الطلقة الأولى
- ادفعي لأسفل .. تنفسي بعمق ..
- تعبت .. لي أكثر من ثلاث ساعات أدفع ، أتنفس ، حتى شعرت أن جدران و سقف الحجرة ؛ تضغط عليَّ ، تُساعدني ..
- ساعديني ، إنني أرى الرأس ، اضغطي أكثر ..
انقطع جهدي ، لم أستطع التحمل ، تكاد بطني تنفجر ، عيناي تخرجان من محجريهما ، ليتهم يعلمون أن طفلي ، لايريد الهبوط للدنيا ، لعله يرهبها ، أو أنه لايرغب في رؤيتي .
تدخل أمي يكاد ينفطر قلبها خوفاً ، تناشدني أن أساعد الطبيب في دفع سيارة طفلي حتى يترجل منها على فراش عمري ..
أبكي من الألم المبرح ، كل طلقة ، تكاد تنخلع معها أعمدة ضلوعي ، لتهوي روحي ، فأموت ..
- والله يا أمي .. أساعده ، تعبت ، شارفتُ على الموت ..
- رأس المولود بيدي ، شعره أسود متفحم ، إنها مُتعبة ..
صرختُ صراخاً ميتاً ، لم أعد أحتمل ، لن ألد ، لا أريد الصراخ ..
- أتركـــوني .. أتركـــوني ، سأبقى هكذا حتى الموت ، أخرج .. أنتَ لا تفهم شيئاً ، أنتَ لستَ طبيباً ..!! من أي الحظائر أتوا بك ..؟
ينهض من أمامي ، يجمع بعضه – كله – يرحل ..
لأبقى بين أيديهم جرح ينزف ، يؤلمهم جميعاً ، بدفقات خوف عليَّ وعلى وليدي ، الرافض للحياة ..
كل طلقة تأتي ، كأنها قطار يمر بلا هوادة فوق فلنكات جسدي ليدهسه ، أبكي ويبكي الجميع من حولي ، يحملونني بسيارة لأحد المستشفيات ..
لم يعد لديَّ قوة ، فقد وَلدتُ قوتي ولم ألد طفلي ..!! يحملونني حملاً ، عندما تأتي طلقة جديدة ؛ أقفز- أرتعد – أتلوى من شدة ألمها ، أصرخ صراخاً أبكم ..
أمام المستشفى .. يحضرون سريراً متحركاً ، يأخذوني ، تأخذ أمي غطاء رأسي وحذائي ، يجري بي الممرض ، حالة مستعجلة ، الجميع يستعجل ، طفلي – الوحيد الرافض الحياة ، لا يشفق عليَّ من شدة الألم ، شعرتُ أني أتعرض لعملية أغتيال - طفلي - هو من يقودها..
تُفتح لي الأبواب ، يدفعوني بالسرير ،كما يدفع بالخبز داخل فرن مشتعل ..
أدخل باباً مظلماً ، بمفردي ، أنظر لأمي ، أستنجد بها ، تضغط على يدي بنظرة من عينيها ..
رحلة قاتمة ، يدفعني الرجل بعنف ، من جهة قدمي ، حتى شعرت أن ابني سيخرج من فمي ..!!
لا زال الألم العابث – الطائش ، يتتابع سعيداً ينهش أعضاء - أعضائي ..
أنظر بالباقي من فتات بصري ، أرى نساءاً جالسات ، منهن من تبتسم ، من تصرخ - تتأوه ..
أدخل غرفة إعدامي .. هناك امرأة تصرخ ، لي – لها، يلتفون حولها ، يعنفونها ، تلد- طفلها - هي- يصرخان ، ضاع ألمي ، غرق في بحر صراخهما ..
أنام .. سبعة أطباء يلتفون حولي – الذبيحة – يبتسمون ، لايعلمون بكم الألم ، كأنهم يستعذبون آلامي ، يصرخ أحدهم ..
- أضغطي .. لأسفل ، كلا ، لن أضغط ..
تناشدني .. طبيبة صغيرة شفقة عليَّ ، أن أنفذ مايقولونه ..
لي أكثر من خمس ساعات أضغط – أدفع ، هلا رحمتوني ، نفذي يا امرأة ، وإلا أحضرنا ( الجفت ) وأجرينا لك جراحة ، إفعلوا ما شئتم ، لن ألد بهذه الطريقة ، فلو كانت صالحة لكنت ..
يضربني أحدهم على فخذي ، أصرخ - مرة - مرتين ، كنافورة ألم في وجوههم جميعاً ، أنهض من فوق الفراش المتسخ بدم وبقايا مياهٍ أسودٌ لونها ..
- لن ألد .. أتركوني ، سأرحل ، لن ألـد ..!! تقترب الطبيبة مني ، صدقيني ، وليدُكِ نراه جميعاً ، ستقتلينه بعِنادك ، تعالي .. كلا .. لا دخل لكم بي – به سأرحل ، حتى وإن مت – متنا ..
أسير بدهليز مظلم ، مبعثرة الشَعَرِ – الشعور ، حافية القدمين ، عارية من كرامتي التي تركتها هناك ، جثة هامدة فوق السرير الملوث ببقايا نساءٍ ، خلقن ليتعذبن برسالتهن ..
الجميع ينظر إليَّ ، كأني جننتُ ، يضربون أستفساراً فوق أستفسار ، عيون الخوف والإندهاش تتبعاني ..!!
الممر لا ينتهي ، الظلام الدامس يحوطني ، لو كانت هناك كاميرا تصور هذا المشهد لفزتُ بجائزة أوسكار كبطلة لأكبر أفلام الرعب ..
تقفز إحدى الطلقات المؤلمة من فوق قارب جسدي ، لأهدأ بعض الوقت ، أستريح ..
أعود بذكرياتي للوراء ..
- ادفعي ..
- هيا .. ساعدينا ، سيخرج وليدك الآن ..
صرخة أخيرة تمسك بيديها الطفل لتنزل به ، فيهدأ الجميع ..
يعطيني الطبيب – المولود – يسترشد بي ، ليرى العالم الجديد ، فأُ غسِلهُ ، ألبسه ثيابه التي سيواجه بها العالم ..
تخرج الأم ، تحتضن طفلها ، أذهب إليها من آن لآخر ؛ لأداعب ضيف الحياة ، أشم عبق الطفولة في راحتيه ..
انتهت نوبتي ، لليوم الأول لي بهذه المستشفى ، التي ألحقني للعمل بها أحد أصدقاء أبي ، بعدما انتهيت من دراستي ..
ما أروع أن تولد على يديك حياة جديدة ..!! تكون أنتَ أول من يستقبل سائح جديد، لا يحتاج جواز مرور لدخول الدنيا ، لديه الإقامة الجبرية ، برغم أنف الجميع ../align