توقفَ عن الرد..
د. ريمه عبد الإله الخاني
كان بريق عينيه يذكرني بعينين أتذكرهما جيدا..ونظراته التي يملؤها الرجاء والتوسل تزيدني تأكدا أنه هو من أبحث عنه، حتى أنني حاولت التأكد من اسم والده فعرفت مالاأريد معرفته…ياللصدف المؤلمة والاحتمالات الغبية…ومازال يسألني:
-هل يمكنني التنصل من العملية؟
************
التفت إليه قائلا:
-يبدو أن العناية بمفصل زوجتك الآن غدا مكلفا جدا، ربما زوجة ثانية أفضل..
نظر إليه نظرة المتعجب..ونظر إلي وسط مفاجأتي برده غير الطبي...
-لاأستغني عنها..
هل كان يمزح مزحة سمجة؟ أم يحاول إقناعنا بالعملية البائسة ومواد صينية تعسة؟.تتكسر تحت وطأة متطلبات الحياة التي لاتنتهي؟.ومتى كان الصناعي يضاعي صنع الإنسان الإلهي؟.يستطيل الزمن فيصبح في ذاكرتنا قرونا..
هناك في المشفى الآخر..حين وصلنا ..ترى بوضوح كيف تكسرت مفاصل الجمهور البلاستيكية يتأوهون وكأنهم جوقة الموت...ينتظرون من ينقذهم أو يقتلهم..قلت له وأنا أتنفس بصعوبة:
-أخرجني من هنا أكاد أموت ..
وصلت إلى هنا حسب نصيحة جارنا الحاذق خبير مشترياتها..وأكاد أقرأ في عيني الطبيب الذي وصلنا إليه أخيرا وسط الألم الكبير الذي أشعر به .. كلاما كثيرا..
-بكل بساطة ثقته بي تجعلني أنتزع منه مفصلة المتنكس وأبدله بمفصل صيني سيء الصنع، فأقطع عظامه وأنشرها وأتركه نهبا لتكسرها تحت وطأة حركته الدائبة...أن أتركه يتجرع الألم في كل خطوة يخطوها..يندم أن وقع تحت براثن جرح طويل يشوه فخذه ..ويذكره بقرار خاطئ أقدم عليه والده فأضر بي.. قبل أن يسأل مرارا وتكرارا أطباء ماباعوا الإنسانية بعد..يمكنني وقد امتلكت ثقته أن أقتله حتى…عندما اتصل به والده من أرض الوطن وهو بين يدي في أرض الغربة…وعرف اسمي سكت طويلا ولم يعد يجب ..حتى صرخ فيه قائلا:
-بابا حتى أنت لاتدري ماذا أفعل وكيف أنقذ نفسي..المعلومات التي لاتحدّث تموت…ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان..معلوماتك قديمة ياوالدي أعتذر لأنني قلت هذا…
طلب والده أن يحدثني فلم أقبل متحججا بأشغال في المشفى حيث تركته بعض وقت متذرعا بهواتف عديدة كذبا..
فجن والده ..وغدا يتصل بإلحاح، لعبة الكرة المؤذية سببت له عطبا في ركبته، ولأنه لم يدفع بعد مايترتب عليه من رسم الغربة لخدمة العلم لم يستطع الحضور لوطنه كي يجري والده تلك العملية..
************
كنت أملك حدسا عميقا يجعلني أفكك الأمور من حولي من كلمات…فأرتبها في عقلي كما أرى فتصبح قريبة جدا من الحقيقة..هواية ممتعة حقا..تبث في الفكر حب التسجيل الأدبي..فهمت القصة وحديث عينيه…طبيب خبير واثق من نفسه جدا …متجدد بمتايعته أخر ماوصل إليه الطب..
ونظرت إليه بجانبي..كانت عيناه أكثر بكاء من بكائي على نفسي، وكأنني مت ولم أمت…ربما حسرة على ماآلت حياته أو حزنا على سقوطي الصحي والمدوي بلا حركة تزين حياته في منزله الدافئ..يلبسني ملابسي ويطبخ بنفسه ..يالله..هل وصلت لهذا العجز ومابلغت بعد الستين من عمري؟!!..
الأمر الذي لم أعتد عليه ولاأريد ولكن لامناص من ذلك..وأنا التي لاأقبل إلا أن أتمم الأمور بنفسي…هذا العناد المزعج المتأصل والمتجذر..ربما سره ذلك منذ البداية، لكنه الآن لم يعد يراني أزجي الوقت في إنجازات تمتص كلمة مللت..والتي لم يسمعها مني أبدا طول فترة زواجنا، بل يبحث عنه دوما، بين دفات الكتب وهذا مايدفعه لنشر عروض جديدة مغرية في أمور المعاش تجذبني….من نزهات من اختراعات أطباق زيارات ..أنظم حياتي بطريقتي فترضيه وأنا التي تنازلت عن العمل خارج المنزل لتلبية متطلبات الأسرة ولم يعطلني هذا بحال..لذا أرى بعينيه أن نصف وربما جل حزننا على مايجري للناس هو حزن لافتقادنا لمن نحب لتشابه التجارب ورجوعنا لماضٍ شبيه..فنتمازج بغية الخروج بتجارب جديدة مبدعة في مسيرة يومياتنا..وأتذكر ديستوفسكي الذي تحسبه وكأنه عاش حياته وحيدا تماما فتتساءل وماذا كان دور زوجته في حياته؟
-على أي شيء ستغدو ممتنا لأحد؟ولم تجد معك أحد في الأزمات؟أو أنك عشت أسوأ لحظاتك بمفردك…
نعم كان وحده معي وبدون منّة وبإخلاص ولهفة.
أخبروني مؤخرا أن إنسانية الطبيب مكسور الركبة والذي سبب له والد مريضه الألم الدائم…فوصل إلى علاج يرمم تلك المفاصل المتأذية…
عندما اتصل به شاكرا لمعروفه حيث عرف اسمه أخيرا…أعطى للممرضة الهاتف قائلا اشكريه ولاتدعيني أكلمه أبدا…فأنا أخشى من لساني…وعندما غدا يعرج خارجا من الغرفة..التفت إلي قائلا:
-دعي هؤلاء الأطباء التجار..ولنبدأ علاجا طويلا تخرجين منه بخير..فكلمة عملية ليست مزاحا..وآخر العلاج الكي..ونحن لانريد الكي..تنفست الصعداء..وهب زوجي مقبلا له سائلا إياه البدء في العلاج فورا..مهما كلف الأمر …بكيت عندها طويلا جدا..
23-9-2022م