قاربت الأربعين ، والدفء يتحرش في أوصالي ، وأشعر بحبو المواسم الحبلى بالخصب ، طفل أنا أنبع من لغة النبض ، وأركض بين شرايين الحياة ، وبين الفواصل والنقاط ، وبين إشارات التعجب ، وعلامات الاستفهام .. أركض منسرحا .. رملا .. كاملا .. طويلا .. بسيطا .. آه ما أجمل الطفل في داخلي وهو يحتكر ابتسامات البراءة .. أما الذي قارب الأربعين فقد قابلته بائسا يزرع البحار ، ويولد من رحم الشمس ، ويمسح غرته بالغيم ..ويحاول أن يحمل أياما ذاهبات، ويعود الطفل ليفتح نوافذه على نسمات عليلات ..
يكحل جفنيه بالمدهش ، وينهمر وداعة وصحوا ، ويعيد تشكيل ابن الأربعين ، يتجول في أروقة عالم مسكون بالحب ، يلملم الغبار المعتق عن صدر أريكة فارقها متكئ بائس كان لا يبرحها، ويرجع مع الغيم ، فمع الغيم و حكايا المطر تحلو الطفولة ، ويعذب نهر المواويل ، يبتعد الطفل في داخلي عن عالم الرغائب ، فهل يستطيع ؟؟
إنني أمارس- أيها البحر -توق السفن إلى شواطئ الأمان ، وأحمل محنة بحر ولوع بغزو المضائق ، وأعلن للحب وقتا ...وللحب أشرعة لا تنام!!
أتعلم -أيها الغامض- أنني لا أطيق انكسارات شيخوخة وردة رعيتها منذ زمن ، فكيف لي أن أطيق انكسار أشرعتي على شاطئك .
قل لي بربك ماذا تفعل إن عقك النهر ، أو خانك الغيم ، أو ضل غواصوك في خلجان التيه..؟؟
أراك يا بحر مثلي تكشف همومك للمطر ، وتشكو عقوق شمس مغرورة جاهلة ، ويضيق نفسك في رئة المد والجزر!!
سأعود منك يوما لأروي خطاياك ، وربما تروي خطاياي !!
أواه يا بحرا احتوى أمنياتي التائهة؟؟!!
إنني حائر أتنزه في ساحل اللون ، مؤتزرا بذهول رمادي يمحو معادلة صحوي ، وأعيش بين زراعة الوهم وقطاف المواعيد ، وأحيا في خبايا عالمك القديم في عالم نوح البحارة التائهين ، وضوءٌ بعيد يؤذن بالنجاة ، يحول بينه وبينهم انقطاع الأنفاسّ..
أما أنت أيها الزبد المتمتع بالشط فإنني أراك وقد طاش بك الصواب، فكنت ردة فعل على هياج كظيم ، ولغط يطوق عالم الأمواج ..
يبدو أنه ليس في معاجم البحار مآثر الأسياد، ولا ذلة الفقراء، ولا قيم المباهاة في عالم الناس، بل في معاجمه رسمت خرائط الصخور العتية ، وعلى صدورها رتعت ذاكرة البحر ، ومن فوق هاماتها تقرأ الأمواج لغة البحر ، ونهج الجهات..
هي ليلة بحرية عذراء ، وتّرَها الترقب ، رأيتها سافرة تقترن بالمد المعربد ، وتلبس إزار أمواج عتية ، وتخلع عن جسدها ثوب الحياة ، وتدخل مع النسائم لا يراها إلا الرقاد !!
هل ستتذكر يا بحر وجهي الشاحب؟
إنني أتذكر وأنا أقف بجوارك عمرا تخثر في هنيهة، وفرحة عاشقين يتوافقان، يفوتهما الصباح، ويضيّعا طوق النجاة!!وأراني أقترف الوقت على شاطئك، في زمن يضيع فيه الصمت في كينونة المساء.
أريد أن أكون مثلك أيها البحر لا أصد غيوما تهطل، ولا أمل إبحار السفن ، ولا معانقة النوارس، وسأرحل عنك هذه الليلة، وربما أصحو على بحة جارحة، أفتش في أحلامي عن حاضر مقبل يلعن البارحة!!
سأصحو مثقلا بالشوق إلى عالم لا تتدحرج فيه الشوارع المثقلة بالضجيج في داخلي، وسأشرع نوافذي على الفرح المعتق في وجيب القلب ، فأتشكل طفلا جديدا يغادر سن الأربعين !!
ملحوظة: هي خاطرة ألقيتها في أمسية يوم الجمعة 17-3-2006 م، ,أرجو ألا تظل طريقها إلى قلوبكم.
مع حبي وتقديري