قامت وهي تتسلل علي اطراف اصابعها حتى لا تزعج نوم ابنائها الصغار ..دخلت إلي حجرة مكتب زوجها.. حملت كتاباً بين يديها وراحت تقرأ .. فجأة استرعى انتباهها " أجندة " صغيرة لزوجها كانت مختفية وراء أحد الكتب .. أخذتها لمحة فضول لمعرفته ما بداخلها .. مدت يدها وأمسكتها بين أصابعها وراحت تقلب أوراقها ثم توقفت علي عنوان غريب جذبها . وبدأت تقرأ " طقوس للموت " في طفولتي كان أبى يصحبي معه دائماً إلي تلك الليالي المفعمة بالحركة والصخب ، ولكنه كان صخباً عنيفاً مزعجاً, أخذ من طفولتي براءتها الأولى . كانت ليالي أبى كلها عزاء ,فهو كمتعهد لإجراءات الدفن – يعتبر صاحب باع طويل في نقل الموتى وتغسليهم_ كنت أذهب معه وفي قلبي فرح لا أعرف كنهه ..فأنا من كثرة ترددي علي الجنازات أصبحت أعشق رائحة الموت .. أعشق طقوس الموت الخاصة ، فعندما يبدأ النواح ولطم الخدود وشق الثياب كنت أزداد طرباً ، كان ما يجذبني أكثر هو شق النساء لثيابهن فتظهر صدورهن عارية أمامي وأنا اختلس النظر وأزيد التحديق حتي أظن أن عيني قد خرجتا من مقتليهما .. دائماً أقيم في حجرة العزاء المخصصة للسيدات تدخل النساء وهن يحملن صوان كبيرة محملة بالأرز واللحم كعادة الفلاحين الدائمة في الحزن والفرح . لم أتذوق أبداً لحم العزاء .. هناك هاجس بداخلى أنه لحم الميت نفسه .. طفلاً عابثاً كنت .. الكثير من النساء اللاتي حضرت جنازات أزواجهن تزوجن مرة ثانية وذهبت لأفراحهن لكن الأفراح لم تكن تجذبنى ولا يشغلني تذوق الشربات ولقد كان طعم القهوة السادة هو المفضل لى . أسمع عبارات الثناء والأمتنان وذكر محاسن الميت وأتلذذ بحديث النسوة حولي وضبطت نفسي أكثر من مرة متلبساً بمتابعة أسراراهن وأحاديثهن وخفايا حياتهن ، كلما زاد عدد الموتي زاد سروري ..فبذلك أحصل علي جلباب جديد, ومبلغ أشتري به حلوى, وأعد نفسي لكي أغوص في بحر من القهوة والصدور العارية .
جنازة " حسن الباشا " أروع حدث شهدته في حياتي ، يومها رأيت ابنته للمرة الأولي, كانت في مثل سنى أو تصغرني قليلاً .. تبكي بحرقة وتلطم خدّيها وتصرخ صرخاً يمزق نياط القلوب, وهى تعدّد وتنوح ومن حولها يرتفع النواح فيزدني فرحاً .
رحت أنتقل بين النساء محاولاً ان ألفت أنظارهن لي ، ولكن هذه المرة كنّ في حالة حزن حقيقية .. بعض الحزن الذى رأيته في حياتي مزيف .. فبعض النساء يشتد صراخهن لغرض المجاملة فقط أو لتذكرهن قريباً مات منذ زمن بعيد .. ولكن .. " حسن الباشا " شخصية مختلفة ، فهو رجل بر، معظم أهل القرية أستفادوا منه ومن عطاياه .. كان يعطي بدون حساب هو من أقام لنا ذلك المسجد المطل علي الترعة الغربية ، هو أيضاً أول من أنشأ مدرسة بالقرية .. رحمه الله .. خرجت وقتها من غرفة الحريم قاصداً أبي كي أساله عن ابنة " حسن الباشا " .. تأملني ساعتها كثيراً وقد لاحظ أنني أزددت طولاً وأخشوشن صوتي .. وقال لي : ما شاء الله .. بقيت راجل وبتفكر في البنات وأردف قائلاً : روح لأمك دلوقتي خليها تجهز كفن كويس .. هاته وتعال.. قصدت بيتنا مسرعاً .. وجدت أمي تجلس – كعادتها – بجوار الفرن تقذف بفتحته غصناً طرياً ليزداد اشتعالاً نظرت ناحيتى قائله : إيه اللي جابك ياواد .. أجبتها :أبويا .. ضحكت .. فأضفت قائلاً : أبو يا عاوز الكفن الحرير لـ " حسن الباشا ".. نظرت بإتجاهي وهي مستمرة في الضحك, وأنا أتحاشى نظراتها ولم أكن أعرف لماذا ..
ثم قالت : خشّ جوه تلاقيه علي السرير خذه وبطل تنطيط .. وروح لأبوك بسرعة ولاّ الراجل ح يفضل مستنيكو طول النهار عشان يندفن .. حملت الكفن باليد اليسرى وأنا أمسك باليمني رغيفاً ساخناً غافلت أمي وأخذته ,ورحت أمزقه بأسناني والتهمه في طريقي لبيت " حسن الباشا " .. أوقفني لعب الصبية قليلاً .. نظرت إليهم كأني أصبحت شخصاً آخر ، فمنذ دقائق قال لي أبي كبرت وأصبحت رجلاً ..
نظر لي أحدهم وأخذ يهتف : ابن الحانوتي أهو
ابتعدت عنهم وأنا أسبهم وألعنهم في سري .. دفن حسن الباشا وأقيم له سرادق ضخم .. بعدها تعودت التردد علي بيت " حسن الباشا " فعرفت " هـدي " ابنته ومع الوقت أدركت أني أحبها – بل أعشقها عشقي للهواء ذاته – ومن معرفتي السابقة بطباع النساء أصبحت كالسوس الذي ينخر فى عظامها وازداد تعلقها بي . جذبتنا حقول الذرة كي تشهد علي أول قبلة لنا وأستهوتنا تلك اللعبة الملعونة, فرحنا نلعبها في قسوة, وشهوة جامحة .. كنت كمن ينصب لها فخاً فوقعت فيه .. ولم أرحم طفولتها .. سرعان ما تبينت أنها حامل .. أبنه الأربعة عشر ربيعاً حامل .. !! يا لها من كارثة .. يا لله ..
أمتلأت رعباً ولم أجرؤ علي مصارحه أبي بالحقيقية .. وأخذت أتحاشي المرور بجوار بيتها ، وأتملص من لقائها .. ليتني ما كبرت .. رحت أضرب بعيني وأذني تجاه بيتها أحاول أن أتلصص أي حوار دائر وفشلت أي أحمق كنت ؟! عدت يومها لفراشي وغرقت في النوم الملئ بالكوابيس المزعجة .. وحين أستيقظت تحقق أفظع كابوس في حياتي .. ماتت هـدى .. أبتلعت سماً وماتت تحمل سري معها .. طبيب الوحدة عرف سرها ولكنه أخفاه إكراماً لوالدها الذي كان له الفضل في تعليمه وصرح بدفنها.. عرفت وقتها المعني الحقيقي للموت .. أبتعت لها الكفن بنفسي .. كنت أسمع صراخ النسوه كعواء ذئاب تنهش في لحمي .. واحسست بإقتراب الموت ورائحته .. فللموت رائحة خاصة أعرفها جيداً .. كتمت أنفاسي وأنا أبكي, وأخذتني غيبوبة طويلة تمتلئ برؤى وهلاوس متناثرة .. ظنت أمها أن ذلك من أثر تعلقي بإبنتها .. أصبحت من يومها شرنقة آدمية لم أستطع أبداً أن أتجاهل أنني السبب في موتها .. أى قاتل كنت .. فتاة وهبتني حياتها .. ووهبتها أنا الموت .. كرهت كل سرادقات العزاء .. وهرعت أتنفس هواء محملاً بطقوس الحياة
أغلقت " هـدي " الأجنـدة وهي تتـمم :
ياله من خيال جامح !!