السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ،
تحية تقدير للجميع ،
إن الخليل رحمه الله ، كما يُدرَك من دراسة دوائره العروضية ، كان يؤصل للشعر العربي على بينة من أمره من خلال تصور عام مسبق ، قادته إليه عملية استقراء وتقص واستقصاء ، جعلته يدرك بفطنته أن هذا الشعر العجيب ينبني على تجاور الأسباب والأوتاد , وأن بحوره تختلف وتتباين من حيث طبيعة وعدد الأسباب بين الأوتاد قبلها و بعدها وما ينتج عن ذلك من تغيرات .
لقد استقصى الخليل رحمه الله جميع احتمالات تموضع الأوتاد والأسباب في واقع الشعر العربي ووثق كل التغيرات الواقعة أصلا فيه على كل المستويات : حشوا و عروضا و ضربا وقام بالتأصيل لها وفق ما جمَّع من أشعار العرب .
والحق أن الدوائر الخليلية لم تترك لقائل مقالا ، وأنها لخير شاهد على ذكاء وفطنة هذا الرجل وأنها ــ وبلغة العصر ــ تعتبر بمثابة تلك الديباجة التي يُصَدر بها المؤلفون مؤلفاتهم ليبينوا للقارئ منهجهم في البحث من خلالها .
فإذا كنا نعلم أن الخليل استعمل عمليات التقليب للمقاطع "الأوتاد والأسباب " وعرضها على الواقع الشعري العربي بغية تأصيله وتقعيده ، فهل من المعقول أن نقول إن الخليل لا يعرف المتدارك وأن الأخفش تداركه عليه ، ولا يعرف البحور المهملة التي يمكن لطالب مبتدئ استخلاصها بالتدوير، لا أظن ذلك ، وأعتقد ــ وأنا مستريح الضمير حتى يثبت ما يخالف اعتقادي ولا أرى ذلك حاصلا يوما ــ أن الخليل يعرف تمام المعرفة بحر المتدارك من خلال دائرة المتفق ، ولكنه تجاهله وأهمله ولم يهتم به .
طيب لماذا لم يبال به ولم يؤصله ؟
الجواب بكل بساطة هو :
لأن الخليل رحمه الله لم يكن غبيا ولم يكن ليناقض نفسه ويهدم بنيانه ، إنه لم يجد للمتدارك أمثلة في واقع الشعر العربي وكل ما تم جمعه من أشعار مما يقرب من هذا البحر يتمرد ــ ليس على قوانين الخليل وحسب ــ ولكن يتمرد على الذائقة العربية الأصيلة التي أطرها عروض الخليل.
ألسنا متفقين على أن "الحكم على الشيء فرع عن تصوره " ، إن الخليل رحمه الله لم يكن عبثيا لحظة واحدة وهو يؤصل لبحور الشعر العربي ، بل كان يقعد على ضوء الواقع الشعري الأصيل ولم يـحِـدْ عنه قيد أنملة ، وقد علم وهو من هو أن مدار هذا الأمر على التقليبات بين الأوتاد والأسباب ، وعليه فلا يصح في الأذهان أن يغيب عنه المتدارك وغيره من المهملات .
أخيرا وليس آخرا بحول الله ، أقول إن إهمال الخليل للمهملات تبعٌ لإهمال الذائقة العربية لها ، وهو في ذلك لم يزل وفيا لها متماهيا معها ولم يتجاوزها ، لأن غرضه الأول والأخير كان تأصيلها وتقعيدها وحفظها من الضياع ، وليس تجاوزها وتحديها أو تحديثها .
الأستاذ لحسن عسيلة بتاريخ 13/ 11/ 2016
تحية للجميع .