الرسوم الكاريكاتورية في سياقها السياسي والاجتماعي والتاريخي
الدكتور سعادة خليل
أولا وقبل كل شيء، يجب أن نعترف بأن هذه الرسومات الساخرة من النبي كما تم نشرها في الصحيفة الدنماركية Jyllands-Posten وأعيد نشرها في صحف أخرى لم تكن بريئة وأنها عدوانية بكل المقاييس. وأكثر من ذلك، بنشر هذه الرسوم تم الاعتداء أخلاقيا وقانونيا على حرية الصحافة والتعبير. فكل إنسان إن كان مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا أو لا ديني له الحق الأساسي في احترام مشاعره ومبادئة ورموزه. ولكي نفهم لماذا أقدمت مثل هذه الصحيفة الصغيرة على هذا العمل غير البريء وقد لاقى استحسانا ودعما من عدد كبير من الصحف الأوروبية، فلنحاول الإجابة على جملة اسئلة منها:
هل تجاوز العالم الإسلامي الحد في ردود الأفعال؟ ماذا عن حرية التعبير والكلام في الغرب؟ هل الغرب هو علماني حقا ؟ أم علمانية الغرب انتقائية ومزاجية؟ هل معاداة المسلمين وتحقير الإسلام حتمية؟
هل تجاوز العالم الإسلامي الحد في ردود الأفعال؟
نحن الآن على وشك نهاية الشهر الخامس منذ نشر تلك الرسومات المستفزة لمشاعر ما يزيد عن مليار مسلم ولا نزال نشهد الاحتجاجات والمظاهرات التي يتخللها العنف أحيانا والنشاطات ما زالت تتواصل من أجل تنظيم حملات المقاطعة للمنتوجات الدنماركية وغيرها من الدول التي دعمت الدنمارك في موقفها.
وبلا شك أن مثل هذا العمل يستحق الشجب والرفض مهما كان التبرير الذي أتى تحت شعار حرية الصحافة والتعبير الذي لا يخلو من النفاق والمعايير المزدوجة كما سيأتي تفصيل ذلك لاحقا. فنحن- المسلمين – نكن الاحترام الكبير لجميع الأنبياء دون استثناء ونعتقد أنه يجب إبعادهم عن مثل هذه الطروحات المشوهة والمسيئة للمشاعر التي يقوم بها البعض من وقت لآخر. فالسخرية من النبي والأنبياء يعتبر خرقا لحرية الأديان وخرقا لميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على حرية الأديان والإيمان بها ومن المفارقات العجيبة أن أمريكا تنادي بحرية الأديان واحترام العبادات عبر قرارات تبنتها في الكونغرس الأمريكي.
يجب أن يعي الغرب ويفهم بأن النبي (صلعم) هو خط أحمر لأنه القدوة والأسوة الحسنة لجميع المسلمين في العالم ويحتل المكانة العظمي والحظوة الكبيرة في قلوب وعقول كل المسلمين الذين هم على استعداد للتضحية بحياتهم وأموالهم في سبيل دينهم وقضيتهم. فحب النبي يتجاوز حب أفراد العائلة نفسها. لقد أوضح القرآن الكريم هذا الأمر في العديد من الآيات.
يعتبر محمد (صلعم) عند جميع المسلمين قاطبة الوجه الإنساني لله. وبما أنه لا يوجد في الإسلام وسيط شخصي بين الإنسان والله مثل المسيح في الديانة المسيحية، ففي كل القرون التي خلت كان المسلمون يظهرون مشاعرهم الدينية وتمسكهم الطبيعي بالدين وعواطفهم بطريقة رئيسة في شخص الرسول. وعلى الرغم من أن العديد من الآيات في القرآن الكريم تؤكد على أن محمد هو " مجرد إنسان " يمكن أن يخطئ ويوجه له العتاب من قبل الله عند الضرورة، إلا أنه في نفس الوقت هو الرمز والقائد والمرشد لكل المؤمنين (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا: سورة الأحزاب) ونموذجا للحق على أساس أنه الشخص الكامل. ولذلك حتى يومنا هذا تشكل شخصيته وأسلوب حياته وسلوكه معينا لا ينضب للأخلاق والإلهام الروحي والإيمان.
وأكثر من ذلك، فإلى جانب أنه آخر الرسل كان أيضا القائد والمرشد لأول مجمتع إسلامي في المدينة بعد الهجرة من مكة. وبناء على ذلك يعتبر المؤسس للدولة الإسلامية التي رعى فيها الحياة الأخلاقية والاجتماعية ودولة المؤسسات. فما حصل إذن ،بالنسبة للمسلمين، ليس مجرد تصرف لا أخلاقي أو تهجم على شخص عادي يستفز مشاعر كل مؤمن ولكنه تحد جوهري وكما أنه ضد الحياة الإسلامية نفسها.
في القرآن (إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقَتَّلوا أو يصلَّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم* إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم: سورة المائدة) أي من يرتكب مثل هذا العمل عاقبته وخيمة وهي القتل أو النفي إلا إذا استتيب فتاب. في القانون الإسلامي يترجم هذا العمل بالفساد في الأرض. إنه اتهام يمكن أن ينسحب دون اختلاف على المسلمين وغير المسلمين بالمثل. يذكرنا هذا بالفتوى التي صدرت بحق سلمان رشدي قبل 25 سنة لإصداره رواية "آيات شيطانية".
ولكن يحق لنا في نفس الوقت أن نسأل لماذا تأخرت ردود الأفعال التي شهدناها ونشهدها حتى اليوم على هذه الرسومات. لقد تأخر ما أطلق عليه "فليمينغ روز ب"صدام الجضارات" مستخدما مصطلح صمويل هنتننقتون الشهير، أربعة أشهر منذ الثلاثين من أيلول أي منذ نشر الرسوم الكاريكاتورية لأول مرة. لقد كان بإمكان الحكومة الدنماركية تلافي الإشكالية حول الرسوم لو أنها قبلت الالتقاء بممثلي الجالية الإسلامية. لقد بادر المسلمون في الدنمارك بعد أسابيع من نشر تلك الرسومات وحاولوا بحث الأمر مع الحكومة الدنماركية دون طائل. ولكن تجاهل الحكومة الدنماركية للمسلمين وعدم بحث الأمر معهم اضطرهم إلى اللجوء إلى الحكومات العربية (مصر مثلا) التي تلقفت الأمر لاهداف سياسية ومصلحية بحتة. أليس غريبا أن نرى وزير الخارجية المصري محمود أبو الغيط في أوائل نوفمبر الماضي، يحتج على الرسوم ووصفها بأنها "مهينة". وقال "إن مصر ستتصدى لهذا العمل المخزي، وستواصل التصدي لمثل هذه الاهانات". وربما عكس هذا الموقف أسلوبا مريحا للحكومة المصرية تكتسب به مصداقية إسلامية في وقت لا تهاجم فيه أي دولة مهمة فعلا بالنسبة لمصر. وقد طرح وزير الخارجية المصري القضية في عدد من المحافل الدولية حيث أخذت القضية تتسلل ببطء إلى الشارع العربي والإسلامي.
لقد لاقت أنظمة الحكم، التي تواجه ضغوطات غربية وأمريكية بالذات من أجل إجراء "إصلاحات ديموقراطية"، فرصة في الاحتجاجات لتجعل دعوة الغرب في أعين الشعوب غير ذات صدقية. وإنما الحرية التي يدعو إليها الغرب لم تجلب سوى الكراهية والمعاداة للإسلام والمسلمين.
ولقد لاقت الجماهير المقهورة والمقموعة فرصتها للتعبير عن سخطها وغضبها على الأنظمة الحاكمة المتحالفة مع أمريكا وتقوم بتنفيذ ما يسمى بالحرب على الإرهاب وبيدها الدليل أن الحرب على الإرهاب ما هي إلا حرب على الإسلام والمسلمين ومعتقداتهم. فهم يحتجون ويتظاهرون وفي أذهانهم ما حصل ويحصل في أفغانستان وفي العراق وفي فلسطين من قتل وتدمير برعاية أمريكية مباشرة ومع تأييد ودعم الدول الأوروبية.
ماذا عن حرية التعبير والكلام في الغرب؟
ومن أجل أن نضع هذا العمل في سياقه الصحيج، نحتاج إلى أن نعتبر اولا الواقع السياسي والاجتماعي الدنماركي في هذه اللحظة من التاريخ والواقع السياسي والاجتماعي الأوروبي والغربي بصورة عامة.
إنه لمن المفارقات الغريبة والعجيبة أن الإسكندنافيين المعروفين بهدوئهم وعقلانيتهم وربما حيادهم فجأة أشعلوا المسألة. يبدو ان مشكلتهم في الغالب أن ليس لديهم أي تجربة في الثقافات المتعددة ولم يخوضوا تجربة الاستعمار في الفترة الاستعمارية كسائر الدول الأوروبية الأخرى (بريطانيا وفرنسا مثلا) ولكنهم يبقون كمجموعات إنسانية عقلاء وفي النهاية نأمل أن تشكل هذه التجربة درسا لهم في تحسين علاقاتهم مع البلاد الإسلامية والعكس بالعكس.
يقود الدنمارك الآن حكومة يشكلها الحزب الليبرالي الجناح اليميني الذي أتى إلى السلطة على أساس الخوف من الهجرة والمهاجرين وعلى أساس أن هذه الحكومة ضد برنامج الهجرة. ولهذا السبب أيده حزب يميني متطرف آخر وهو (حزب الشعب) الذي استفاد سياسيا من هذا الأمر. لقد ارتفعت شعبيته في الاستطلاعات من 13% إلى 18%.
لقد اكتسبت سياسات الحكومة التأييد من أحزاب عنصرية أخرى في أوروبا أيضا، مثل حزب فليميش الذي قام برحلة "تعليمية" استفزازية إلى الدنمارك حيث أراد أن يحول نشر الرسومات إلى حركة تأييد ودعم لحكومة الدنمارك والدنمارك. وعلى كل حال، إن نشر الرسومات في الصحيفة اليمينية تقرر في ظل هذا المناخ في الدنمارك المعادي للهحرة والمهاجرين.
إن نشرها تم تقديمه من قبل رئيس التحرير على أنه وسيلة لتأكيد وتقوية مفهوم حرية الصحافة في الغرب على انه القيمة الأهم والأعلى. وفي الواقع يجب انتقادها على أنها خالية من التفكير وعديمة الإحساس أشبه بعمل صبياني وعمل سياسي استفزازي واضح. الاستفزاز ليس بعيدا تماما على أنه الدافع الرئيس. وكما تم كشف ذلك في الإنترنيت وتم التأكيد عليها في الصحافة الأمريكية بأن المحرر الثقافي فلمينغ روز كان على اتصال وثيق بالصهيوني دانيال بايبس- المعروف بعدائه للإسلام والمسلمين وهو أحد المحافظين الجدد والمعروف بتأييده للكيان الصهيوني والذي أقام ما أطلق عليه Campus Watch للتجسس على أساتذة الجامعات وكان من أهم أهدافه تصفية الأساتذة الذين يتعاطفون مع القضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية- وأنه زاره وعمل معه مقابلة صحفية في فلادلفيا في أكتوبر 2004.
أما الواقع الأوروبي فهو ليس مختلفا كثيرا عن الواقع الدنماركي. فهو على العكس أكثر نفاقا حيث أصدرت معظم الدول الأوروبية قوانين تجرم ممارسات سياسية معينة سنأتي على ذكرها لاحقا. العديد من وسائل الإعلام الأوروبية والسياسيين والمثقفين يشهرون الآن شعار "حرية الصحافة" وكأنها تهددت من الإسلام و\أو المسلمين وأنه يجب الإصرار عليها عن طريق إعادة نشر الرسومات في وسائل الإعلام في كل أنحاء أوروبا.
فهل هناك حدود أو ليس هناك حدود لمثل هذه "الحرية"؟ فيمكن أن يشير أحد ما، مثلا، إلى المعاهدة الأوروبية لحماية حقوق الإنسان مادة 8 إلى 10، تعترف بالمعوقات القانونية. وأكثر وضوحا، في حكم صدر حديثا في محكمة أوروبية لحقوق الإنسان ( سبتمبر 13، 2005) متعلقة بحكم صادر في محكمة تركية لكاتب أهان نبي الإسلام، استنتجت المحكمة بالإجماع أن الاعتداء أو اهانة مشاعر الشعوب الدينية يجب أن يعتبر، من وجهة نظر اجتماعية، اعتداء على حرية التعبير غير مقبول. ومن ناحية أخرى، أن حرية الرأي في جميع البلدان الأوروبية مقيدة قانونيا إن كانت تحقيرا للديانة المسيحية (وخاصة في انجلترا وهولندا) أو إن كانت تشجيعا على الكراهية والتمييز والعنصرية أو إنكارا للمحرقة النازية أو معاداة السامية بصورة عامة كما في بلجيكا.
ولكن هناك بعدا أوروبيا هاما على المستوى السياسي-الاستراتيجي مع أمريكا. إن الاتحاد الأوروبي مؤيد تماما للإمبريالية الإمريكية. وداخليا مع موقف المجتمع المسلم المتأزم (المهاجر يوما ما) في الدول الأوروبية. إن مشاعر الفرد يتم تحديدها بحياة الفرد المادية وليس العكس. هناك اليوم قبول عام في الاتحاد الأوروبي أن الحالة المادية والاقتصادية والاجتماعية لمعظم المسلمين الأوروبيين قد ساءت أكثر فأكثر خلال العشر سنوات الأخيرة. لقد ازدادى مشاعر المعاداة والعنصرية والخوف المسلمين في معظم البلدان الأوروبية على ضوء نجاج الحركات السياسية اليمينة المتطرفة والأحزاب ذات السياسات المتطرفة ضد الهجرة- حتى خطابهم تم تبنيه من قبل الأحزاب الديموقراطية وما تسمي نفسها الأجزاب الليبرالية.
إذن القضية ليست قضية حرية تعبير أو علمانية. فكما وصف الصحفي الشهير (روبرت فيسك) المسألة على أن العالم في مخاض عسير ومؤلم. فهو يتوجه إلى عملية تاريخية واسعة والظاهر أن الأزمات هي وسيلة التغيير سريعة الانتشار. إن الشعوب الغربية تدخل في عملية إخضاع حيث يتم تحجيمها لتأخذ مكانها مع شعوب العالم على قدم المساواة. وكذلك المسلمون ماضون في عملية أخذ زمام المبادرة لتولي المستقبل بأيديهم أي السيطرة على ثقافتهم ومصيرهم. ولكن في خلال العملية تتشكل أشياء وتتغير أشياء أيضا. إن القضية ليست قضية علمانية ضد الإسلام. بالنسبة للمسلمين النبي محمد (صلعم) هو الرجل الذي تلقى التعاليم الإلهية مباشرة من الله. أما في الغرب فهم يرون الأنبياء خيالات تاريخية باهتة. إن المسلمين يعيشون ديانتهم والغرب لا يعيش ديانته. لقد حافظ المسلمون على عقيدتهم وإيمانهم من خلال تحديات وتغيرات تاريخية لا تحصى. ولكنهم في الغرب فقدوا إيمانهم منذ مدة طويلة. ولذا نتحدث عن "الغرب ضد الإسلام" أكثر من حديثناعن "المسيحيين ضد الإسلام"- لأنه لم يعد هناك الكثير من المسيحيين في أوروبا.
ومع ذلك يستطيع الغرب أن يمارس نفاقه على المشاعر الدينية. فمثلا، قبل عشر سنوات تم عرض فيلم يسمى : الإغراء الأخير للمسيح" The Last Temptation of Christ. لقد أظهر الفيلم المسيح يمارس الجنس مع إمرأة. ففي باريس قام أحدهم بإشعال النار في دار السينما التي عرضت الفيلم وقتل على إثر ذلك شاب في مقتبل العمر.
يعني ذلك أن للغرب حساسيته الدينية أيضا. وبمعنى آخر، بينما تطالب الدول الغربية أنه يجب على المسلمين أن يكونوا علمانيين عندما تأتي قضية مثل القضية التي نحن بصددها الآن ، يبادرون بالحديث عن حرية التعبير لرسومات رخيصة وفي نفس الوقت هم يتمسكون بديانتهم العظيمة. لقد تقدم أحدهم برسوم كاريكاتورية عن المسيح والمسيحية شبيهة بالتي نشرت عن النبي محمد إلى نفس الصحيفة ورفضت نشرها بحجة أنها استفزازية. يا سبحان الله! عندما يخصهم الأمر لا مكان لحرية الصحافة أو التعبير. ومن المضحك المبكي أيضا على حد قول (روبرت فيسك) أنه عندما نسمع رجالات الدولة في أوروبا يصرحون بأنهم لا يستطيعون منع حرية التعبير أو السيطرة على الصحف والمطبوعات. وهذا محض هراء. فلو كان مكان النبي محمد كبير حاخامات اليهود على رأسه قبعة على شكل قنبلة لقامت الدنيا ولم تقعد باسم المعاداة للسامية ولطالما سمعنا الاحتجاجات والشكاوى الإسرائيلية ضد الرسومات الكاريكاتورية التي تظهر في الصحف العربية عامة والمصرية خاصة. وأكثر من ذلك في بعض البلدان الأوروبية – منها فرنسا وألمانيا والنمسا – يحظر بقوة القانون إنكار حدوت المذابح الإنسانية. ففي فرنسا مثلا، التصريح أو القول بإنكار حدوث المحرقة النازية مخالف للقانون وتتم محاكمة صاحب التصريح وهناك عبارات وأقوال وتصريحات محظورة في الدول الأوروبية. فليس من المنطقي أن تمارس الدول الأوروبية ممنوعاتها السياسية مثل منع إنكار حصول الهولوكوست ومن ثم يبدأ الصراخ والعويل على العلمانية وحرية التعبير والصحافة عندما يعترض المسلمون على الاستفزازات الوقحة وتشوية صورة النبي محمد.
فهذه الرسومات هدفت إلى الاستفزار فقط ليس إلا وليس كما يدعي البعض أنها كانت تهدف إلى الدعوة إلى الإصلاح الديني. وكان ذلك مفزعا حقا إلى حد حدوث مثل هذه ردود الأفعال التي شهدها العالم الإسلامي, وكان توقيت هذه الرسومات خاليا من العقل والحكمة إن لم يكن مقصودا به إحياء هراء صموئيل هنتينقتنSamuel Huntington حول صدام الحضاراتThe Clash of Civilizations.
إن مفهوم هنتينقتون الشهير "صدام الحضارات" قد تم اعتماده من قبل الغرب وخاصة "المحافظون الجدد" كبرنامج سياسي- عسكري لاستباق أي محاولة محتملة من العالم العربي الإسلامي لزعزعة السيطرة الغربية. ويبدو الآن الهدف التالي لسياسة العدوان هو إيران.
وفي هذا الإطار العام كانت الرسومات الكاريكاتورية الدنماركية ونشرها وإعادة نشرها وكذلك ردود الأفعال الشعوب الإسلامية وحكوماتها العاطفية التي تحولت إلى عنف ضد هذه الرسومات.
هل معاداة المسلمين وتحقير الإسلام حتمية؟
لقد صدر قرار منذ فترة قريبة من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 12سبتمبر 2005 ينص على أن الممارسات القضائية الأوروبية أمام شكاوى قضايا السخرية والتشويه والتحقير تميل بقوة لصالح المسيحية (على اختلاف كنائسها ما عدا معظم الروم الكاثوليك) واليهودية. فالأحكام التي سمحت بمنع الحجاب الإسلامي في فرنسا مثلا بإمكانها أن تكون تفسيرا وتوضيحا لذلك. فهناك سياسة واضحة تستهدف المسلمين أي سياسة "ازدواج المعايير" التي تلقى الصدى الواسع هذه الأيام في عقول وقلوب المسلمين عندما يحتجون ضد الرسومات الدنماركية.
إن حالات التعدي أو السخرية النادرة المموجهة ضد قطاع ما تشكل عمودا قويا من أعمدة المؤسسة الغربية "العلمانية". ومن المفارقات العجيبة أن الشبه كبير بين البناء الايدولوجي ضد المسلمين اليوم وذلك البناء ضد السامية في معظم البلدان الأوروبية في الثلاثينات من القرن العشرين. التسفيه الأيدولوجي في تلك الفترة لرموز المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية بوسيلة الكاريكارتير والرسومات الكارتونية مثل الاستهزاء من طريقة الذبح مثلا التي لم تشرع التمييز ضد اليهود فقط وإنما مهدت الطريق وجعلت ذبح اليهود أخيرا ممكنا على المستوي الفكري والعملي.
بالمقارنة مع اليهود الذين عاشوا التمييز وبقوا على قيد الحياة رغم ما لاقوه من عنت في الغرب، إن وضع المسلمين في العالم الحالي يجعل من رموزهم وكذلك ثقافتهم الدينية وقيمهم تعزز الأيدولوجية أكثر من ذي قبل وربما تصبح بعدا روجيا تساعدهم على البقاء والاستمرار في الغرب. فلنأخذ غزة مثالا، الحياة الاجتماعية المدمرة لسينين عديدة ولا تزال مستمرة. فالحياة هناك اضحت جهنم للفلسطينيين عبر استمرار العدو الصهيوني في القتل والترويع والتجريف دون تمييز بين طفل أو شيخ أو أمرأة. يقتلون بدم بارد جهارا نهارا دون رادع أو تحريك ساكن في العالم. تدمر البيوت على رؤوس أصحابها ناهيك عن البطالة التي طالت أكثر من 80% من الأيدي العاملة. وهنا تأتي حماس لترعى بقدرتها الذاتية الرعاية الأولية من خدمات اجتماعية وتعليمية لتكون مفاجأة لقوى العدوان والبغي ويستمر الشعب الفلسطيني في الحياة.
وكل ذلك بسبب التعامل الغربي الظالم للمسلمين وللعالم الإسلامي إن على المستوى الرسمي أو على مستوى الكراهية والعنصرية، تصر االنخب السياسية والثقافية الغربية باستمرار على الوصول للمسلمين بطريقة الإجبار والعدوان ظنا منهم أن لا سبيل للإصلاح والتغيير ولإحلال "الديموقرطية والتسامح والانفتاح والقيم الغربية"..
إن الإجبار أو العنف بما فيه عنف وسائل الإعلام لا يساعد الشعوب على فهم أفضل ولكن على العكس تولد الغضب والتشدد والتعصب أكثر فأكثر. فالممارسة على الأرض دليل كاف على ذلك. فما يحصل في العراق كنتيجة للسياسة الرعناء غير المسؤولة للأمريكين والبريطانيين على افتراض أنهم يقدمون الديموقراطية بوسائل الحرب والعدوان العسكري.
وفي هذا المجال يمكن اقتراح قانون يكون أكثر توازنا بحيث ينص على حرية التعبير على الإطلاق بكل ما تعنيه الكلمة – اي حرية التحقير والسخرية والتسخيف لمعتقدات الشعوب الدينية كلها- أي تطبق على كل الأديان والحركات الفلسفية والمعاهد الفكرية بما فيها الكاثوليكية والبروستانتية والإنجلنيكية واليهودية وإما ينص على احترام المشاعر الدينية لجميع الشعوب كافة بما فيها المسلمون أيضا. ولكن في رأيي أن هذا لن يتم إذا أخذنا في الاعتبار ميزان القوى بين الغرب والعالم الإسلامي وبين المجتمع المسيطر في دول الغرب والأقليات المسلمة بينها. وبالتأكيد في ظل اختلال ميزان القوى وبالنظر إلى ماضي الغرب السياسي والاقتصادي والعسكري والاستعماري في العالم عامة وفي العالم الإسلامي خاصة، أنه ليس من حرية التعبير أن يعتدي على المشاعر المسيحية أو اليهودية بشكل او بآخر ثقافيا أو فنيا أو تعبيرا في وسائل الإعلام وأنها كل الحرية عندما يعتدى على مشاعر الشعوب الأخرى وخاصة المسلمين. ولا ننسى مثلا كبير حاخامات الكيان الصهيوني (عوفوديا يوسف) عندما وصف الفلسطينيين بالحشرات تارة والأفاعي تارة أخرى ولم يحرك أحد في العالم ساكنا.
وإزاء كل ذلك، الحل الوحيد للوصول إلى التعايش السلمي بين الغرب والإسلام هو أن يتم البت في سياسة المعاداة للمسلمين والإسلام والخوف من الإسلام في القوانين المرعية في كل بلد بالطريقة التي تتعامل بها مع المعاداة للسامية. وإلى حين أن تصدر مثل هذه القوانين أو تعديل بعضها يظل الخوف من الإسلام في ظل الجنوج إلى اليمين العنصري المتطرف في أوروبا هو المهيمن على القرار ويظل إنصاف المسلمين ضرب من الخيال من خلال حالة الخلل الاستراتيجي للقوى السياسية والاقتصادية في العالم ولا ننسى اللاعب الأساسي صاحب المصلحة في بقاء هذا الرهاب ألا وهو "الكيان الصهيوني" بما يمثله سياسات عدوانية وعنصرية.