(يا حارة وسخة، لم ترب أبناءها، يا ناس لا ضمير لكم. امنعوا شر صغاركم عن الناس. والله إن القادم أسوأ ... إن القادم أسوأ ...
منكم لله ... منكم لله.)
كانت صيحات العم (راشد) شيخ الكتاب نصف الضرير، تملأ جنبات الشارع الشعبي الضيق. وهو يلملم أطراف ثوبه، محاولا الخروج من دائرة الوحل التي حفرها الصغار، وغطوها بالعشب والتراب ، فانخدع فيها الشيخ، كما انخدع الكثيرون من أهل الشارع و المارة، وكيف لا ينخدعون ؟ وقد رصت العفاريت
الصغيرة كثيرا من الأحجار حول الحفرة الخادعة, كي يجبروا المشاة على سلوك الخط المرسوم نحو دائرة الوحل ... فلا خطوة إلى اليمن ,ولا خطوة إلى اليسار.
الطريق ممهدة نحو مركز الدائرة. فما أن تغوص الأقدام والسيقان ، وتتعالى صرخات الضحية، حتى تضج الشرفات بالصياح والتصفيق،والضحك والسخرية.
وكم وقع في الدائرة من أناس محترمين، ونساء فضليات وصبية وصبايا أبرياء.
كان الناس يضجون بالشكوى ، فتشير أصابع الاتهام نحو ذلك العفريت الشقي ،
( السنجق) ذلك الصبي ابن بائعة الملح ، التي ملكت نصف الشارع ، ونصف بيوته ونصف دكاكينه.لم تكن لتسمع لشكوى الناس ، ولا لصرخات تضرعهم . فهي النمرة القبيحة الشرسة، لا تدع فرصة للناس أن يشكوا أو يرفعوا صوت التذمر ،حتى تسمعهم من قبيح السب وفاحش القول ما يسكت شكواهم ، ويخرس ألسنتهم.
فاستمرأ ابنها الوحيد ما يفعله بالناس وبالحارة. فهي لا ترضى أن يمسه مخلوق بكلمة ، مهما فعل.وكأنها كانت تفخر بما يقوم به،ذلك الصبي الذي أتاها ذرية غير صالحة، في سن متأخرة من شبابها الضائع. فلم يجد ذلك
( السنجق) من يصده ولم ير أمامه ما يردعه.
فاكتفى الناس بالتذمر المكتوم ،اتقاء لشر تلك الذئبة الشرسة سليطة اللسان.التي أطلقت ذلك المفترس، ليفعل بالناس ما يريد عقله المريض، ويهوى قلبه الأسود.
ولم لا يسكتون، وهم أسرى ديونهم لها، وصكوك كتبوها على أنفسهم، تطوق بها تلك الذئبة رقابهم.
$$$$
لكن للزمان كلمته ، وللأيام فعلها.جلست في دكانها المعبأ بالملح كوجدانها، نصف عمياء ونصف صماء، ونصف مشلولة. مقهورة حزينة،متعجبة! كيف لابنها الوحيد الذي ربته بعد فرار أبيه منها. أن يسلبها كل شيء ، بل ويهينها ويضربها ، بعد أن بدد أملاكها، وأكل أموالها
،وضيع ثروتها على إدمانه وانحرافاته، ومغامراته.
$$$$
كان (السنجق) و رفاق طفولته, وأقران ألاعيبه الشيطانية، علامة للشر في ذلك الشارع الشعبي المنكود.فبعد زهق روح الأم الذئبة،
ورحيل العم (راشد), حزينا. وإغلاق كتابه لتحفيظ آيات الله.
تسيد ابن بائعة الملح وعصابته الحي وسكانه.
فمنذ طفولتهم الشريرة، وكما اعتادوا أن يحفروا الطريق ، ويملأوا الدوائر بالوحل، ويغطونها بالعشب والتراب، ويخادعوا الناس حتى يسقطوا فيها، هم الآن ، أيضا،في شبابهم بزعامة ( السنجق) بلطجي الحي الشعبي ، يجرون الفتية والفتيات إلى شيء ما في الحي الأرقى من المدينة.
هناك،حيث يختفون لأسابيع، ثم ليظهروا وعليهم فاخر الثياب ، وفي جيوبهم أوراق النقد.وفي أيديهم سلال الفاكهة، وحقائب الهدايا. ويقودون حديث السيارات.
أما الأهل، كما كانوا في ماضيهم، يفتحون الشرفات ويضحكون ، فهم الان يفتحون الشرفات مرحبين بأولئك الشباب الذين تخطوا حواجز العوز ، وسدود الفاقة، ودوائر الوحل. لسداد صكوك أهاليهم وديون ذويهم.
&&&&
ذات صباح ، حوصر. الحي بأكمله، وسدت المنافذ بسيارات الأمن ، وجيوش الشرطة وأسلحة القانون.
تم سحب فتوة الحي, (السنجق) من بيته ، وسحب معه الكثيرين من الشباب والفتيات.
في حملة مشددة للقبض على تجار الجسد والعملة الأجنبية والمخدرات .
&&&
سنوات مرت، غلقت فيها الشرفات، ومشى أهل الشارع فيها منكسي الرؤوس.
وكان السنجق العجوز، بعد قضاء مدة عقوبته، هناك في ركن الحارة ، حيث نصب له أطفال أشقياء، ذات الحفرة الخادعة ،المغطاة بكثير من العشب والتراب؛ لم يتخذ ذلك الضرير خطوة لليمين ولا خطوة لليسار ، بل تقدم دون تردد،وبمحض إرادته لينزلق بهدوء في دائرة الوحل ا