نطاقات الأسطورة ، فضاءات السرد في رواية ( أنت وحدك السماء )
بقلم : سمير الفيل
الجزء الأول
انتهيت من قراءة رواية ( أنت وحدك السماء ) للأديبة الشابة هيام عبد الهادي صالح وقد تنازعتني بعض الخواطر المتباينة بين فرح وقلق ، ودهشة وتأنيب ضمير ، فالعمل يكشف كثير من الممارسات المسكوت عنها في صعيد مصر ، يتم بسطها هنا عبر أصوات متداخلة ، متعارضة ، لكنك بعد أن تطوي الكتاب ستشغلك على الفور تلك القضايا التي تناولتها الكاتبة بنوع من الإبانة الذكية أحيانا ، والغموض الفني الشفيف أحيانا أخرى .
يكاد الجبل أن يكون هو البطل في الرواية ، فهو يطل على المشهد الإنساني طول الوقت ، ويضفي على المكان كله سحرا ومهابة ، خاصة والقرية التي تجري فيها الأحداث مسكونة بالخرافة ، وأناسها يرضخون لتيار سري تحتي يؤمن بالجنيات والعفاريت والأرواح في العالم السفلي , وقد فطنت الكاتبة لأهمية أن تنسج من هذا المستوى الشفاهي من الحكي نصها الروائي .
* اللاتواصل وفقدان المعنى:
تطوع الكاتبة لغتها لتعبر عن أحوال الفقد الإنساني واللاتواصل ، وحين تخرج من التعميم إلى التخصيص تكتسب تجربتها بعدا إيجابيا ، فكل العلاقات التي تستعرضها عبر ( 49) مقطعا سرديا تمثل أصواتا متنوعة تفضي إلى هذا الخطاب الذي تؤسس له من خلال بنية السرد ، ولن يكون مستغربا أن نتلمس هذا القدر من العنف الذي تتسم به العلاقات الإنسانية مهما تزيت برهافة وشفافية ورومانسية محلقة ؛ فأبطال هذه الرواية يرسفون في قيود مجتمعية قاسية ، يودون أن يتحرروا من ثقلها دون أن يتمكنوا من ذلك . وهناك هذا الإحساس المتزايد بالرغبات المكبوتة والمصائر المتشابكة ، وعدم الفهم ، فالكل في محنة ، ولا يجرؤ أحد على أن يتمرد أو ينفلت من تلك الممارسات السقيمة فالتمرد معناه بكل بساطة النفي خارج الجماعة أو القتل ، لذا سنعثر دائما على ترديدات لهذا الفزع العام والشعور بالوحدة رغم أن مجتمع القرية يبدو متماسكا في الظاهر ، لكن النفوس الأبية لا يمكنها أن تقبل هذا النوع من التنميط المؤكد .
فشخصية مثل صفاء والتي تتورط في علاقة حب من خلال التليفون تمضي بها الأمور إلى فضيحة بكل معنى الكلمة حين توافق أخيرا على مقابلة حبيبها خالد ، وفي حرم الآثار تكتشف أن هناك أربعة أفراد من قرية يسكنها أقاربها يرصدون تلك المقابلة . مثل هذا المشهد الذي بدا كأنه صدمة هو امتداد للخط الذي رسمته الفتاة لكي تخرج من الدائرة فإذا الخط الكروكي المرسوم بالقلم الرصاص يتحول إلى مشنقة لها . ويتحول " نشيد الإنشاد " الذي ظلل مساحات واسعة من النص إلى خواء مبين .
وشخصية أخرى هي الطاهرة التي سافر زوجها للعمل في الخارج يبصرها شقيقها مع شخص غريب يتحضنان ، فيهبط من مكمنه في الأعلى ويتجه لغرفتها كي يخنقها فتصر على أنه مخطيء ، وأن الأمر قد اختلط عليه ، وحين يبصر جمرة نار تخبره أن حماتها هي التي تدخن الشيشة لكنها تخفي السر عن أقرب الناس إليها . مثل هذا التربص المستمر، واختراق المحرمات ، وتماهي التخييلي في الواقعي نبصره على امتداد الوحدات السردية الخمسين بإضافة الخاتمة التي تصنع قوسا نهائيا على مجمل الأحداث . أحداث ومواقف ومسارات حكائية تصنع شبكة من العلاقات المتراكبة والمقاطعة في دوائر سرد تخفي أكثر مما تعلن ، وتوميء أكثر مما تصرح ، وفيما يبدو فإن أحداث الحياة اليومية كانت هي مادة الحكي بعد أن يتم تحريرها من حيادها البارد فتدخل في أنساق شديدة الحميمية خاصة والكاتبة لجأت إلى نوع من المونولوجات شديدة الخصوصية تكشف عن دواخل الشخصيات ، أحلامها ، مخاوفها ، هواجسها . في دقة وأمانة يتم رصد الأحداث غير أن الكاتبة كانت تبسط كل حدث مبتوت الصلة بما قبله وغير متصل بما بعده . هي إذن تسقط عدسة الرؤية على كل مشهد على حدة لكي نعيد نحن ترتيب المشاهد ، بكل تشويشها ، ونتوء الحكي فيها ، بكل ما لا يصدق وما يمكن تصديقه بدون أدلة أو حجج أو براهين . مرئيات تنتقل من نطاق التسجيل إلى مناخات التوقع والتكهن . مهمة المتلقي في مثل هذه الحالة أن يقارن ويفحص ويحلل ، ويوازن بين الروايات المختلفة للحدث الواحد .
هناك نوازع جنسية ، وثمة مخاطر ترتبت على جشع الأهالي في الوصول إلى مرتبة الثراء نتيجة الحفر في باطن الأرض بحثا عن " المساخيط " ، ولكن الشيء الأكيد أن الكاتبة كانت تقوم بلعب فني بالأساس ينهض على حفر طبقات تلو طبقات في المادة السردية لجيولوجيا النفس البشرية كي تصل إلى أبعاد غير مسبوقة في الكشف عن حقيقة الأشياء ، وعن طبيعة المشاعر ، وسيتحمل القاريء عبء اكتشاف ما وراء المشهد ، فكل شيء هنا ، حتى لو كان الحب له جانب واقعي يمكن القبض عليه وتحديده إضافة إلى جانب سحري غائم مستتر غير مؤكد .
* صراع المتن والهامش :
المتن الذي نقصده هو الأحداث التي تجري في الواقع والتي تأخذ مساحة أكبر في الحكي ، ويقترن بها الهامش الذي يغادر مكانه التذييلي ليكون بين الأقواس ، وهو نظام قائم على التداعي الحر بين السرد العادي من جهة وبين الاستدعاءات التراثية والشعرية التي رصفت على مدار النص من جهة أخرى بحيث تقوم بدور تعضيدي مرة ، أو معارض مرة ، وفي بعض الأحيان يكون للهامش دوره في تبيان وجهة نظر الكاتب نفسه ، وربما في مرات أخرى يقوم بنفس وظيفة (الكورس ) في المسرح اليوناني القديم .
يبدأ التوظيف الحي للهوامش من قصائد نقرأها للمرة الأولى من الأدب المصري القديم ، مرورا بتراث فحول شعراء العرب كبشار بن برد ومأثورات لعمر بن الخطاب انتهاءا بشعر المعاصرين كالروائي الليبي ابراهيم الكوني والشعراء محمد عفيفي مطر وحسن طلب وأمل دنقل وصلاح والي وأحمد الشهاوي ونزار قباني وغيرهم . وهي عملية تثبيت ومحو دائمة نراها في المقاطع السردية خاصة في تلك التي يتحول فيها الخطاب الفني إلى رسائل حب مرسلة قد تكون محملة بشفافية البوح ومكابدات العشق رغم أن الكاتبة تلح في تذكيرنا كلما أوغلنا في تتبع الأحداث بعبارات تدحض فكرة أن الشعر له نفس الدور القديم ، وهي عبارة يتم بسطها من خلال الراوي الذي يبحث عن زوج العمة صادق بين المحتجزين ، وقد كانت تهمته انه أخفى العرائس الذهب ، وربما باعها لآخرين وتحصل بمفرده على الثروة . لم يسعفه المال في النجاة بحياته من أيدي المحققين الذين ضيقوا الخناق عليه حتى سقط بين إيديهم . يقول منصور في أسى : ( لم أعد أكتب الشعر ياصاحبي .. الزمن ليس زمن الشعراء . حين يتكلم المال ينصت الشعر . )"ص 15" .
وعلى الفور تستدعي الكاتبة نصا شهيرا لأمل دنقل كنا قرأناه في بداية السبعينات مع تفجر مظاهرات الطلبة في " أغنية الكعكة الحجرية : (( كان مثلي تماما ( وخزته عيون المحقق / حتى تفجر من جلده الدم والأجوبة ) )) " ص 15" . حين يقتل صادق في غرفة التحقيق أو زنازين التعذيب يرفض شقيقه أن يتقبل العزاء ، وهذا معناه أنه يستعد للأخذ بالثأر حتى لو كانت الحكومة هي قاتلته ؛ فالدم لا يذهب هدرا ، وهو المعنى الذي نسمع ترديدات قوية له على امتداد صفحات الرواية ، ونشهده في الصمت الذي تقابل به أخت القتيل خبر موت شقيقها ، وكذا العمة الملتفة في السواد ، وتمزج الكاتبة بين الحدث الواقعي الممعن في واقعيته وبين الهامش المأخوذ من الأدب الفرعوني بكل عناصره ورموزه حتى لتظن أن الهامش قد جاء ليكمل ما بدأه السرد الحقيقي بدون أي افتعال أو تزيين :
(( أتظنين أنه يمكنه أن ( يقاضي قاتله " ست " أمام محكمة " رع" ويدينه وتعودين به منتصرا وسط مريديه إلى معبد أبيدوس؟ )) ص " 33" .
في استدعاء هذه الرموز يتم الدفع بنطاقات أسطورية تنهض بعملية ربط الأحداث اليومية بعناصر تاريخية ، وهي لعبة فنية تمزج حيوية الشفاهي وخبرة التاريخي مع وجود فضاءات للمساءلة ، والكشف المستمر دون التورط الكامل في مسألة الحكي النهائي الناجز بصورة مغلقة .
ومثل هذا الاستدعاء يولد نوعا من الاكتمال السردي خاصة مع الفضاءات الواقعية التي يمكنها أن توميء أو تشير دون الرضوخ لقيد الإمكانية فثمة دوران دائم للحدث وهو يستعيد ملامحه وأنساقه حتى أن اسطورة شهيرة هي :" إيزيس وأوزوريس " يتم توظيفها ببراعة ، فتهبط من السماوي المقدس ـ حتى لو كان في أزمنة غابرة ـ إلى واقع النثار اليومي والمكرور ، فتنشأ من كليهما مادة للسرد يمكنك كمتلق أن تقلبها على أوجهها المحتملة :
(( ما تزال " إيزيس " تقف بجسدها النحيل ، وشعرها الذي يبدو ناعما تحت الطرحة الشفافة التي تحيط بوجهها المرتسم بحزن تتلقى العزاء في زوجها وابن عمها وحبيبها "اوزيريس " . تتأمل ست في خيلائه واقفا وسط أتباعه يبادلها كلمات العزاء . آه يا عمتي . أتنتظري انتهاء مراسم العزاء ( لتدوري تلملمين أشلاءه من النهر لتعيدي إليه أنفاسه بمساعدة " نفتيس " و" تحوت " فيسترد الحياة ، ويعيد النماء للأرض التي أجدبت ).. )) " ص 33" .
توق عارم للبحث عن الأشلاء وبعث المحب من سبات الموت ، وقد نصاب بالدهشة أن يكون منصور الذي عاش قصة حب عميقة لعدد من النسوة يحمل نفس الأفق الضيق الذي عادة ما يحمله المنخرطين في القطيع والملتحفين بملاءة القبيلة ؛ فهو يضيق على أخته الخناق متهما إياها بالسقوط ، وهو الذي يعرف أكثر من غيره أن الجسد يضج من شدة الحرمان ، وان الروح تتوق إلى التوحد بالحبيب .
تفصيلات عن ندوب القلب ، وخفقان النبض تمتح من ذاكرة تستدعي التراث الفرعوني بكل جلاله ، وعادة ما يكون الراوي هو منصور الذي يعتبر عصب العملية السردية فعنده تتقاطع الخيوط ، وتتشابك ثم تأخذ في التفكك والاتجاه لأمكنة متعددة ، والجميل أن تلك الوحدات السردية تبدو منفصلة عن الهيكل الرئيسي لكن النظر بإمعان للنص يحيلك إلى أن ثمة تماسك حي، و أصيل خاصة في تلك المناطق التي تجتزأ من النصوص الأدبية الفرعونية ثم ترصع بها الوحدات السردية الأصغر ، والتي أحصيناها فكانت 49 وحدة ، مع ما يعنيه الرقم الفردي من قبول وبركة ، ومدخل للتفاؤل حتى لو أن اليوم هو يوم حساب :
(( يا قلبي لا تشهد ضدي . لا تعارضني أمام عمتي . لا يعلو وزنك سوى لصالحي أمام سيد الميزان أوزيريس . لاتسمح أن تفوح من أسمي رائحة كريهة ، وأنت أيها العادل اوزيريس . لاتنطق بالحكم قبل أن تتأكد من سلامة الميزان )) " ص 53" .
ويظل النص قادرا على توليد حالات صراع مستمرة بين الواقعي من جهة عبر الأحداث الفرعية ، وبين الأسطوري محملا بالنسغ الحي للرمز من جهة أخرى .
* رواية أصوات :
من المؤكد أن التكنيك الفني في الرواية يتوزع بين عدة أصوات ، يقوم كل منها برواية الأحداث من وجهة نظرها ، ولهذا فسيكون من المقبول أن تتعرف على المشهد من عدة زوايا ، كما أن الكاتبة لجأت إلى فكرة الكولاج الفني ، ونعني بها أنها تقوم بعملية قص ولزق محكم لعدة وحدات سردية بناء على استبطان ما وراء الأحداث إضافة إلى البحث الدائم عن محمولات ترميزية لعدد من الحكايات الملتوية والمتعرجة التي لا يوجد لها سند مؤكد كواقعة ضبط صفاء في المعبد مع حبيبها التي تراه لأول مرة بعد أشهر قضتها معه على الهاتف ، ومثل شائعة أن منصور هو الذي قتل الحاج من أجل العرائس الذهبية ، ومنها مخايلة أم نهى الطاهرة وهي في أحضان رجل غريب ، وهي كما نرى أحداث جسيمة لا يمكن أن تمر مرور عابر لكن الغرابة تكمن في أن تلك الأحداث كلها غير مؤكدة ، فهي تتأرجح بين الواقع العياني الفعلي ، وبين التأويل المجازي المخاتل ، ولعل مسألة الأصوات التي جعلتها الكاتبة إحدى أهم خصائص روايتها قد أفضت إلى نوع من الإرتباك في التلقي إذ أن تلك الأصوات لم تكن ذات عناوين فرعية تشير إلى أصحابها وهو ما تطلب يقظة مستمرة من المتلقي خاصة وأن المسألة كلها خضعت لضمائر متشابهة ، وقد أنبنت الاسترتيجية السردية على هذا التماهي بين الأصوات ، وكانت كل حكاية يتم نسجها على مهل تختبر عبر الحوار أو الإشارة لإسم ما أو واقعة محددة لكشف قائلها ، أو راويها . وفي أحيان كثيرة كانت اللغة تصدح بموسيقى الشعر وتخالك في أفق رومانسي فياض بالعذوبة ثم ما تلبث أن تتعثر في وحدات سردية بحتة تعتمد على الوصف أو التقرير الذي قد يلخص فيعمي أو يستطرد فيفتت الوحدات إلى بنى أصغر فأصغر . وقد لاحظنا أن السرد كان يتم أحيانا بضمير المتكلم ، ثم يتجه إلى ضمير الغائب في وحدات مغايرة . لهذا لم تتناغم الوحدات تناغما كاملا ، غير أن الكاتبة اعتمدت على حيلة فنية أخرى ، وهي أنها تعاملت مع كل صوت كأنه الصوت الوحيد الذي يمتلك الحقيقة ، وأخفت انحيازها حتى وإن تحولت البوصلة في القسم الأخير لصالح النسوة المتعبات بحبهن الخائب : أمل ، شمس ، الطاهرة ، صفاء . وقد أفضى هذا التعدد في الأصوات إلى أننا بتنا لا ندرك البريء من المذنب ، فالكل يعترف بجزء من الخطأ القدري أما الخطيئة كاملة فدمها قد تفرق في الرواية ومع تعدد الأصوات .
اعتمدت الكاتبة كذلك على تبني فكرة البوح وأكدتها خاصة في تلك المناطق التي حاولت الوصول فيها إلى الأعماق الداخلية للشخصيات التي بدت حزينة ، قلقة ، ممرورة ، وظل الأفق محدودا وضيقا والشخصيات الفاعلة تتحرك حركة جزئية محدودة .
فهذا منصور يخاطب عمته التي تبدو في صمتها أقرب لتصديق إشاعة قتل زوجها بعد أن اختلفوا في عملية تقسيم الآثار " العرائس الدهب " ، ويبدو من خلال بوحه أقرب إلى إبراء الذمة من دم القتيل : (( يا عمة العالم ينضج أكاذيب . إفتحي التلفاز أو أقرأي جريدة . أنظري من نافذتك أو أخرجي خارج دارك . الناس أكاذيب بشفاه مبتسمة . الواقع ليس له طعم أو بطعم العلقم في حنكنا . نرش عليه بعض السكر ياعمة . الناس كذبة تسير على قدمين )) " ص 149" .
مادة السرد تستوجب الاهتمام بالحقيقة الداخلية للشخصية ، بل أن تلك الحقيقة التي نعتبرها نسبية تكون لدى الشخصية هي الحقيقة الوحيدة التي يعول عليها ودون ذلك هو الكذب والاختلاق .
هناك صوت أمل الذي يحتل مساحات واسعة من النجوى ، وهو حب يشتعل في الداخل وكل ما تستطيعه صاحبته أن تدونه في مفكرة صغيرة تخفيها عن العيون في مكان آمن :
(( يكفيني دفء يديك . لمس يديك . أتعمد أحيانا مصافحتك دون مناسبة . أشتاق لاسمي تردده هكذا دون وساطة " أمل " . دون أبلة " تسبقه . أقول في كل مرة سأدعه يقول " أحبك " لم أسمعها منك رغم كتابتها مرارا في أوراق تخبئها خلسة عن العيون . كل الوجوه تحمل ملامحك . كل الشوارع تحمل خطواتك . وجهك ينتظرني خلف كل النوافذ)) " ص 35" .
سنلاحظ أن صوت أمل يأتي على هيئة مونولوجات طويلة ليرطب أجواء النص القاتمة ، لكنه يقلل من اندفاع الأحداث فالحب هنا هو حالة من التأمل الصامت الهاديء ، وسيكون من الغرابة بمكان أن مثل هذه المونولوجات المشحونة بمشاعر ملتهبة وحنين قوي يقابلها رفض عام كلي وشامل على مستوى القرية لأي حب أو لقاء جسدي خارج نطاق الزواج . لهذا سنشعر بالقبضة القوية لسلطة المجتمع في تلك العلاقات ، حتى أن شخصية مثل شمس رغم اقتناعها بفكرة الحب إلا أنها ترفض أن يمسها حبيبها منصور إلا في حدود معينة ، رغم اعترافها له بحبها ، وهنا يكون الانشطار بين رغبات الجسد وبين التخوف من أقانيم الحرام والحلال:
(( هو الغبي . كيف يتصور أنني سأتعرى لرجل ليس حلالي . غبي )) " ص 74" .
كل مغامرات منصور تبوء بالفشل ، وأغلب مشاريعه العاطفية تنتهي نهايات مأساوية ، وقد كانت شمس هي الورقة الأخيرة على رهان مع نفسه انه ما زال ذكرا مرغوبا ، فتعريه تلك الرحلة التي صاحب فيها شمس، فقد تمسكت باهداب الفضيلة ورفضت أن تمنحه الشيء المشتهى الذي لا تمنحه لغير حلالها :
(( قدمني لسيدة على أنني أخته ـ رغم تباين ملامحنا أنا البيضاء بعيني العسليتين وهو شديد السمار بعينيه السوداوين وملامحه الوسيمة ـ أتتنا بزجاجة ماء مثلج . دخلت الحمام اغتسلت . وجدته أغلق باب الشقة بالمزلاج . يعلنون سخطهم ـ أقاربه ـ ويقولون إن الغربة أبدلت وجهه الوسيم وجها لتيس يضاجع الإناث أينما يجدهن . لا ينظر لفتاة إلا بشبق )) " ص 73.
كثيرة هي المشاهد التي تتداخل فيها الأصوات ، تعلن عن الحدث الواحد عبر وجهات نظر متباينة ومتقاطعة . فالمشهد السابق يراه منصور غباء من تلك المرأة التي خطط كي ينفرد بها ، بينما شمس تلقي عليه باللائمة لأنه لم يفهم طبيعة الأنثى ، ويبرز في نفس الوقت في الخلفية أصوات أقارب البطل برفضهم ما يحدث أمامهم أو يتوقعون حدوثه من خلفهم . وهذه الأصوات تصل إلى درجة الصخب حينا ، وتخفت لتبدو هادئة حينا آخر ، غير أنها وفي كل الأحوال تقوم بدور حيوي في التعقيب على الحدث الطازج من منظور ذاتي بحت . والصوت يتسلل إلى مناطق خفية ليستكشف مناطق وأغوار معتمة في السرد الذي لا يصور إلا الأفعال مبتوتة الصلة بجذرها الحي ودوافعها الكامنة في النفوس والسرائر.