بقلم هائل سعيد الصرمي
رُوي أن ابن زريق البغدادي كان شاب وسيما بهي الطلعة , فصيح اللسان وكان فارس في الشعر لا يشق له غبار, أو ينفرط له عقد , يتنقل بين الأمصار كما تتنقل الطيور المهاجرة بحثا عن الرزق , فقد كان يدخل على الملوك فيستمتعون بروعة شعره وحسن بيانه فيغدقون عليه بالعطايا والهبات , فيعود إلى بلده " بطانا , كما تعود أسراب القطا التي تغدو خماصا وتعود بطانا.
وفي أحد الأيام وهو عائد إلى موطنه بغداد من رحلة شاقة أصابه إعياؤها وأرقه وعثاؤها ؛ لبعد الشقة وطول السفر.. عاد موفور الجانب.
وأثناء عودته دار في خلده حلم عمره الجميل , الذي يذرع الآفاق من أجله ويقتحم الأهوال في سبيله ...حبه العذري لابنة عمه ورقاء التي كان يعشقها حتى الثمالة , فهو يريد الزواج منها , ولكن لقلة اليد ظل هذا الحلم حبيس المشاعر...ولعلَّ وافر رزقه هذه المرة يمكنه من تحقيقه, فقد مرغته رمال الصحراء وهو يلهث خلفه , بل كادت تبتلعه أكثر من مره.. ولكنه كان يمزج مرارة المشقة , بحلاوة حلمه الجميل ـ فلا يجد لعنائه أثراً , لولا ذلك لما تحمل كل ذلك التعب.. ولكن لابد دون الشهد من إبر النحل.
تدنوا المعالي لمن يسترخص التعبا ومن إليها يشد الرحل والطلبا
من رام في طلب الغيـات تتبعــــــهُ وليس يبلغها ناءٍ ولو رغبا
من يعشق الغيد لا ينجو من العلل وينتئـي دونها المــوصوفُ بالكسل
فاسلك عباب الفيافي كي تناولها مهر الوصال ولا تبق على السبل
لقد قرر ابن زريق بعد هذه الرحلة أن يستقر ويكف عن الترحال ويتزوج بفتاة أحلامه وروضة أنسامه.. تلك الغادة الحسناء التي سلبت عليه لبه , وأسرت شغاف قلبه...إنه يراها مُلكهُ الذي يتضاءل دونها كل ملك !!.! كيف لا وهي ورقاء بغداد مليحة المليحات , تتحدث الدنيا عن جمالها الفريد وعقلها الرشيد , لقد رفضت كل من تقدم إليها وفيهم كبراء القوم وأشرافهم .
دنى العاشق الذي يذرع الآفاق من ضواحي بغداد ولم يشعر بوصوله , فما يزال مستغرقا بآماله العريضة التي تبهجه حينا و تغتاله حينا آخر بسبب مخاوفه , ها هو يطلق لمخاوفه العنان , فيقول لنفسه:
هل يا ترى رفضت من تقدم لها من أجلي أم أني أتوهم أنها تنتظرني وهي ليست كذلك؟...لقد أحببتها أكثر من نفسي فهل تراها أحبتني كما أحببتها...أتكون تلك الرشقات التي كنت أشعر بها ـ وهي تلوح من خلف الحجب واخضرار السواقي على مرفأ النبع والتل والرابية ـ صدفة عابرة , أيكون ما أصبو إليه سرابا حتى إذا جئتُ لا أجده شيئا...
واستدرك ليطمأن نفسه : كلا والله لن يكون سرابا وقد شممت هواها في ربوات الهضاب ونسيمات الشعاب: وهيهات أن يند عني حديث العيون وإن لم تنطق به الشفاه , ولكني أخشى ما أخشاه أن يكون ذاك الدلال الموشى بالحشمة , نهنهة قُربا وحسن جيرة , أو وفاء لذكرى ملاعب الصبا , ومراتع الضبا.
وظل هكذا يداهمه الاضطراب وينصرف عنه كلما فكر بالتقدم لخطبتها خشية أن يفجع بما لا يرجو و تفارقه روحه.... :
سيعرفُ حين يجمعه الجوارُ أتصدقه المشاعرُ أم تحارٌ.
لكنه إلى الرجاء أميل , ها هو يلامس شغاف قلبه وجد يتدفق كالشلال يشيد بذكر أخلاقها وحسن أوصافها ,متذكرا مواقف خلتْ بلسان حاله قائلا:
[TABLE="width: 99%"]
كؤوس الحب تُسكر كالمدام
وتضرم مهجة الصب الهمام
ونبض الحب في الأرواح يسري
ولو عجز المحب عن الكلام
تبوح به العيون وإن تناءت
وتدركه القلوب بغير رام
حجابك زادني ولها وحبا
ولو أني أغار من اللثام
ولكن الخمائل في رباها
تزيد تجملا بردا الغمام
يحبكِ أيها الورقاء قلبي
فهل لصداه عندك من غرام
بوديان الفؤاد أراك مرعى
لمُهرٍ صَافنٍ ولهٍ تهــام
تخفَّى بالحياء فكان زينٌ
يزيد حياؤه الزاكي غـرامي
تزين بالعفاف فقلت خيرا
مرادي أن أعفَّ عن الحرام
يــظل بمحبس الأحلام حبي
يمزقني وينهش في عظامي
أيذوى فجر أيامي وعمري
وأرحل مثل أسراب الحمام
ويهتبلُ الغيور ويزدرينا
ويذهب بالجوى حســـد الـِّئام
ألا يا نبض أيامي الخوالي
هل الورقاء تعلم في هيــامي
أم الترحال برح بي وأنسى
غزالا ضرها طول المقام
أما بلَّغْتَ يا ريح الخزامى
معاذيري إليها أو مرامي
أيجمعني بروح الروح وصلٌ
فأسعد بالوصال وبالـوئام
ومنذ تحجبت عيناك عني
فأنت معي بصحوي أو منامي
فطيفك لا يفارقني وإني
أراكِ الأن من خلف الخيام
بقلبي أنت ساكنة وروحي
كأن قوامك الزاهي أمامي
وكنت إذا أردتُ إليك وصلاً
يحمل أهلكِ أهلي سلامي
وأختلق المعاذرَ كي أراني
وأشفى لو لمحتك من سقامي
وحسبي أن أجندل حين يُرمى
فؤادي من عيونك بالسهام
فأحيا ميتا وأموت حيا
وما جدو الحياة بلا هيام
وكم أغرى الدّلال صهيل قلبي
ولم أغرى بما تحت اللثام
وهل يخشى المحب صدود قلب
إذا وفد الكريم على الكرام
تسربل بالحجاب فزاد حسنا
وشف عن العواذل والــملام
شفيف الروح موصوف السجايا
بهي الحسن ممشوق القوام
يسيرُ إذا سريتُ معي ويمشي
كظلي في الخلاء وفي الزحام
رماني مرة فنظمت شعرا
حفيا مذ رمى بالحب رامي
نثرت كنانتي وأسلت حرفا
يفجر من صبابته عرامي
وحتى الملتقى يا نبض روحي
يُشِّظ الشوقُ قلبي كالحسام
وبعد وصوله بغداد سعى في حاجته التي عزم عليها وتم له ما أراد وتحقق حلمه وخابت وساوسه , وتزوج بابنة عمه وعاشا أحلى أيام عمرهما , في سعادة غامرة , يرشفان من كأس حب مترع كالشهد , ومخضر كالسندس , وظلا على ذلك فترة ليست بالطويلة.. فما يزال حديث عهد بحبيبته التي جاءت بعد طول عناء وشوق , حتى نفد ما كان عنده وأصابته فاقة ، فأراد أن يغادر بغداد إلى الأندلس لسد فاقته ، وذلك بمدح أمرائها وعظمائها، ولكن زوجته تشبثتْ به، وتعلقت بأثوابه كما يتعلق الوجل المحب بأستار الكعبة ؛ محاولة بكل جهدها أن تثنيه عن الرحيل ليبقى بجوارها شغفا وحبًا , وخشية وخوفا.. ولقد ألحت معللة له بأن الرزق سيأتيهما ويكفيهما وإن قل , مهونة من الفاقة ومعظمة لما بين يديهما من السعادة , فقد كانا ينهلان من نبع الهوى كما ينهل الظامئ من الماء العذب, ولكن دون جدوى ، فلم ينصت لها , وتجهز مفارقا وهي تبكيه و يبكيها ، ورحل قاصد الأمير أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي ، ولما بلغ الأندلس مدحه بقصيدةٍ بليغة ، فأعطاه عطاءً قليلاً لا يكاد يذكر، فتحطمت آماله وانهار كيانه , وقال - والحزن يحرقه -: "إنا لله وإنا إليه راجعون، سلكتُ القفار وخضت البحارَ إلى هذا الرجل، فأعطاني هذا العطاء الذي لا يفي بنزر يسير مما أنفقته في رحلتي إليه...ولاحول ولا قوة إلا بالله , وخرج منكسر النفس خائر القوي لا يدري ما يفعل, ونزل ـ مهموما ـ بكوخ استأجره لمبيته ؟!".ثم تذكَّر ما اقترفه في حق زوجته التي أنحلها البين وأضر بها الفراق , فمازالت تبكيه مذ رحل عنها , فلو استجاب لها لكان خيرا له ثم تذكر لما تبين أنها لها البين نحلها نحلها البين وضر بها الفراق فما زال تدقدقين من دون رحل عنا فلوس فلوس تقابلها لك انه خيرا له ثم تذكر لما تبين أنها لها البين ثم تذكر لما لما تبينا انه أنها لها البين نحلها علق علق علق التلفون علق علق علق علق، ولكن ما شاء الله قدر , ثم تذكر طول البين وبعد الشقة وما سيتحمَّله من مشاقٍ لعودته التي ربما تأخذ منه شهورا ، مع لزوم الفقر وضيقِ ذات اليد ، فاعتلَّ غمًّا وداهمته حمى المنية فمات من ليلته تلك , وطلبوه في صبيحة اليوم الذي قضى فيه فوجدوه ميتا , وتحت رأسه رقعة مكتوب فيها: تلك القصيدة العصماء التي خلدت ذكره ورفعت قدره , لقد سطرها بجراح قلبه ونزيف وجده , وظل الأمير يبكيه بكاء مرا, وأقسم بعد قراءته القصيدة أن لوكان حيا لأعطاه نصف ثروته , وهيهات.. لقد طاف بقصيدته الآفاق ؛ وبلغت من النفوس الأعماق , لما فيها من جليل المعاني وكريم الأخلاق , وذلك لا يساوى أموال الدنيا.. وإلى يومنا هذا والأجيال تلو الأجيال تستمتع برقتها وروعة تصويرها, إنها بديعة كل الأزمان ورائعة تفوق كل الأشعار, فهي بذاتها القصة من قرأها لا يمل تكرارها ؛ ربما لأنه أمهرها أنفاسه , فبعد أن سكب الشاعر روحه فيها فاضت , ولم يُروى له سواها. ولعلى هذا الثمن الباهض جعل لها هذا الأثر والخلود.. يقول فيها مخاطبا ابنة عمه التي مات وجدا وكمدا على فراقها:
لا تَعـذَلِيـه فَإِنَّ العَـذلَ يُـولِعُـــهُ ** قَد قَلتِ حَقـاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَـعُـهُ
جاوَزتِ فِي نصحه حَداً أَضَرَّبِه مِـن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ النصح يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلا مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ
يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ مِن النوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهـــهُ
إِذا الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنى وَلَو إِلى السَندّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ
تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه للــــرزق كداً وكم ممن يودعُهُ
وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ رزقَاً وَلا دَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ
قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ
لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ
وَالحِرصُ في الرِزقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ
وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ
اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
لا أَكُذبُ اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ
إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ بِالبينِ عِنهُ وَجُرمي لا يُوَسِّعُهُ
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ
اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ
كَم قائِلٍ لِي ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ
أَلا أَقمتَ فَكانَ الرُشدُ أَجمَعُهُ لَو أَنَّنِي يَومَ بانَ الرُشدُ اتبَعُهُ
إِنّي لَأَقطَعُ أيّامِي وَأنفقُها بِحَسرَةٍ مِنهُ فِي قَلبِي تُقَطِّعُهُ
بِمَن إِذا هَجَعَ النُوّامُ بِتُّ لَهُ بِلَوعَةٍ مِنهُ لَيلى لَستُ أَهجَعُهُ
لا يَطمِئنُّ لِجَنبي مَضجَعُ وَكَذا لا يَطمَئِنُّ لَهُ مُذ بِنتُ مَضجَعُهُ
ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ الدهرَ يَفجَعُنِي بِهِ وَلا أَنَّ بِي الأَيّامَ تَفجعُهُ
حَتّى جَرى البَينُ فِيما بَينَنا بِيَدٍ سراءَ تَمنَعُنِي حَظّي وَتَمنَعُهُ
قَد كُنتُ مِن رَيبِ دهرِي جازِعاً فَرِقاً فَلَم أَوقَّ الَّذي قَد كُنتُ أَجزَعُهُ
بِاللَهِ يا مَنزِلَ العَيشِ الَّذي دَرَست آثارُهُ وَعَفَت مُذ بِنتُ أَربُعُهُ
هَل الزَمانُ مَعِيدُ فِيكَ لَذَّتُنا أَم اللَيالِي الَّتي أَمضَتهُ تُرجِعُهُ
فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ
مَن عِندَهُ لِي عَهدُ لا يُضيّعُهُ كَما لَهُ عَهدُ صِدقٍ لا أُضَيِّعُهُ
وَمَن يُصَدِّعُ قَلبي ذِكرَهُ وَإِذا جَرى عَلى قَلبِهِ ذِكري يُصَدِّعُهُ
لَأَصبِرَنَّ على دهر لا يُمَتِّعُنِي بِهِ وَلا بِيَ فِي حالٍ يُمَتِّعُهُ
عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِبُ فَرَجاً فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ
عَسى اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ
وَإِن تُغِلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ