البيت, جدرانه الملونة العديدة التى تكسو أطرافها قطع الخشب البيضاء, وتصطف عليها اللوحات الزيتية المذهبة الأطراف, بعض الجدران يزدان بصور كثيرة متلاصقة لأشخاص يبتسمون يضحكون ويركضون وتتشابك أياديهم, والسقف العالى يضم الجميع فى حنو تزينه الورود المنحوتة بعناية, الجميع يلهج بالصمت والسكون ويحيا فى رتابة تتابع الليل والنهار.
الأتربة المتسربة من الرياح البعيدة تتراكم فى تؤدة وإصرار لتصطف طبقات فوق الأرضية الرخامية الباردة, تحاول ملامسة الجدران الصامدة, تتعلق بها, لكنها تنساب للأسفل وتتهاوى بتتابع ودأب.
ـمآلك دوماً إلى الأرض مهما علت بك الرياح أياماً, لن تستطيعين التعلق بى وطمس ألوانى, ستسقطك اللوحات والصور التى تزّن ناحيتى إلى القاع حيث مكانك دوماً.
ـ ما عاد أحد يهتم, سأسكنك يوماً عندما تتعالى الطبقات شيئاً فشيئاً, سألامسك كما أشتهى, سأتعلق بتلك اللوحات التى تغترين بها, وسأغزو ألوانك لأغطيها بلونى الكالح وبإصرارى على الحياة, إنه صار بيتى وسكنى ومأواى.
ـ إنهم قادمون, سترسم نعالهم فوقك عار الزوال, بينما سأظل أنا فى عليائى, ستلمع اللوحات عندما تضاء الأنوار كل ليلة, وستسمعين صدى الضحكات يرتد منى ويعود إليّ, سينزعون تلك الستائر ليعيدونها للحياة مرة أخرى, وسيُبعث الزهر المطبوع على أطرافها من جديد, سينتشر شذاه فى المدى ليمحو رائحتك الكريهة, التى طالما عذبتنى.
القاعة الفسيحة تستكين فى صمت, ترمق الشرفة الكبيرة بأسى حزين, الصمت سيد المكان رغم صخب الأشياء الكثيرة هنا وهناك.
زجاجات العطر تتناثر على رف خشبى مزخرف, تتطلع فى المرآة المعتمة بسأم شديد, بينما يلمع المصباح المتدلى من سقف الحجرة لمعة يائسة ويتثائب مُعلناً عجزه, ويلف الظلام المكان.
يشتد الصخب هناك, حيث تتراص الكئوس خلف الزجاج الملون, ويدور عقربا الساعة القديمة فى بطء
ظاهر ولا يعبران عن زمن حقيقى بل ينعمان بالتراخى التام الذى سينتهى حتماً بتوقفها عن الحركة الدائبة, وتسكن الأوانى الكثيرة فى صوان خشبى فى الأسفل, تتحرق للخروج من سجنها الطويل.
ـإنهم لا محالة قادمون, لن يتركون السجن الزجاجى البراق يحتوينا طويلاً.
ـ إنكم ترون الدنيا من خلال زجاجكم الملون, بينما نحن يلفنا الظلام الدامس, والهواء الراكد, كم نشتاق
جميعاً للحياة.
ـ أتذكرين يا رفيقتى تلك الشفاه التى كانت تلامس أجسادنا فى نهم, بينما نحوى فى داخلنا شراب اللوز الشهى, أتذكرين الإبريق الذى نعيناه طويلاً عندما تحول إلى ذرات صغيرة, كم آلمنى فراقه.
تململ الصوان الخشبى فى الخارج محاذراً أن يزعج الأطباق الموشاة بالذهب والتى تقف بداخله بخيلاء وزهو.
ـ لن يستمر الحال طويلاً إننى أسمعهم قادمون, أسمع خطوات كثيرة أمام باب البيت, إنهم حتماً قادمون.
يستمر اللغط قليلاً فى الخارج, وتبتعد الأقدام إلى البيت المقابل, صوت الجرس البعيد يقتل الحلم بالحياة, وتعود كل الأشياء إلى الصمت الحزين.