أصوات أطفال ( الكُتّاب ) وهم يُكرّرون السور القصار بدأت تخفت , وبدأ يسمع أصوات أطفال القرية المنتصبة أعلى الجبل , وهم يمارسون ألعابهم الشقيّة اليوميّة . كل الأصوات التي كان يسمعها عادة وهو في طريقه من ورشة والده إلى بيته , لم يسمعها اليوم , فقد غزتها أصوات والده ووالد صديقه , ومدرّسه , ومدير المدرسة . اجترّها كلّها في مرارة وألم . قال له المدرّس بنبرة شفقة : هذه سنتك الثالثة ولن يُسمح لك بالإعادة مرّة أخرى , لقد فعلنا ما بوسعنا نحن الأساتذة , فقط لأنّك اقتربت من المعدّل المطلوب لنيل الشهادة , ولمعرفتنا بتفوّقك السّابق , لكن لاحظنا تراجعك وقلّة اهتمامك , وأنا قد حذّرتك كثيرا . وصوت المدير الحاد حين كلّمه عند باب الخروج : لن تدخل غدا إلّا مع ولي أمرك , لقد صبرنا عليك أكثر من اللازم . وصوت والد صديقه الذي سمعه يُحدّث والده مؤنّبا ومُهدّدا حين اقترب من الورشة : ابنك ضيّع ابني وأفسد أخلاقه وتربيته , صار يسرق مني النقود ليُقدّمها له , وقد صارحني اليوم بالحقيقة كاملة , سأمهلك إلى يوم الغد , عليك بأن تردّ لي نقودي التي سُرِقت مني وتمنعه نهائيّا من الاقتراب من ابني . وصوت والده وهو ينهره بشدّة : لم تُفلح في أي شيء كأمّك , لا دراسة ولا شغل ولا أي شيء , حوّلتم حياتي إلى جحيم , اذهب واغرب عن وجهي أيّها اللعين , لا أريد أن أراك ثانية .
في زحمة الأصوات لم يسمع صوته الخافت الضّعيف : ما ذنبي أنا ؟ هل أنا من طلّق أمي من أبي ؟ هل أنا اخترت عيشة الفقر والحرمان ؟ يطردني المدرّسون حين أعجز عن توفير كتاب أو أداة مدرسيّة , وأغيب عندما يتمزّق حذائي ولا أقدر على تغييره , بعد ساعات الدّراسة أتوجّه إلى الشغل الشاق في ورشة أبي ولا أعود الّا بحلول الظلام لأغص في نوم عميق يأخذني إلى يوم مماثل , فمتى أدرس وكيف أنجح ؟
لم يسمع صوت أمه تناديه , ولم يسمع صوت آذان المغرب , حين دخل البيت وصعد إلى السطح حيث توجد غرفته الصّغيرة الضّيّقة . وما ان جلس على فراشه البالي القديم حتى سمع صوتا هامسا على يساره : ارحل عن هذه الدنيا الكئيبة المظلمة , وهذا العالم القاسي الظالم , حبل فقط سيُخلّصك من كل هذا الشقاء وينقلك إلى عالم الفناء , حيث لا ألم ولا عذاب . قاطعه صوت هامس على اليمين : احذر يا فتى , هذا الذي تتوهّم أنّه سيُخلّصك من الشقاء سينقلك إلى الشقاء عينه , الشقاء الحقيقي الأبدي , انت تمر بفترة صعبة قد يمر بها كل انسان , لكنها مجرّد فترة وستمر , وستتغيّر حياتك إلى الأفضل . لم يُفكّر كثيرا أو يُوازن بين الصوتين , الصوت الذي على يساره تأثيره كان أقوى , ولم يتعب كثيرا في إيجاد الحبل , فقد كان مشدودا بين حائط غرفته والحائط المقابل له في السّطح , يحمل ملابسه الممزّقة المبلّلة حتى تجف .
مع صوت آذان العشاء نزع حبل الغسيل , دسّه في جيبه , وفي سرعة البرق خرج وقطع الطريق الطويل إلى شجرة الزيتون الكبيرة , في أقاصي القرية , في الظلام الدّامس , ولم تنتبه الأم لخروجه لانهماكها في المطبخ . صعد جذع الشجرة الكبير , ربط الحبل على غصن مرتفع متين , وأحكم دائرة الحلقة , ووضع رأسه داخل الحلقة . سمع صوت اليسار من جديد : ستستريح الآن , سيتلاشى الظلام , وسترى النور أخيرا , هذه حياة العدم , لا هموم ولا مشاكل , لا أحزان ولا حرمان بعد اليوم , لا أحد يهينك , لا أحد يُعيّرك بفشلك وفقرك . وسمع صوت اليمين من جديد : كف عن هذه الحماقة , أخرج من هذه الحلقة السّخيفة , وانظر إلى الأمام , أنظر إلى الأفق , شاهد نفسك شخصا مرموقا , ناجحا ومشهورا , تحقق الإنجازات العظيمة , ومحل اعجاب كل الناس .
لف الحبل على رقبته وهمّ بالقاء جسده المنهك واذا به يسمع صوت أمّه يخترق الأجواء ويقطع المسافات , كانت بالفعل قد لفّت البيت وما جاوره , صعدت السطح ونزلت قرابة العشر مرّات خائفة قلقة تبحث عن ولدها الذي اختفى فجأة , حتّى اعتلت جدار السّطح وصاحت بأعلى صوتها تناديه في غسق الليل . لبّى الولد البار نداء أمّه , رفع الحبل عن رقبته , استغفر ربّه , نزل من أعلى الشجرة وعاد باكيا إلى أحضان أمه التي احتضنته تبكي أيضا , ورمى رأسه في احضانها الدّافئة .
أصوات التّصفيق وهتافات الإعجاب لم تتوقّف في المسرح الكبير الّذي ضم نخبة الثقافة والإعلام الوافدة من كل الدنيا , حين قال بصوت هاديء رزين وهو يستلم جائزته الكبرى العالمية : أهدي الجائزة إلى أمي رحمها الله , أنا مدين ومشتاق إلى صوتها , أصدق وأوفى ما سمِعت من أصوات .
عن قصة حقيقية