فهمانُ يرى الشيطانَ باستخدام الفيزياء النووية ج3
بعد أن برأ فهمان تماما من الصاعقة التي أصابته بعد أن سافر إلى المستقبل وشاهد بنفسه أهل النار يعذبون -وقد كان منهم كاجيتا- دعا جاك مجددا لاستئناف التجارب قائلا: «جرّب التصادم هذه المرة على 350 تيرا إلكترون فولت.»
ابتسم جاك له وهو يقول: «300 تيرا إلكترون فولت سفّرتك إلى المستقبل حيث انتهت الحياة الأرضية، فما بالك ب 350!»
بادله فهمان الابتسامة، ثم قال حزينا: «هل تصدقني لو قلت لك إني أفضل السفر إلى إبليس في وقتنا الحاضر عن السفر إلى المستقبل لرؤية أهل الجنة؟»
تقلصت ملامح جاك بعد الابتسامات العريضة التي كانت تبسط وجهه بسطا بسبب إخلاص فهمان الذي لم يعهد بمثله في الحياة، وقال بتأثر وهو يهز رأسه: «أصدقك.»
- «ما دمت تصدقني فعلام الانتظار، هيا نجري الارتطام.»
***
توجه جاك على الفور إلى ليناك 64 (هو من يدفع حزم البروتونات) لوضع حزمتي البروتونات، ووقف فهمان مجددا داخل الفقاعة الرابيديومية بعد أن ارتدى البذلة الفضائية وأمسك بالمجس.
كانت يدا جاك تضطرب بشدة خوفا على صديقه من أن يحدث له مكروه مرة أخرى.
أطلق جاك حزمتي البروتونات وتصادمت بعد ثلث ساعة، وتولدت الثقوب السوداء المجهرية، وبوساطة برنامج حاسوب تمكن جاك من جعلها في صورة دائرية كما كان سابقا في التجربة الأولى (تجربة 300 تيرا إلكترون فولت).
أمسك فهمان بالمنظار في انتظار أن يضرب جاك جانبا من ذرات الرابيديوم السالبة في أحد قلوب الثقوب السوداء -التي تحيط به في شكل دائرة- لتخليق الثقب الدودي ليرى به ما خلفه (الثقب الأسود) من أكوان. لكنه لم يتمكن إذ حدثت كارثة!
حدث خلل في جهاز الليزر، فأحدث تفاوتا في قوى حزم الليزر المنطلقة؛ مما تسبب في تفاوت قوى أفق أحداث الثقوب الجاذبة، وهذا التفاوت في القوى تسبب في وجود قوى تنافر في جزء من الفقاعة لم يقابلها نفس قوى التنافر في الجزء المقابل فدفعت فهمان قوى التنافر الأكبر الناجمة عن الثقب الأسود فوقع المنظار من يده على الفور، وارتطم بالجدار بتأثير قوى جذب الثقب (طبعا التي تحولت إلى قوى تنافر بسبب الفقاعة ذات المادة السالبة التي تحيط بفهمان) فشج رأسه، بعد أن كُسرت خوذة البذلة وأغمي عليه على الفور، فسكن أمام عيني جاك بلا حراك.
أوقف جاك كل شيء وهو في قمة الهلع، وقد ألجمت الكارثة أوصاله فصرخ، وحين توجه نحوه سقط على الأرض، حاول النهوض فلم يستطع، لم يكترث جاك بما حدث له وإنما وصل إلى فهمان زحفا.
صرخ به: «فهمان، فهمان، فداك روحي وكل ما أملك، يا ليتني كنتُ مكانك.»
مد كلتا يديه إليه وهما لا تكادا تستقران من شدة الرعشة التي ضربتهما، نزع عنه خوذة البذلة الفضائية التي تهشمت تماما، مد إحدى أذنيه إلى قلبه فسمع دقاته تتصاعد فتنفس الصعداء وتمالك نفسه وقال: الحمد للرب.
وكما دبت الكارثة في قدميه فأعجزتهما عن الوقوف استنهضت أيضا عزيمةُ إنقاذه فرد الله الروح إليهما، فحمله جاك على الفور وهو يحاول جاهدا وقف نزيف الرأس بكل السبل، واستدعى له طبيبا.
***
بينما جاك يحاول وقف نزيف الرأس ودموعه الحارة كالجمر تتساقط، دخل الطبيب.
أسعفه، كما أوقف النزيف تماما من خلال عملية جراحية، وجلس ينظر إلى جاك دهشا من شدة هلعه وحزنه على الرغم من أن الطبيب يعلم أن جاك أمريكي الجنسية.
أفاق فهمان بعد لحظات، وقبل أن يهمس بكلمة هبّ الطبيب من جلسته وقال له: «لابد من الراحة بضعة أيام دكتور فهمان فجراحك غائر وواسع.»
سأله جاك عن حالته فقال الطبيب: «كما سمعت دكتور جاك، الجرح غائر وواسع، ولقد أصيب أيضا بكدمات حادة في بعض الأجزاء من جسده، لذلك سوف يحتاج إلى علاج طبيعي.» ورحل الطبيب.
فور رحيل الطبيب حاول فهمان النهوض فلم يستطع، فالجرح أصابه بالدوخة، والكدمات آلمته.
قال جاك: «أتريد أن تذهب لدورة المياه يا فهمان؟ حسنا، سأتصرف.»
قال فهمان بصوت فيه حسرة: «ألا نستكمل التجارب؟»
ذهل جاك وقال: «تجارب! ألم تسمع قول الطبيب؟ قال بضعة أيام.»
- «وهل يمهلني إبليس وحزبه بضعة أيام حتى آتيه، أكيد هو وحزبه يلتفون حول كاجيتا ويتناوبون عليه الوسوسة حتى يدمر العالم.»
قال جاك دامعا: «يا فهمان، إن كان لي خاطر عندك فلا تفكر في هذا الأمر قبل أن تتعافى، أرجوك وأتوسل إليك.»
نظر إليه فهمان نظرة حب وإجلال وقد قرر أن يمتثل لرغبة جاك، بعد لحظات غلبه الإعياء فنام رغما عن أنفه.
***
فور وصول كاجيتا وفريقه أرض مطار طوكيو الدولي كان في استقباله سيارة طائرة من أجل أن تقوده إلى "كانتيه".
أمر كاجيتا فريقه بالذهاب إلى أهليهم، كل واحد منهم لم يجد في نفسه غضاضة من أمر كاجيتا إلا ناكامورا فقد امتعض، ودارى امتعاضه ببسمة عريضة، حدق كاجيتا بتلك البسمة واستقرأها جيدا، فقال في نفسه: ويلك يا ناكامورا ماذا تريد أن تفعل بي؟ بل ماذا تريد أن تفعل بقنابل الثقوب السوداء إذا حزتها؟
ورفع كاجيتا يده نحو الصرة التي تحوي القنابل الخمسة وذرات الرابيديوم، يتحسسها ليتأكد أنها ما زالت في حوزته ولم يسرقها منها ناكامورا، وناكامورا ينظر إلى يده ويتمنى لو تنسلخ الصرة من جيبه وتطير في الهواء وتذهب إليه.
***
دخل القصر، فهب رئيس الوزراء واقفا، وعلى وجهه ارتسمت علامات الحرص فألجمت لسانه عن التعبير عما بداخله، فأشار بيده إليه إشارة تساؤل عن نتائج رحلته.
فتهلل وجه كاجيتا، فانفرجت أسارير الرئيس وأسرع إليه واحتضنه في غبطة غامرة وهو يقول: «نجحت، نجحت، صح؟»
قال كاجيتا: «إن كاجيتا لا يعجزه شيء يا سيادة الرئيس.»
ابتعد عنه رئيس الوزراء قليلا ويداه تربتان على كتفيه، أما عيناه فتمتلآن طمعا وسروروا.
قال كاجيتا: «أخيرا سيادة الرئيس، أخيرا سآخذ العزاء في أهلي الذين ماتوا في هيروشيما.»
تركه الرئيس وجلس على كرسي العرش الذي لا يحب أن يفارقه بتاتا، وقال: «بل قل آن الأوان لتحكم اليابان العالم.»
استاء كاجيتا قليلا، وجلس على الفور ثم ما لبث أن قال: «قبل أن نقيم سرادقات العزاء علينا بتطهير خريطة العالم.»
وفتح هاتفه، وأخذ يقلب في بضع صور، فلما عثر على الصورة التي يريدها ثبتها على الهاتف.
قال وهو يشير على جزء منها وهي مساحة الولايات المتحدة: «سيادة الرئيس، هذه خريطة العالم، رجاء، انظر إلى هذه المساحة.»
حدق الرئيس على الجزء المشار إليه وقال: «هذه الولايات المتحدة الأمريكية، ما شأنك بها؟»
- «أريد محوها من الخريطة.»
وقبض على يده ثم بسطها ونفخ فيها كأنما يريد أن يزيل ما علق بها من قاذورات وقال مستدركا: «هكذا أنفخ فيهم فيكونون كالهشيم تذروه الرياح.»
دهش الرئيس وقال ممتعضا: «أنا لا أريد استئصال شأفتهم وإنما حكمهم، ثم من يسكنها فيما بعد إنْ أنا وافقتك على ذلك؟»
قال كاجيتا في نفسه: أيها الأحمق، جنون العظمة سوف يضيع علينا حقنا في طلب أجساد أهلينا التي ذابت وذرتها الرياح مع الغبار النووي.
وأراد أن ينتصر لرأيه، فقال: «سيادة الرئيس، لقد فرضتْ عليك أمريكا بأن تكون حليفا لهم وعليك الانتقام منهم من أجل ذلك.»
- «كان يجب أن أساورهم حتى لا أفقد مكانتي، فتاريخ الانقلابات العسكرية على مر العصور كان بيد أمريكية، وهذه الانقلابات لا تخفى على أحد، ولا يرتاب في أمرها أحد.»
- «لكني أريد الانتقام.»
وقف فور أن قال كاجيتا كلمته، ووقف له كاجيتا احتراما لشخصه، ثم ما لبث أن مرر الرئيس يده على لحيته وهو يسير الهوينى وأخذ يفكر بعمق، ولما اهتدى لحل قال: «اسمع يا كاجيتا، سنهلك أساطيلهم البحرية التي يتفاخرون بها، لكن اعلم أني سأفعل ذلك من أجل إرضائك، فمسألة الانتقام هذه لا أكترث لها.»
سكت كاجيتا حزنا، أما الرئيس فسكت يتدبر أمرا آخر، قال بعدها: «قل لي يا كاجيتا، كيف لهذا البيض المتناهي في الصغر (يقصد طبعا قنابل الثقوب السوداء) أن تفعل ما لم تستطع فعله القنابل الهيدروجينية، أو حتى الذرية؟ قرّب لي الفكرة.»
زفر كاجيتا زفرة طويلة وقال له: «سيدي الرئيس، الانفجار الذي حدث لنا من انشطار أنوية النيوترونات واليورانيوم، وهذه أيضا ذرات (يشير في هذه اللحظة إلى الصرة) ولكنها تتحول إلى ثقوب سوداء فور ضرب ذرات الرابيديوم الموجودة في وسطها بالليزر.»
عاود الرئيس وسأله مجددا: «لم تجبني يا كاجيتا عن سؤال سابق، من يسكنها إذا وافقتك على هلاكهم جميعا؟»
أجابه: «سيادة الرئيس، ستجذبهم الثقوب السوداء وترمي بهم في كون لا يعرفه أحد، أما مساحة أراضيهم فستنقص من مساحة الكرة الأرضية، لأن القنابل ستجذب ما حولها من مادة وترميها في كون آخر.»
دهش الرئيس، ولم يستسغ الأمر لشدة الدهشة.
فاستطرد كاجيتا: «مساحة الكرة الأرضية 510 مليون كم2 ويطرح منها مساحة أمريكا 9,826,675 كم²، هذه هي مساحة الكرة الأرضية الجديدة سيادة الرئيس.»
***
أقبل إليه، فلما دنا منه بسط يده إليه وقال: «القنابل.»
فأومأ كاجيتا برأسه إيماءة استفهام ودهشة.
قال الرئيس: «ما بك؟ لم تندهش؟ أريدها.» وبسط كلتا يديه.
أمسك كاجيتا نفسه عن الضحك وهو يسرع بإخراج القنابل المصرورة بورق لين، قال كاجيتا: «ها هي.»
احمرّ وجه الرئيس وقال له ناهرا وفي نيته أن يبطش به ويجعله أحدوثة تلوكها الألسن: «أتستغباني أيها الحمار! أين القنابل؟»
يعلم كاجيتا مقدار الصلف الذي يملأ كيان الرئيس، لذلك باغته قولٌ تردد على سمعه: لا تثريب عليك، فلولا صلفك ما أرسلتني إلى مصر لصناعة القنابل.
أجابه كاجيتا: «انظر سيادة الرئيس، حدق بهؤلاء جيدا، حدق.» يكلمه وهو يشير بإصبعه نحو الخمس قنابل التي بحوزته.
قال الرئيس وهو يمد يده نحو الصرة: «هاتها، هاتها، رويدا رويدا.»
لم يتمالك كاجيتا نفسه وانفجر في الضحك هذه المرة، وقال وهو يخرج من جيبه صرة أخرى ويشير إليها: «لا تخش سيادة الرئيس فإنها لا تُفعّل إلا بضرب ذرات الرابيديوم هذه بالليزر.»
فتمالك الرئيس أعصابه، أخذها وحدق بها جيدا وقال: «إنها أحدّ من شفرة الموس بيد أنها أدق من بيض البرغوت، كيف تعمل هذه الملعونة؟»
***
فهمان يرى الشيطان باستخدام الفيزياء النووية ج4
وأخبره كاجيتا بطريقة عملها، وأعطاه ثلاث مجموعات من ذرات الرابيديوم واحتفظ بالمجموعتين الأخريين دون علم الرئيس.
خرج كاجيتا من القصر بعد أن صرفه الرئيس على أن يلتقيه في اليوم التالي.
تمتم كاجيتا وهو في طريقه للخروج: مع الرئيس خمس قنابل، بينهما اثنان لن يعملا (يقولها وهو يقذف بالمجموعتين المصرورتين إلى أعلى بيده اليمنى ثم يتلقفها بها مرة أخرى).
***
لم يهدأ فريق كاجيتا منذ أن فارقوا أرض الوادي الجديد، وفور أن وطأت أقدامهم أرض اليابان ذهب كل واحد منهم إلى أهله وقلوبهم تتأجج نارا وحسرة على تلك القنابل التي صنعوها بأيديهم ولم تكن بحوزتهم.
وبدل من إطفاء لهيب الوحشة التي غمرت أرواحهم -بفراقهم للأهل والأحباب- بالاستئناس بالأهل والأحباب هجروهم وانعزلوا تماما عنهم لأن قنابل الثقوب السوداء التي شاركوا في صنعها قد أخذت بلب قلوبهم، ولقد حركت قدراتها الرهيبة مشاعرَهم فتولد من رحمها أجنة العظمة التي بدأت تنمو وتنمو طوال الليل حتى تمنى كل واحد منهم أن يمتلكها ليدعو إلى نفسه إلها.
ورغم تلك المشاعر المتأججة التي استعمرت أرواحهم إلا أن الأمر لا يخلو لبعض من ملامة النفس، فهم يعلمون ما لا يخفى على أحد من شعب اليابان منزلة المعلم الذي بات عند بعض طوائفهم -إن لم يكن جلهم- في منزلة إله. وفي نهاية الصراع الدائر على حلبة أنفسهم فتك الشر بلوم النفس فأجهز عليها.
أما ناكامورا فقد أكل الحقد قلبه، واشتعل قلبه غيظا وحسرة ألا يمتلك تلك القنابل.
قضى ليلته عاضا في أنامله، ويكز على أسنانه بين الفينة والأخرى ويزوم ويزمجر كالرعد. ولقد توغل الغضب في أوصاله وتدفق الدم إلى رأسه حتى تحول إلى جمرة من نار لو سلطت على شيء لأكلت منه اليابس قبل الأخضر.
ولقد أكره نفسه كي تلتزم السكينة وتتلبس بالحكمة والتعقل حتى يجد طريقة تمكنه من الحصول على القنابل.
وبعد تدبر تراءى له إنه لم يكن أمامه سوى وسيلتين، الأولى الذهاب إلى الوادي الجديد والنزول بالمختبر وصنعها بيد أنه قال: ربما لا أستطيع صنعها؛ ثم لابد من تصريح من رئيس دولتي لأدخل المصادم، وهذا مستحيل.
إذن فلا يوجد سوى الوسيلة الأخرى. وقد عزم على تنفيذها. وهي قتل كاجيتا.
وظل يضرب كلتا يديه بعضهما ببعض، وهو يزفر متوجعا، وينظر من النافذة لعل خيوط الفجر تبكر هذا اليوم ويتنفس الصبح، بيد أن حرقة الانتظار حولت تلك الخيوط إلى سياط من نار تجلد ظهره، وتنفس الصبح المنتظر تحول إلى لفح من جحيم الآخرة.
وفور أن تنفس الصبح خرج من منزله واستقل سيارته وهاتف زملاءه.
اجتمع بهم بعد بضع ساعات وفاتحهم في الأمر، فانقسموا إلى فريقين، الأول يرى سرقتها فحسب والثاني يفضل قتله ليفسح لهم المجال في السيطرة على الكون.
واستقروا على قتله، بل قتل فهمان وجاك أيضا لأن أولئك الثلاثة سيمثلون لهم مصدر تهديد إن بقوا على قيد الحياة.
***
توجه كاجيتا نحو قصر الرئاسة في الساعات الأولى من الصباح.
فلما دخل عليه بادره الرئيس بقوله: «يا كاجيتا، متى نبدأ تنفيذ الخطة بالضبط؟»
أجابه: «سيادة الرئيس، ثمة مسائل تقنية تخصكم، فعليك الانتهاء منها أولا قبل الشروع في خطة الهلاك.»
قال الرئيس مستاء: «كيف؟»
قال كاجيتا: «وضع القنابل ليس بالأمر الهين، فلابد من تسلل الرجال الثلاثة ليرموا بالقنابل الثلاثة بالقرب من الأماكن التي تتجمع فيها سفنهم.»
قال الرئيس: «إذن سأحتاج إلى وزير دفاعي ليكلف خبيرا في فنون القتال البحرية بمهمة إلقاء القنابل بالقرب من سفنهم.»
وهاتف الرئيس بالفعل الوزير، فجاء وبصحبته الخبير على الفور، وبعد أن علم الخبير تقنية عمل تلك القنابل حدد كيفية وضعها بجانب تلك الأساطيل الثلاثة.
ومما قال: «سنأتي بثلاثة صياديين.»
دهش الرئيس وسأله: «كيف ذلك؟»
أجابه: «لم أقصد صياديين بالفعل، وإنما رجالنا سيمتهنون مهنة الصيد حتى ينتهوا من مهمتهم. سنغلف تلك القنابل بطعام لا تأكله الأسماك ثم نضعها في شص (أداة صلبة معكوفة تعلق فيها السنارة) صيد السمك ويلقونها في السواحل، ويتركون العنان للخيط ليقترب من تلك السفن، ويتابعون عن بعد ثم ينصرفون في الوقت المناسب.»
بعد أن حدد كاجيتا الوقت المناسب له قال: «خطة لا بأس بها.»
قال الرئيس: «أيها المحترف، ابدأ التنفيذ.»
ولما انصرفا (الوزير والخبير) قال كاجيتا: «لا بأس بوسيلة الخبير، فهي سوف تمكننا من نقل نحو ربع مليون فرد، وهم أفراد طواقم السفن.»
قاطعه الرئيس دهشا وقال متمتما: «نقل، نقل! ألن يهلكوا؟»
أجابه كاجيتا: «للأسف مصيرهم مجهول، فمصير اليابان في عام 1945 معلوم، أما مصير أمريكا بعد بلعهم بقنابل الثقوب السوداء فمجهول.»
قال الرئيس غاضبا دهشا: «يا كاجيتا، كثرة مفاجآتك التي تقذفني بها الواحدة تلو الأخرى سوف تصيبني بالجنون، كيف يكون مصيرهم مجهول؟»
قال متوجعا بعد أن زفر زفرة ضيق طويلة: «للأسف، قد يحيون في بُعد آخر ويصبحون ملوكا في بُعدهم.»
رفع الرئيس يده إليه لا يلوي على شيء سوى العجز عن الكلام، وتمتم ببضع كلمات غير مفهومة، وغمغم بصوت مسموع، وأخيرا سكت ثم قذفه بقوله وهو يشير بأنامل يده اليمنى إشارة انصراف: «كاجيتا، لا أريد أن أعرف شيئا عن تلك القنابل الملعونة، فقط نفذ خطتك.»
قال كاجيتا: «ثمة تعديل طفيف في الخطة، سوف ننقل أساطيل ثلاثة، ونعدم الرابع المتمركز في بلدنا بالرصاص لأننا لن نستطيع استخدام القنابل على أراضينا حتى لا يصاب أي مواطن ياباني بسوء.»
قال الرئيس وهو يقهقه: «أي رصاص يا كاجيتا! سوف نضربهم بالطوربيدات.»
- «حسنا، سوف أجلس في معملي، وانتظر إشارة انتهاء مهمة الرجال الثلاثة، فور أن تأتيني الإشارة سوف أفعّل عمل القنابل.»
- «سأخبرك فور انتهاء عملهم واجتماعي بحكومتي، هيا امض إلى مختبرك.»
بسط كاجيتا يده ولم يتكلم.
قال الرئيس دهشا: «ماذا تريد؟»
- أريد القنبلتين.»
قال الرئيس وهو لا يعي ما يقول: «سأحتفظ أنا بها، وآمرك أيضا بألا تنزل بالوادي الجديد إلا بأذني.»
فانصرف كاجيتا غاضبا.
***
فور رحيل كاجيتا أرسل إلى الحكومة وعقد معهم جلسة سرية للغاية.
وأخبرهم بما يريد.
لم يمانع أو يتردد منهم أحد بل باركوا خطته ودعوا لكاجيتا بالتوفيق.
ولم يمانعوا في اختيار الثلاثة أساطيل التي انتقاهم رئيس الوزراء سابقا وهم: أسطول مدينة سان دييغو، والأسطول الرابع في مدينة جاكسونفيل فلوريدا، والعاشر بولاية ماريلان بأمريكا. كما لم يمانعوا أيضا في محاصرة الأسطول الرابع المتمركز على سواحل كاناغاوا اليابانيّة ومن ثم رميهم بمجموعة من الطوربيدات التي سوف تنطلق من السفن المقاتلة اليابانية المتاخمة لهم.
وثمة معضلة لابد من إيجاد حل لها، وهي تداخل بعض القوات اليابانية مع الأساطيل البحرية الأمريكية لأنهما يحاربان معا كتحالف ضد الجانب الشرقي بقيادة الروس والصين.
وقد اتفقوا أيضا من أجل حل هذه المعضلة وهو الإعلان عن انسحاب اليابان من الحرب الدائرة متعللين بأن رامسفيلد رفض عرضا سخيا من الروس دون مبرر، ومن ثم فإن رفضه قد يودي بالعالم على حافة الهلاك.
واستكمالا للخطة قرروا قتل جاك وفهمان معا، لذلك حددوا فرقة مقاتلة من فرق الساموراي لإرسالهم إلى الوادي الجديد لقتلهما هناك، فوجود جاك مع فهمان في المختبر FFC-2 غير خاف على أحد.
وبتلك الخطة المحكمة تحكم العالم كما تنهي على آخر أمل لأي دولة تشاركها حكمها إذا ما تمكنت من صنع قنابل الثقوب السوداء أو الحصول عليها بأي طريقة ما.
***
وتم لهم ما أرادوا، حيث انسحبت القوات اليابانية المشاركة في الحرب العالمية ولاسيما البحرية منها، وكان الرجال الثلاثة في هذا الوقت على أهبة الاستعداد حيث الأساطيل منشغلة بأمر انفصال الأساطيل اليابانية عنها؛ وألقوا السنارات الثلاث بنفس الطريقة التي حددها لهم المتخصص في فنون القتال البحرية.
وسبحت السنارات الثلاث في اتجاه السفن، تلك السفن التي تسبح في سواحل المحيط الأطلسي والهادي وعليها مدمرات وطرادات وطوربيدات فضلا عن حاملات الطائرات التي تحلق فوقها مباشرة لتمدها بما تريد وتكون لها بمنزلة غطاء جوي لحمايتها، كما أنها مأهولة بطواقم يبلغ قوام أفرادها 250 ألف فرد.
***
ودخل كاجيتا المعمل ونصب ذرات الرابيديوم الثلاث بطريقة تمكنه من ضربها جيدا. وقال: الآن أفعل ما أشاء دون أن يصل إليّ أحد لأنه لا يمكن تتبع مصدر الضرب.
وظل ينظر إليها نظرة الضبع الجائع لإحدى فرائسه، كل أوصاله ترتعد، وعيناه ترميان بشرر كأنه يتأجج من لهيب الجحيم.
بعد بضع لحظات أمسك هاتفه، ونصبه تلقاء وجهه، وظل يحدق به لأكثر من عشر ساعات، وهو واقف لم يجلس قط، وأخيرا همس: هيا، اتصل أيها الداعر الماجن.
وفور أن انتهى من قوله رأى اسم رئيس الوزراء على هاتفه، وطرق جرس الهاتف أذنيه كأجمل لحن في الوجود.
وما لبث أن رمى الهاتف كأنه قطعة من جمر بعد أن فتح الاتصال، وأمسك جهاز الليزر بكلتا يديه يضرب في ذرات الرابيديوم رغم أنه لم يسمع قول الرئيس.
أما الهاتف فملقى على الأرض تسمع منه قول رئيس الوزراء وهو يردد قوله: كاجينا نفذ، كاجيتا ألم تسمعني! نفذ.
***