د. ريمه عبد الإله الخاني
باحثة وأديبة
مازلت أهذب له ذقنه، فهو لم يعد قادرا على النهوض، نعم ..فقد وقع من على البناء وهو يعمل فيه فانكسر ظهره، وفشلت المحاولات وانتهت كل المدخرات، كانت لحظة فاصلة في حياتي..لايشعر بألمها إلا من ذاقها، فهو مازال شابا في الثلاثينيات، وفي قمة العطاء...بكيت حتى جفت الدموع.
و يعيبون علي أنني أنجبت منه وهو على هذه الحال، مالهم ومالي؟ هذا شأني لاشأنهم، الثرثرة عيب المجتمع العاطل عن العمل، فالحياة تستمر بكل أحوالها...
لكن السؤال الأهم الآن والذي يجب أن نسأله بقوة:
-كيف سنأكل لقمتنا بعد ماحصل؟.
أخرجت كل مالادي من أعمال نسوية مخبأة قديمة، أتذكر فيها ماأحسنه من هوايات، إنها أمي..الأم ليست مدرسة بل عالم كامل من الفعاليات والعلم والفهم...
مالهم ومالي.؟
هل يرضيهم أن أشتهي الرجال؟، من هذا الذي يثرثر ولايفعل؟ يعيب ولا يُرقع؟ ينظر للقذى في عين الناس ولايرى قذى عينه؟.
أين كانوا عندما كنت أمر بذاك البناء الذي كنت يوما أعمل في منازله أنظفها قبل أن أتزوج به، وأغطي طلاقي القديم العقيم، بعد أن توفي لي زوجا يكبرني بعشرين سنة؟.
ومازلت أحمل رقم ثلاثين! ومازلت قادرة على العمل..فليصمتوا..
لاأستطيع الوقوف أمام المرآة الآن ، فأنا أدرك أنه تزوجني ، شهامة وقرابة، وأعرف أنني لاأحمل من الجمال شيئا، لكنني أحب نفسي كثيرا، هذا هو الواقع، وأحب أن أكون شيئا مهما في هذه الحياة لذا سأصم أذنيّ، وأبحث عن طفل يملأ علي حياتي.
أضحك أحيانا عندما أكتب على دفتر صغير يخصني وحدي، مافي نفسي من تعب في السعي لجلب لقمة العيش فأخفق، وأدري أنه كراس مليئ بالأخطاء، التي أخجل أن أريها لأحد، ولكن سيكون أفضل يوماما، أنا على يقين من ذلك، مازلت أدق الباب عليها كي تعطيني مهام أكسب منها نقودا، يرتقها بعض زاد تعطيني إياه، تلك النبيلة.
-أنا جائعة، والله جائعة...أرى أولادي يتناولون الطعام فأسعد، ولكن عندما ينفذ الزاد من المنزل..أنظر إليه..وأنظر إلى حالي، مالهذا تزوجت..أبكي بعيدا جدا، خاصة عندما يشعر بأنه معطل عاجز، فيصرخ مناديا بشراسة الجوع الذي لايؤمن أبدا..فأجلب ماتبقى، والجوع يطحنني...ما توقعت يوما أنا أصير رجلا وامرأة بنفس الوقت..أين كنت عندما كنت أشتهي الرجال في الطريق؟ أين كنت عندما كنت تهملني فتسهر مع أصدقاءك مساء..ودخانك أهم من اللقمة؟...كنت حينهامتعبة ووحيدة..ليتك تفهم كم كنت أبكي في طريقي، وأنا أحاول كسب أي مال بطريقتي الخاصة، كم تمنيت أن تكفيني...ألست رجلا؟.
لم تعد الكلمات تكفي لتمتص غصبي ويأسي..مزقت الدفتر، فالكلمات لاتباع في السوق البائرة اليوم...ولاتفيد إلا بثرثرة يقال لها كتب!!...كنت شاهدت أكوامها في منزل، باعه ورثته، وباعوا الكتب بأرخص الأسعار، العلم فعل قبل أن يسطر على الورق...وإلا فسيبقى ورقا على ورق...أي علم يودي للفقر ليس بعلم...الجواد بالحرف يحتاج قوتا يزدرده كي يستمر..هكذا كان الناس يتبادلون الأحاديث حولها..
وتلك الغرفة المستأجرة التي أعيش فيها، تشبه إلى حد كبير قن الدجاج، حيث كنت أرتبها وأنظفها لأبو نظمي، لكنه بدأ يقوم بحركات حيوانية جعلتني أعدل عن العمل عنده لأفيد ببعض قروش، من عمل آخر، زوجته من أجمل الجميلات، فماذا يرى فيّ؟.
فأنا بالكاد تزوجت، ومازالت بنت معلمتني الجميلة تنتظر عريسا، فماوصل، الدنيا مقادير، هل هي شروط مدينة تترفع على بعضها؟ أم هو صوت النقود الذي يصرخ في آذاننا حتى الصمم؟.
بكل الأحوال..مازلت أحتفظ بعبارتين كتبتهم لي امرأة عملت عندها يوماما ونظفت لها منزلها ، قالت لي احفظيها جيدا واجعليها واقعا تغنمي، شرحتها لي بقدر الإمكان وفهمتها حسب مقدرتي كانت عبارتان:
-الهزيمة للشجعان فقط، الجبناء لايخوضون المعارك.
-أنت مكلف بالسير نحو هدفك، لا بالوصول إليه.
ذهبت لأم حياة، تلك الأرملة الذكية في حينا، التي خرجت من محنة شهادة زوجها أكثر قوة، وأكثر عزيمة، وأنا أحب النساء القويات، خرجت لحياتها الجديدة مع وحيدتها الصغيرة، لاتعرف سوى مهنة الخياطة، وتحاول جعل ابنتها من المثقفات المرموقات، فهي دوما تقرأّ..قلت لها:
-هل تعلمينني الخياطة؟
- أين أنت؟، كنت بحاجة لواحدة مثلك، مجدة وصبورة، فهل تقبلين؟.
نظرت ابنتها إلي قائلة:
-وسوف أعلمك كل ماتعلمته..لأنك تستحقين.
7-4-2020