لي في النساءِ خديجةٌ !
للشاعر د.نديم حسين
سارت على طبعِ الحريرِ فصارَها=وتمرَّغتْ بالنارِ تطفئُ نارَها
قالت : أحبـُّكَ ! قلتُ : ما أنتِ التي=قلبي المصَحـَّرُ يشتهي أمطارَها
لي في النساءِ خديجةٌ أمويـَّةٌ=زيَّنتُ بالنبضِ الكثير جدارَها
قلبي عدُوِّي إنْ شُغفتُ بغيرها=ليلي ضريرٌ إن سلا أقمارَها
لكزَتْ غرابيلُ الظلامِ ثقوبَها=ليسيلَ ليلٌ يستبيحُ فنارَها
كم أوجعَ التَرحالُ روحَ أسيرةٍ=وبحبسِها فضَّ الحبيبُ إسارَها
خُدشَت ، فسالَ العطر فوقَ أصابعٍ=ذرفتْ على خـدِّ القريضِ وقارَها
قتلوا رصاصتَها ، فأينعَ عـُذرُها=لتـُقيلَ نهرًا غاسِلاً أعذارَها
وكريشِ صقرٍ مفرداتُ عيونها=نظرَتْ ، فسمـَّاني الفضاءُ مزارَها
وبكتْ رماحي إذ رميتُ بريئةً=عدَلـَتْ بِحارٌ صادقَت أنهارَها
ذِكرٌ وتَذكيرٌ وذاكرةُ الفتى=تُهدي الفتاةَ لحاصدٍ أسرارَها
يا عاشِقـًا لـهُ في النساءِ خديجةٌ=بالسيفِ يُبدِعُ حولَها أسوارَها
أوقِد ظلامَ الروحِ وارتق شمسَها=بَرقُ " الجليلِ " بزفرتينِ أنارَها
لي في النساء خديجة !
العنوان مع إشارة التعجب في آخره، يبدو للوهلة الأولى عادياً .وكأن الشاعر قد اختار شطراً من قصيدته ليكون مجرد عنوان لقصيدته . غير أن إشارة التعجب المقصودة في مكانها تفتح باباً للتساؤل عن ضرورتها.
وبتحفيز من هذه الإشارة لذهن المتلقي، يكون عليه أن يستعد لما يستحق التعجب والاندهاش له.
ثم إن الشاعر يفتتح قصيدته بالحديث عن امرأة ما . ليوهِم المتلقي أن خديجة التي سيدور الحديث عنها والتي تغنيه عن كل النساء، تصلح للمقارنة مع المرأة التي يتحدث عنها في افتتاح القصيدة. فهي مفاضلة بين امرأة وأخرى . وهذا هو شَرَك الشاعر الذي نصبه ببراعة لقارئه، ليوقعه به في حيرة وتساؤل مستمرين : من هي خديجة التي يختارها الشاعر دون النساء جميعا؟
سارت على طبعِ الحريرِ فصارَها=وتمرَّغتْ بالنارِ تطفئُ نارَها
هذه هي المرأة المعجبة بالشاعر أو ربما العاشقة. سارت على طبع الحرير وقلَّدت سلوكه وطبعه، والحرير طبعه الرقة والنعومة.ومن يسرف في تقليد الآخر والتشبُّه به يصل إلى مرحلة التقمص. فمن المتوقع أن تتقمص تلك المرأة شخصية الحرير فتصير حريراً . غير أن الواقع يخالف توقعاتنا وينبئنا أن الحرير هو الذي صارها؛ أي أنها تفوقت في نعومتها ورقتها على الحرير نفسه، حتى أصبح الحرير يسعى لتقمُّص شخصيتها والتشبُّه بها، وقد كان له ذلك وصارها .
نلاحظ كيف لعب الشاعر بالكلمات لعبة التنقيب عن المفاجأة، وقَلَبَ ميزان العلاقة وعَكَسَها بين المشبَّه والمشبَّه به ( طبع المرأة وطبع الحرير) لتفوز المرأة وتتفوَّق في نعومتها ورقتها .
وفي هذه البنية البيانية في صدر المطلع ما يكفي من الدهشة لجذب القارئ ويزيد.
. غير أن الشاعر يفجِّر في العجز العبوة الثانية من عبوات المفاجأة الشعرية وهي قوله
وتمرَّغتْ بالنارِ تطفئُ نارَها
لأن حكم الشاعر الديني الأخلاقي على سلوك المرأة جاء سريعاً ومباغتاً . وقد كنا نتوقع منه الاستجابة لها، بسبب ما ذكره لنا من تمتعها بذلك الطبع الحريري. إلاَّ أن الشاعر يفاجئنا ويخبرنا أنه لا يرى في سلوكها سوى أنها أرادت أن تطفئ نارها أو لهيب أشواقها، فتمرغت في النار في سبيل ذلك .
إذن فمحاولاتها ليست فاشلة فقط، من وجهة نظر الشاعر، بل هي خطيرة ومُهْلِكة .
ونفهم قصد الشاعر في رفضه لهذه العاشقة، بعد أن أعلمَنا أنه يعترف بأنها هي الحرير نفسه، وأنه قد أحس بما تعانيه في نارها. فرفضه لها هنا بطولة شبيهة ببطولة عنترة العبسي، الذي اعتاد أن يصف خصال خصمه ومكارمه من القوة والشجاعة والمنزلة الرفيعة، قبل أن يعلن أنه قد هزمه وتغلب عليه، على الرغم من ذلك .
ومدجج كره الكماة نزاله= لا ممعن هربــا ولا مستسلم
جادت له كفي بعاجل طعنة= بمثقف صدق الكعوب مقــوم
فشككت بالرمح الأصم ثيابه = ليس الكريم على القنـا بمحرم
فهذا البيان من ذلك البيان وإن اختلف المقام.غير أننا نودُّ الآن أن نفهم ما سر تمنع الشاعر وما سر قوَّته.
قالت : أحبـُّكَ ! قلتُ : ما أنتِ التي=قلبي المصَحـَّرُ يشتهي أمطارَها
نعم نعم .فهمنا شيئاً :إذن، فالشاعر ذو قلب مصحَّر يشتهي الأمطار، ولكنه لا يشتهي أمطارها هي. وإذا كان الامر كذلك فلا بد أنه عالق بحبٍ آخر . ومنه يرجو الأمطار التي تروي قلبه المصحَّر . فمن هي حبيبته التي يستقي أمطارها ؟
لي في النساءِ خديجةٌ أمويـَّةٌ=زيَّنتُ بالنبضِ الكثير جدارَها
هي (خديجة ) ذات الأصل الأموي. وهي التي يقترب الشاعر من جدارها فيقف خاشعاً وقلبه ينبض ويخفق بشدة . حتى أن نبضاته التي التصقت بالجدار قد أصبحت مع كثرتها كزينته أو زخرفته التي تحفُّ به وتغطيه .
قلبي عدُوِّي إنْ شُغفتُ بغيرها=ليلي ضريرٌ إن سلا أقمارَها
فكيف يستطيع الشاعر أن يشغف بغير خديجة الأموية ؟
يقدِّم الشاعر عذره للمرأة العاشقة الحريرية برفق . ويطلعها على ما يتوقعه من الصراع مع قلبه العاشق لخديجة فقط ، إذا ما استجاب لها . فلابد أن قلبه سينقلب عدوَّا له إذا ما قبل امرأة سوى خديجة. ولا بد أنه سيفقد بصره أو بصيرته في لياليه إن نسي أقمار خديجة وسلاها.
لكزَتْ غرابيلُ الظلامِ ثقوبَها=ليسيلَ ليلٌ يستبيحُ فنارَها
السقوف والجدران التي تحيط بخديجة تشبه الغرابيل ( جمع غربال ) بما فيها من الثقوب الكثيرة التي ثقبها الظلام. وعندما يأتي الليل فإنه يسيل ويتسرب من تلك الثقوب ليصل إلى فنارها أو ساحتها.
والشاعر يتألم من هذا الظلام الذي يغشى فنار الحبيبة. كناية عن عدم وجود من يشعل لها النور في فنارها . فما الذي حدث لخديجة ؟
يتبع بإذن الله.