ أُحِبَّكَ مَرْتَينْ
فَلِمَ الخِصَامُ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّنِي = كَمْ عِشْتُ أَحْلُمُ أَنْ أَضُمَّكَ بِاليَدَينْ
وفي البيت الأخير يحل دفء المعنى وحميمية الصورة الشعرية محل اللطافة في البيت.
وإذا كنا سنتساءل عن الفارق بين القصيدتين من حيث الاستساغة ،فعلينا أن نلاحظ أن القصيدة الثانية جاءت محملة بالشجن والكآبة والعتاب الرقيق، منظومة على وزن البسيط المرن، الذي يهبط ويصعد بإيقاعه متموجا ومستوعباً ما علا من الشعور وما هبط منه . وفي أبياتها ليس سوى الهبوط المعنوي الوجداني العميق .وأرجّح أن الشاعر قد كتبها أولاً، ففرّغ فيها كل طاقته الانفعالية الغاضبة، فجاءت محمّلة بشحنة ثقيلة من الحزن والمرارة من إثر الخذلان . .؟، قبل أن يتمكن من كتابة القصيدة المرحة .
طَوَّقْتَنِـي بِالأَسَى حَتَّـى تَعَلَّقَنِـي = مِنْكَ الشَّقَاء فَصَـارَ البُعْـدُ لِيْ كَفَنَا
فَكَمْ نَصَحْتُكَ سِرًّا لَا أُرِيدُ سِوَى = وَجْهَ الإِخَاءِ ، لِمَاذَا بِعْتَنِيْ عَلَنَا ؟!
لَمَّا رَمَيْتَ بِسَهْمِ الزَّيْفِ فِيْ كَبِدِي = وَخُنْتَ فِيْ سَاعَةٍ مَنْ لَمْ يَخُنْ زَمَنَا
طِبْ أَنْتَ عَيْشًا وَخُطَّ اليومَ في قَدَرِي = إِنِّي خَذَلْتُ صَدِيقِيْ ، واسْتَرَحْتُ أَنَا !!
أحيي الأستاذ الشاعر عصام الفقيري
وأسجل إعجابي