حدثني موسى بن همام قال: حدثني(عبد الذات الغافي) قال: قابلت رجلا يدعى(عبيد الله الحافي) فقال: جمعتني الطريق برجل ذي وسامة، عظيم الهامة، يمشي كالطاووس ويهرول كالنعامة، وتعارفنا فسألته: من انت رعاك الله؟
قال: وهل فتى مثلي على حاله نكْرُ؟
قلت: لا بد انك «ابا فراس»!
ضحك وقال: لا، ولكني واحد من الناس، ولي اعوان وحراس.
قلت وقد دخلت في نفسي منه مهابة: لعلك وجيه او امير؟
قال: انا لا هذا ولا ذاك، رحم الله أباك!
قلت:أعيتني الحيلة، ولم أجد إلى معرفتك وسيلة.
قال: أنا الامين العام لحزب (النيام).
قلت: النيام؟..كل حزب بما لديهم فرحون.
قطب الرجل جبينه ورمقني شزرا، فخشيت أن يُحدث لي أمرا، فاستدركت:إنها آية قرآنية، ولم أقصد سوءا أو أذية.. ذلك أنني من الأعراب، ولم أسمع عن الأاحزاب إلا في غزوة الأاحزاب، فما الحزب رعاك الله؟.
قال: الحزب مجموعة من الناس، جمعتهم مبادىء وأفكار، ومصالح ومطامح في شعار، فاتخذوا مقرا وراحوا يبثون أهدافهم بين العامة والخاصة، لعلهم يستقطبون الناس، ويصبحون أغلبية ليدخلوا الحلبة النيابية، ويصلون إلى سدة الرئاسة الحكومية، إذا أصبحت لهم قاعدة شعبية.. هكذا تقول الديمقراطية.
قلت:وهل تعلم كم من الاحزاب على الساحة؟
قال: إنها كثيرة، بل تتكاثر كالفطر إذا همى عليه القَطر.
قلت: وما الفطر رعاك الله؟
قال: كأنك لا تعرف «المشروم»؟!
قلت: وما المشروم حماك الله؟ وهل هو مشتق من شرَمَ يشرم فهو مشروم؟ أم لعله ينتسب إلى «شرم الشيخ»؟
زمّ الرجل شفتيه، ولوى(بوزه)، فلما أدركت حرَدَه، أسرعت إلى استرضائه، فألححت عليه.. إنني عبيد اللهالحافي، القادم من البيد والفيافي، ولم أرَ في حياتي رقي الحضارة.. ولم أذق طعم المدنية..
فقال: اعلم يا عبيد الله أنني الأمين ال...
قاطعته فرحا هاشّا باشّا واحتضنته وأنا أصيح مكبرا: الله أكبر.. لا تكمل.. لقد عرفتك دعني أخبرك من أنت.. أنت فداك ابي وامي.. أبو عبيدة؟.
-أبو عبيدة من يا رجل؟ أنا الامين العام لحزب (النيام).
قلت: كل (النيام)؟ ولكنهم كثيرون جدا، ومن باب أولى أن تكون سيدهم، وليس أمينهم فقط.
ضاق صدر الرجل، ورمى سيجاره الفاخر وقد احمرّ وجهه وزفر قائلا: كأنك تهزأ بي يا رجل؟ ألم تسمع بي؟ انا الأمين العام لأكبر حزب في البلاد.. تعال معي وسترى مكانتي، فلحسن الحظ أن اليوم اجتماع الهيئة العمومية للحزب، ولك مني حسن الضيافة والتكريم ..
أسرع الرجل الوسيم، وهرولت خلفه خشية أن أضيعه فأخسر(المنسف و الثريد) الذي منّيت به نفسي بعد دعوة صاحبي..وسرنا حتى وصلنا عمارة متهالكة، ارتفع عليها علم، وعلت مدخلها يافطة طغت عليها عوامل التعرية فمحتها، ولم يبق إلا بضعة حروف باهتة، فدخل الرجل وأنا خلفه كظله إلى قاعة مرصوفة بالكراسي، وأنا وراءه، ثم انطلق إلى بضع طاولات غطين بملاءات بيض، وزُّينّ بباقتين من الزهور، وعليهن شيء متصل بأسلاك، سألته عنه فقال: إنه الميكروفون، وهو بحق اختراع مدهش يُسمع الذي به صمم..
وجلس.. فقعدت في إحدى الزوايا أراقب القاعة، منتظرا دخولهم علي بالمناسف، وهم ينتظرون(اكتمال النصاب) كما قيل لي، وأنا بين الفينة والفينة أتلفت حولي لأرى كم حضر من( الرفاق).. ومرت ساعة او ساعتان، وأنا أجيل النظر بين صاحبي المتربع على كرسي الأمين العام، وقد بدا عليه الخجل والوجل، وبين القاعة الخاوية إلا من بضع صبية يتضاحكون، ونفر ما العجائز يتغامزون.. نقر صاحبي هذا الشيء الذي يسمونه الميكروفون بإصبعه نقرة او نقرتين، ثم اعتدل في جلسته، وتنحنح ثم استفتح قائلا: باسم الشعب..
فانطلق أحد الصبية صائحا: عاش حزب النيام.. عاش الامين العام..
فنظرت إلى الامين العام ففهم مغزى نظرتي وقال: لا بد أن نومهم ثقيل..
ولم أدر ساعتها، هل أضحك أم أبكي؟.. وعدت إلى مضاربي أحكي.. عن أحزاب الزمان الآتي.. وأنا احمد الله تعالى أن خلقني عبيد الله الحافي، ولم يرفعني إلى درجة الامين العام لحزب يدعو للرثاء...