ولم يخفَ عليَّ حرصُك أن أكتبَ مقالةً دوريةً، وما ذاك إلا لحسنِ ظنِّك يا مسددُ، ويعلمُ الله أني لا أجدُ حرجًا في الكتابة، إلا أنك لا توافقني في الكتابةِ في هذا الموضوع أو ذاك، فالخطوطُ الحمرُ على الكتابة تضيقُ يومًا بعد يوم، وأجزمُ أنك لن تنشرَ لي أكثرَ ما أكتبُ، لأنك محاطٌ بها.
أتضعُ العصفور في القفصِ وتريدُ منه الطيرانَ؟ هذا مستحيل، أطلقْه من سجنِه وتمتعْ عندها بتغريدِه وتحليقِه، وهذا هو القلمُ، لا تقُلْ له اكتبْ في هذا ولا تكتبْ في هذا، بل أطلقْ له العنان، واتركه حرًا يكتبُ ما يشاءُ كيف يشاءُ، وإن زلَّ وتعثرَ، فيُردُّ عليه وتقامُ الحجةُ بيانًا ببيان، وإنْ تجاوزَ في حقِّ أحدٍ فيُحاكم حتى يؤخذَ الحقُّ منه.
وأنتَ ترى أن الساحةَ الفكرية قد أُفرغتْ من أعلامها وصُدِّر رعاعُ الناسِ وسفلتُهم، يقولون ويفترون ويتجاوزون، وكأنَّ خلفهم جيشًا من المحامين يؤزونهم أزًّا، ولهم لغةٌ من قاعِ المجتمع، تلوِّثُ الذوقَ وتصدمُ العقائدَ وتحاربُ العاداتِ الأصيلةَ، والفطرةُ المنكوسةُ تأتي بهذه الثمار الفجَّة.
ولعلَّ المتأملَ في الحراكِ الثقافي يرى ندرةً في الكتاب المتمكنين، مع أنَّ الزمانَ لا يخلو منهم بحال، ولكنهم آثروا الانزواءَ والانكفاءَ في مكتباتهم يحدِّثون كتبهم وتحدثهم، ويكتبون لأنفسهم وخاصتهم.
وأيم الله لن تقوم لأمةٍ قائمةٌ وقد حاربتْ مفكريها وروَّاد ثقافتها، فبهم ترى طريقَها وتستشرفُ مستقبلَها، وتحلُّ معضلاتها، وترتب أولوياتها.
والعجب أن تناول العلم في زمننا يسير، لكن إنجازنا العلميَّ شحيحٌ قليل، وقد مرتْ على الأمة أزمنةٌ يشُقُّ فيها تحصيلُ العلم، إلا أننا ما زلنا ننهلُ من ثمارها الوافرة ونتفيأُ ظلالها الوارفة.
وهذا التجريف الثقافي ينتج أجيالاً من الضائعين التائهين المتطفلين على موائد الأمم الأخرى التي أطلقت أيدي مفكريها وعلمائها، وانهمر نهر عطائهم يزيد ويتضخم ولا يتوقف.
فينطبعون بطابعهم ويُصنعون على أعينهم، ولك أنْ تُقَدِّر جناية أبنائنا علينا وهم يحملون أفكار غيرنا.