ككل ليلة جلست أمام التلفاز , لا لمتابعة المسلسلات الرومانسية , أو لمشاهدة البرامج التافهة التي تعتمد على الرقص و الغناء , و إنما لمتابعة الأخبار و آخر المستجدات على الساحة العربية و العالمية , لقد كرهت كل شيء بعد أن أدركت أن كل من حولي منافق حتى أقرب الناس لي , صرت أشك في جدار بيتي من أن يخونني ذات يوم و يسقط على رأسي , صرت أشك حتى في تلك الصخرة الكبيرة التي أجلس عليها في الحقل خوفا من أن توشي بأسراري و ما دار بيني و بين نفسي من حديث .. فجأة و على حين غفوة و قبل أن تبدأ نشرة الأخبار المسائية وجدتني في غابات الأمازون , محاطا بمجموعة من البشر الحفاة العراة يتقدمهم قائدهم ..آه إنها إحدى قبائل الأمازون العريقة .
قلت لهم : أريد أن أكون فردا منكم , أريد أن أعيش معكم , أعاهدكم على أن يكون هدفي هو هدفكم و رأيي هو رأيكم و رؤيتكم الرشيدة هي رؤيتي , سياستنا هي : الصيد و إقامة موائد الشواء هنا و هناك على أطراف الغابة ثم الرقص حول النار , فقد كرهت سياسة الرشوة و تزييف الحقيقة في المدن الصاخبة , كرهت حياة التخطيط , حياة الترف , و إعداد الإستراتيجيات لبناء قصر فاخر على شاطيء البحر و شراء السيارات الفاخرة , حتما سيكون هدفي البديل عنها هنا هو بناء كوخ من قصب , و صيد يمامة أو غزالة للشواء , سوف لن أعود ثانية إلى عالم النفاق ذاك , و لن تستهويني بعد اليوم لا عاصمة الضباب لندن و لا عاصمة الأنوار باريس..و لا و لا ..وداعا أيها الضجيج ... هنا تهللت أسارير قائدهم و ابتسم بشفتين تخترقهما عدة أعواد من قصب و صفائح من حديد و انفتحت خياشيمه التي يشقها خنجر من حديد مرعب ثم قال لي : حسنا عليك أن تتخلى عن ثيابك هذه , سنأتيك فورا بلباس من أوراق الشجر و سوف أتولى بنفسي رشق أعواد القصب لتخترق شدقيك , شاربيك و أنفك , أنت الآن أحد أفراد أسرتنا , ثم تنحنح و جلس القرفصاء , أمسك بعود حاد و همّ أن يثقب به شفتي السفلى ! هنا صحت صيحة مفزعة أيقظتني من نومي مذعورا لأنتبه للتلفاز فإذا به يبث برامج تمجّد ما أنجزته الدولة لرعاية الشباب , و يطرق مسمعي في الخارج صياح نسوة بالجوار قيل لي فيما بعد أنهن ينعين وفاة شاب جامعي عاطل عن العمل منتحرا شنقا في غابتنا المجاورة .