قراءة على رواية
(36ساعة في خان شيخون – للروائي محمد عبد الستّار طكو)
بقلم – الروائي محمد فتحي المقداد
رواية (36 ساعة في خان شيخون) وثيقة معتبرة، سلّطت الضّوء على إحدى جرائم النّظام السّوريّ في استخدام الغازات الكيماويّة السّامّة (غار السّارين) المُحرّمة دُوليًّا؛ لضرب التجمّعات السّكانيّة العديدة في الغوطة الشرقيّة وإدلب وعدد من المدن السّوريّة لكسر إرادة المعارضة وإصرارها على مقاومة النّظام، وللغرابة فإن هذه الجرائم تقادمت بمرور الصمت الدّوليّ.
وفي يوم (4 أبريل-نيسان 2017) في مدينة (خان شيخون)، بريف إدلب شمالي سوريّة، قام طيران النّظام بالتحليق فوق المدينة، ومن ثمّ قصفها مُستخدمًا غاز السّارين السّامّ، وخلفّت الغارة مقتل أكثر من مئة مدني، وأكثر من أربعمئة جريح، معظمهم من الأطفال، بحسب ما أكّدته مديريّة صحّة إدلب.
وبالوقوف على مُجريات العمل الروائيّ الجديد بخصوص حادثة الكيماوي، كان من المفترض اهتزاز الضّمير الإنسانيّ عامّة، والعربيّ والمسلم على الأخصّ، بينما تُرك الشعب السّوريّ يتلقّى ضربات فائقة الوحشيّة هادفة للإبادة الجماعيّة، وإيقاف مصير الملايين على حافّة الهاوية.
تعتبر هذه الرّواية هي العمل الروائيّ الأوّل للأستاذ (محمد عبدالستّار طكّو)، وهو الذي اكتسب هويّته الشّعريّة في العديد من قصائده التي تغنّى بها في الأمسيات ونشرًا على صفحات مواقع الأنترنت، وتكلّل ذلك بإصداره الشعريّ الأوّل أيضًا في فترة زمنيّة سابقة، عبارة عن مجموعة شعريّة جميلة انضوت تحت عنوان (رُشاشة عطر- 2014)، وأتبعها هذه الرواية التي بين أيدينا، فرادة الحدث المفاجئ تجاوزت ديوانيْ شعر ما زال مخطوطين هما (بتوقيت دمشق إلّا قصيدة)، (شام ابنتي) مجموعة شعر أطفال.
***
جملة صادمة في الصّفحة الأولى. بقوله: (السّؤال يُطيل أمد الأمل)، لنفهم أنّ الإجابة لم ولن تكون مكتملة أبدًا مهما اجتهدنا، وإن كنّا نقف على مسافة واحدة من المشهد، ومجازفة الخوض في التفاصيل، تُعيدنا إلى مربّع الحدث ذاته، وقد نمضي تأثير الدّافع الضّاغط على مشاعرنا وأحاسيسنا استفزازًا.
الصفحات الأربع عشرة الأولى صوّرت حال (أحمد) الموظّف حاليًّا، وهو يستذكر أيّام دراسته، اعتبارًا من اللّباس الموحد الهادف إلى عسكرة المجتمع السّوريّ، والتفاعلات النفسيّة والفكريّة بعدما كبُر وأدرك الأبعاد التي كانت مجهولة الأجوبة آنذاك. وقضيّة منظّمات الطّلائع والشبيبة المفروض على الطلّاب دون استثناء الانتساب لصفوفها، الطّلائع في المرحلة الابتدائية العمريّة الأولى، والشبيبة في المرحلة الإعدادية وجزء من الثانويّة، لتقلين أدبيّات الحزب وتشكيل وعيهم ليكونوا جنودًا مُدافعين ليس عن الوطن، بل عن طغمة دكتاتوريّة تربّعت في سدّة الحكم سنوات طويلة. وصولًا إلى تقديم طلب انتساب إلى الحزب الذي بدون لا يمكن الوصول إلى الدراسة الجامعيّة وبعدها الوظيفة الحكوميّة. ومما ورد بقوله: (لعلّ ورقة ما رَكَنت إلى جدار أو صخرة ما، راحت تُراقبُ أخواتها، كيف يجرفهنّ التيّار؛ تنتظر أن تمتدّ يدُ التيّار إليها ذات طيش. هذا الفعل قد يجعل المجازفة في ترك المسار، أو التيّار أمرًا جنونيًّا، أو أمرًا أكثر تعقيدًا، وأقلّ راحة من تأثير التيّار نفسه، أو ضغطه على حدٍّ سواء). لعلّ هذه الفقرة توضّح برمزيّتها العالية التقنيّة مدايات الخوف المُستكنّة في نفوس الشعب، وتساؤلات القلق والخوف من المصير لمن حلّق خارج السّرب. ليصدمنا في عبارته الأخيرة: (هل للتيّار وطنٌ يمضي إليه..!!؟) سؤال العارف المُستنكر الخائف. غالبًا ما تتشعّب الأسئلة؛ فتزداد الحيرة، وتتوه الإجابات بإشكالاتها بصاحبها حينما لا يمتلك رؤية واعية في أدنى تفاصيلها.
بداية جاء خبر أسرة البطل (أحمد) بهجرتها بعد الحرب إلى الخارج، بينما بقي هو الوحيد، ليكون الِشّاهد على الحدث، بعدما تعرّض للاعتقال إثر مداهمة بيته أثناء نومه، واقتياده إلى جهة مجهولة بالنسبة له تمامًا، لكنّه أدرك أنّها جهة أمنيّة تابعة للنّظام، وهذه النقطة توضّح فقدا الأمان وتعدّد الحواجز والاعتقالات والخطف من جهات مُسلّحة أخرى مختلفة الانتماء. وفي عبارة يخبرنا: (نحاول قراءة المشهد من زاوية معاصرة بعيدة عن التنظير؛ سنجد أنّنا لم نكن جسدًا واحدًا يومًا، لقد كُنّا شِلَلًا وعصابات تختفي تحت مُسمّى الوطنيّة).
وتنقلنا الرواية لاختلاف الآراء والانتماءات الطائفيّة الموالية للنّظام والمُعارضة له، وتشكيلاتها الكثيرة، وانقسام المجتمع لما بين مؤيّد ومُعارض، وظهور مصطلحات جديدة (شبيّح) هو المُوالي المُدافع عن النّظام، و(مُندَسّ) للمعارض سواء كان مُسلّحًا أو بالرأي. وفي قوله تتضّح الرّؤية: (المشهد أكثر وُضوحًا وبّعدًا عن الضبابيّة، لم يعد هناك مجالٌ لتبرير إخفاء الانتماءات والميول). فكان اللّجوء لتسمية الأشياء بمُسمّياتها الحقيقيّة. ولتبرير بقائه في سوريّة: (كم شخصّا مثلي لا ينتمي إلّا لسوريّة، صحيح أنّي لم أخرج في المُظاهرات، لكنّي في نفس الوقت لم أخرج من سوريّة، لأنّي أعتبر نفسي رُكنًا فيها). في الحروب والصّراعات لا مجال للحياد أبدًا، أو البقاء في المنطقة الرماديّة الوسط؛ فالانحياز هو سيّد الموقف، وبيضة القبّان المُثقلة للمواقف والاعتبارات بتحديد الموقف والرأي بالضّبط.
***
الحكاية من (خان شيخون) جاءت في مقدّمة الرّواية، بتشابكات تعالقيّة بخيوط عديدة ابتدأت من العقدة، من خلال البطل (أحمد) وهو يسرد ما رأى وشاهد هناك في القرية، ومن ثمّ سار العمل الروائيّ إيضاحًا وحلحلة الألغاز، والإجابة على التساؤلات العديدة. فمركزيّة دور العبادة وخاصة (المساجد) هي المكان الذي يلجأ إليه الغرباء عادة، مجرّد وصول (أحمد) إلى (خان شيخون) بعد رحلة مُضنية محفوفة بالمخاطر التي تتهدّد حياته في كلّ لحظة، وذلك بعد خروجه من المُعتقل في دمشق، وتهيئته ليكون عميلًا وجاسوسًا للمخابرات، من خلال عمليّة تحضير معقّدة له، جاءت على المشاهدة التخويفيّة في حفلات التعذيب الفظيعة، لنزع أدنى مقاومة أو تماسك في نفسه مُستقبلًا، وليكون عجينة طيّعة في أيديهم، كان هذا الجانب الترهيببيّ، ومن ثمّ انقلبوا إلى الجانب الترغيبيّ، والانتقال من الزنزانة والمهجع المُكتظّ بنزلائه من المعتقلين، وظروفهم المُزرية على كلّ المًستويات, إلى قسم آخر أخفّ وطأة من ذي قبل، وتغيير الخطة باتّجاه عمليّة غسل الأدمغة، من خلال الإتيان بمشايخ دين مسلمين، لتعليم مجموعة مختارة من المعتقلين مبادئ الإسلام المُتشدّد، والجهاد، وتلقينهم قسمًا من كتابات (ابن تيميّة) الجهادية، وجاءتهم الأوامر بإطلاق لِحاهم، بعد ذلك جيء بممثل وفنّان مسرحيّ، لقّن هؤلاء المعتقلين أصول التمثيل، وهو ما يلفت النّظر لاستخدام كلّ شيء ممكن ومُتاح من المعقول واللامعقول، تتساوق هذه الأشياء لتشكيل حالة جديدة بمعطيات مختلفة متنامية بتمدّدات جديدة.
***
الرواية كشفت بذكاء عميق، قضيّة جديدة التشكيلات المُسلّحة المُخترقة، أو المُشكّلة بأيدي الأجهزة الأمنيّة لغايات وأهداف، هذا الأمر بآثاره النتائجيّة العكسية لمسارات الثورة السلميّة، وتحويلها إلى المُسلّحة لقلب الموُازنة، وخلط الأوراق كما حدث ذلك مؤخّرًا في عمليّة المصالحات التي جرت فيما بين النّظام والفصائل المُسلّحة برعاية الاحتلال الرّوسيّ المُتوافق مع الاحتلالات الأخرى، والمصالح للدول المتورّطة في الوحل السّوريّ.
جمل مفتاحيّة مقتبسة من الرواية: لعلّ في هذا الاقتباس ما يُكمل هذه الإضاءة النقديّة:
* (بتُّ أدركُ أنّ الهزيمة موت، فالحياة ما قبل الهزيمة تختلف عمّا بعدها. قبل الانكسار أنت كائنٌ لك المدة تنطلق فيه، وإن سُدّ بابٌ بوجهك اتّجهتَ إلى غيره، أمّا بعد الانكسار؛ فأنت شيء من الأشياء ثمنه بما يُقدّم من خدمات. ما أصعب أن تكون شيئًا أو أداة بيد الآخرين في هذه الدّنيا). ص88
*(إذا كنا نلتقي لنموت.. فهل علينا نفترق لنعيش..؟)ص61،
*(كيف للحياة أن تُعاد لمن دخل أُتون الموت)ص151.
*(لماذا لا يأتي الموت دفعة واحدة..!!؟)ص147.
*(الصمتُ سيّد الموقف في وجوه من ربّما لا حياة بهم) ص138.
*(هل الأسلحة تُجنّ في تثور تحت أشعّة الشّمس فقط، وتركن في الظلام..!!؟. لا بدّ أنّ تأثير ثوريّ يُغري غضب الأسلحة؛ لتطلق العنان لرصاصاتها)ص100.
*(تتشرّب الأرض الماء الآسن رغمًا عنها أحيانًا)ص99.
*(أنقّل ناظري بين بسطاره ووجهه، ولا أجد فرقًا بينهما)91.
*(الحيوان مهما كبر حجمه، تؤرّقه شوكة في نقطة ما من جسده) ص90.
*(نحن لا نضع بداية الأشخاص في حياتنا، ولا نستطيع وضع النّهايات لهم.. ولكنّ الأصعب أن نفقده بعد أن أسندت إليه بؤس اعتقالك، ومرارة الموت البطيء) ص85.
*(يختفي فجأة البعض، الموت هو أثر ما نعلّل به الاختفاء، وما أصعب وقعه على النّفوس) ص83.
*(الأمان لا يمكن أن يحدث بين مغتصب وصاحب حقّ) ص72.
*(فما بال قَسَم أبقراط أصبح في عقول عفنة، ولم تعُد الألوان تعني نفسها؛ فلا الأحمر يعني شهادة، ولا الأخضر ربيعًا، ولا الأبيض طيبة- تعليقا على لباس الطبيب في المعتقل) ص73.
*(كيف للرجل أن يجعل من نفسه عبدًا بكلّ هذه البساطة. أنّها سلسلة العبيد، والعبد قيمته بعبوديّته، وسلطة حاكمه؛ يضرب بسوطه وسيفه، ولا قيمة لعبد من دون سيّده، غير أنّهم لم يتعلّموا أنّ الكبير قد يُضحّي بالكثير من الصّغار لضمان بقائه) ص71.
*(الإنسان ينتقمُ من الجسد مُحاولًا كسر إرادة إنسان آخر، لكن الإرادة مرتبطة بالرّوح لا بالجسد) ص67. (في وطننا ضريبة البقاء، هي الذّلّ والعار) ص50.
*(نحن شعب نعيش على الأمنيات) ص51.
هذه الطّائفة من الجمل أضاءت فلسفة الكاتب الروائيّ (محمد عبدالسّتار طكّو)، فكان لا بدّ من نقلها من داخل الرّواية، لتثبيت الرّؤية الحقيقيّة للحدث، بنظرة مختلفة تمامًا عن السّائد المعروف بعمق دلالاتها، وإيحاءاتها المضيئة على مرحلة ظلّاميّة من حياة السّوريّين على كافّة الأصعدة.
عمّان – الأردن
29\ 5\ 2020