أخي الأستاذ عادل العاني المحترم
سلامًا واحترامًا، وتحيّةً عَطِرةً طيِّبة، وبعد:
إنّني أقدِّرُكَ وأحترمُكَ، لِما لَكَ مِنْ أثَرٍ واضِحٍ في عالَمِ الأدَبِ، وباعٍ طويلةٍ في مجالِ الشِّعْرِ خاصّةً. وقدِ اطَّلَعْتُ على قصيدتِكَ ( حبيبتي السَّمراء )، والّتي أَهْدَيْتَها لِكُلِّ العاشِقِيْنَ؛ وأنا واحِدٌ مِنْهُمْ. إنَّ حبيبتي ليستْ سَمراءَ؛ ولا شَقراءَ، إنّها كالماءِ ليسَ لها لَونٌ مُعَيَّنٌ، إنَّما بها الطَّعْمُ اللَّذيذُ والرّائحةُ الزكيّةُ. إنَّها مِثلُ دَعْدٍ ( الحِرْباء )، تَضَعُ على جِلْدِها اللَّونَ الّذي أُحِبُّهُ في كُلِّ مناسَبةٍ، وللّهِ في خَلْقِهِ شُؤونٌ.
أخي الأستاذ عادل:
قرأتُ قصيدتَكَ، فوجدْتُ فيها بعضَ الأبياتِ الّتي تحتملُ أوْجُهًا في معانيها، وقدْ غابَ عنّي بعضُ المعاني؛ في الأبيات الّتي لم تعتمِدْ فيها علاماتِ التَّرْقيمِ خاصّةً.
أخي الأستاذ عادل:
إنّني على عِلْمٍ تامٍّ برَحابةِ صَدرِكَ، وعُمْقِ نَظْرتِكَ، ونُورِ فِكرِكَ، ورجاحةِ عَقلِكَ، والتَّرَفُّعِ عَمَّنْ يُسَبِّبُ لَكَ الأذى. مِنْ هذا المُنْطَلَقِ، أرَدْتُ أنْ أُوْرِدَ بعضَ المُلاحَظاتِ الّتي وجَدْتُ أنَّها ضرورِيّةٌ، طالَما أنّ الغايةَ نبيلةٌٌ ساميةٌ ، وهذه المُلاحظاتُ وجهةُ نَظَرٍ، قد يُجانبُها الصَّوابُ. إنَّها نَقْدٌ لِلْقصيدةِ، وتشريحٌ لجِسْمِها، ولا يَخلو التَّشريحُ مِنْ إراقةِ قليلٍ مِنَ الدِّماءِ.
إنَّ ( الواحة ) ساحةٌ نستطيعُ أنْ نتنَفَّسَ فيها بحُرِّيّةٍ، وأنْ نفتحَ أفواهَنا دُونَ خَوفٍ أو مُجامَلةٍ، بَعدَ أنْ كانتْ هذهِ الأفواهُ مُغْلَقةً، لانكادُ نفتحُها إلاّ عِنْدَ طبيبِ الأسنانِ، أو عِندَ الأكْلِ، وكُلُّ ذلكَ على حَذَرٍ.
وأُورِدُ فيما يلي بَعضًا مِنْ هذه المُلاحَظاتِ:
أوَّلاً ـ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنى:
القصيدةُ الرّائعةُ تِلْكَ الَّتي تأتي بمعنى جَديدٍ خصبٍ، وخَيالٍ أخّاذٍ مُجَنِّحٍ، وأفكارٍ بَنّاءةٍ عميقةٍ، وعاطفةٍ مُضْطَرِمةٍ وهّاجةٍ، وألفاظٍ مُناسِبةٍ لكُلِّ غَرَضٍ. إنَّ هذهِ القصيدةَ تَسْتولي على كِيانِنا، وتَصْهَرُ أفئدَتَنا ، وتُطَهِّرُ عالَمَنا، وتَمْلأُ حَياتَنا بَهجةً وسُرورًا، لا هَمًّا وغَمًّا وتعاسةً .
1) مَطْلَعُ القصيدةِ: ( الصَّبْرُ لاينفعُ حبيبًا، إنَّهُ جَمْرٌ لايُطاقُ ).
لقدْ كثُرَتِ الشَّكوى عِنْدَ العُشّاقِ، وعِنْدَ كُلِّ ذي غايةٍ لم يتَمَكَّنْ مِنْ تحقيقِها، فهذا المُتنبّي مُنذُ أكثَرَ مِنْ ألفِ سَنَةٍ يعبِّرُ عن هذا المَعْنى قائلاً:
ألا ليتَ شِعْري هَلْ أقولُ قصيدةً فلا أشتكي فيها ولا أتَعَتَّبُ؟
2) لمْ أجِدْ في هذهِ القصيدةِ صِفاتٍ إنسانيّةً تختصُّ بها حبيبتُكَ، مِثْل ( النُّبْل، الطُّهْر، العَفاف، الوفاء، الأنوثة، الحَياء، الظَّرافة، الكِياسة، الأمانة، الصِّدْق، الشَّرَف، الثَّقافة. . .) ، سمراؤُكَ هذه ( حُلوة الخَدَّيْنِ، نَظرة العَيْنَيْن، الهمسة، البَسْمة، القَدّ، [الفاه]، الشَّعْر، الحلاوة ). إنَّ عِشْقَكَ لَها لايعدو الصِّفاتِ الجِسْميةَ، وأكادُ أقول: إنّهُ غَزَلٌ مادّيٌ صريحٌ خالٍ مِنْ أيَّةِ عاطِفة.
3) في البيت الثّالث: ( هَيّا اعزِفي لِلْهوى، وَلْيُكْشَفِ السِّرُّ )
في البيت الرّابعِ: ( والحُبُّ ليسَ لهُ ـ ياحُلوتي ـ سِتْرُ )
في البيت التّاسع: ( سِرُّ الهوى لا، ولنْ يخفى لهُ أمرُ )
أرى أنَّها معاني مُكرَّرةٌ لالُزومَ لها، ثُمَّ لِماذا أنتَ حَريصٌ على كَشْفِ السِّرِّ وافتِضاحِهِ؟ تُرى حتّى يعرِفَ الجَميعُ هذهِ العَلاقةَ فَيَعْزِفونَ عَنْ حبيبتِكَ السَّمْراءِ، فتَبْقى لَكَ وَحْدَكَ، لأنَّ الفَتاةَ العاشِقةَ مَنْبوذةٌ اجتماعِيًّا، ولعلَّكَ تعرِفُ مدى حِرْصِ الفَتاةِ على سُمعتها.يقولُ شاعرٌ في هذا المَجالِ:
إذا كلَّمَتْني بالجُفونِ الفَواتِرِ رَدَدْتُ علَيْها بالدُّموعِ البَوادِرِ
فلمْ يَعلَمِ الواشُونَ مادارَ بَيْننا وقدْ قُضِيَتْ حاجَاتُنا بالضَّمائرِ
ويقولُ شاعِرٌ آخَرُ:
كِلانا مُظْهِرٌ للنّاسِ بُغْضًا وكُـلٌّ عِنْــدَ صاحِبِـهِ مَكِيْــنُ
وأسْرارُ المَحَبّةِ ليسَ تَخفى وما في القلبِ تُظهِرُهُ العُيونُ
4) في البيت التّاسع: ( قولي لهم: إنّني أهواهُ ياأمَلي )
لِماذا تُجْبِرُها على البَوحِ بِهذا الْحُبِّ الرّائعِ؟ ألَسْتَ واثِقًا أنّها تُحِبُّكَ؟ ألا تَتَّصِفُ سَمْراؤكَ بالأنوثةِ الّتي تُمْلي عليها الخَفَرَ والْحَياءَ؟ دَعْها تَلُذْ بالصَّمْتِ الْجَميلِ المُعَبِّرِ، ففي مِثْلِ هذه المَواقِفِ؛ كَثِيْرًا ما يكونُ الصَّمْتُ أبْلَغَ مِنَ الْكَلامِ.ثُمَّ لاحِظْ ( ياأمَلي )، أهِيَ أَمَلُكَ في هذه الحَياةِ؟ فالآمالُ واسعةٌ عَريضةٌ لاتُحَدُّ بِحُبِّ فَتاةٍ.
5) في البيت العاشر: ( اسْمَعي قَسَمي: إنّي سَأهواكِ حَتّى يُزْهِرَ العُمْرُ )
أرى أنَّهُ لاضَرورةَ لِلْقَسَمِ، فالحُبُّ ثِقةٌ. وبما أنَّكَ تُحِبُّها الآنَ، فَعمرُكَ مُزْهِرٌ الآنَ، إنَّهُ في عِزِّ الزَّهرِ والثَّمَرِ، فكيفَ سَتَهواها حتّى يُزْهِرَ العمرُ؟
6) في البيتَيْنِ[ 11 + 12 ]: ( يازادني هذهِ سَمراءُ أعشَقُها )
لقدْ بُحْتَ بِحُبِّكَ للأستاذ ،، زادني ، ، لَعَلَّ في ذلكَ تنفيسًا عمّا تُعانيه، وحتّى يحمِلَ مَعَكَ بعضًا مِنه:
لاتُخْفِ ما فَعَلَتْ بِكَ الأشواقُ واشْرَحْ هَواكَ فكُلُّنا عُشّاقُ
فعسى يُعينُكَ مَنْ شَكَوْتَ لَهُ الهوى في حَمْلِهِ، فالعاشِقونَ رِفاقُ
لاتَهتَمَّ، فلو تَعَرَّفْتَ إلى غيرِها لَوَجَدْتَ أفضَلَ منها:
فارِقْ تَجِدْ عِوَضًا عَمَّنْ تُفارِقُهُ في الأرْضِ، وانْصَبْ فَإنَّ العِزَّ في النَّصَبِ
والشّاعرُ ( المَعَرّي ) يقولُ في هذا المعْنى:
وقد تَعَوَّضْتُ عنْ كُلٍّ بِمُشْبِهِهِ فَما وَجَدْتُ لأيّامِ الصِّبا عِوَضا
7)في البيت [13]: ( إنَّ الاسْمَ ذا زَهْرُ )
يبدو أنَّ اسمَها ( نهيلة ) ، وهو مَنْهَلُ الماءِ، فلو قُلْتَ: ( إنَّ الاسمَ ذا بِئْرُ ) ، لَكانَ أقرَبَ إلى المَعنى، لكنَّكَ تَسْتَشْعِرُ بِهِ مِنْ خِلالِها عَبَقَ الزَّهْرِ، ومن هنا تُقسِمُ ستُحِبُّها حتّى يُزْهِرَ العمرُ.
8) في الأبياتِ الثَّلاثةِ الأخيرةِ[ 14+15+16]، تذكرُ اسمَها مُوَرّى: ( النّون: آخر حرف من كلمة[عين] سمراء ـ الهاء: آخر حرف من كلمة[ وله] الأحباب ـ الياء: أوَّل حرف من كلمة [ياسمين] ـ اللام: آخر حرف من كلمة[ عقل]. نلاحظ أنَّ الأحرفَ الثّلاثةَ:"ن،هـ ،ل" مأخوذةٌ من أواخرِ الكلماتِ، ماعدا حرْفَ الياءِ، فقدْ شَذَّعن إخوتهِ.
9) البيت [16] لم أفهم المَقصودَ منهُ، فبهِ خَلَلٌ عَروضِيّ
ثانيًا ـ مِنْ حَيْثُ المَبْنى:
1) العَروض: لقد أورَدْتَ في آخِرِ القصيدةِ: [[ وعَروضيًّا لي ملحوظةٌ عليها ]].
عَجُزُ البيت الأخير: ( والحبّ أعلنه في واحتي والسّرّ )، بهِ خَلَلٌ عَروضيّ، لم أسْتطعْ فَهمَهُ. رُبَّما جاءَ نتيجةَ غَلَطٍ مَطْبَعِيٍّ.
2) النَّحو: البيت 4 ( حتّى متى الحُبُّ يبقى [ مُخْتَفٍ] خَجِلاً ) ، [مختفي] اسم منقوص تثبتُ ياؤُهُ في حالةِ النَّصْبِ، أي : مختفِيًا، وعندها ينكسرُ وزنُهُ العَروضيّ.
أقترح أنْ تكونَ اللّفظةُ ( خافيًا )، وبها يستقيمُ الوزنُ مع المحافَظةِ على المعنى.
البيت 5 ( عيناكِ لو رمتا ـ ياحلوتي ـ لغةً )
ليس في هذا البيت علاماتُ ترقيمٍ، فغابَ عنّي معناه، واستغلقَ فهمُهُ . إنّي هنا أستفسِرُ عنْ إعْرابِ كلمةِ ( لغةً )، هل هيَ مفعولٌ بهِ للفعلِ [ رَمَتا ] ؟ وأينَ جوابُ الشَّرْطِ [ لو ] ؟ وإذا قلتَ: جوابُ الشَّرْطِ الجُملةُ الاسميّة ( في حرْفِها السِّحْرُ ) أقول : لِمَ لَمْ تَقْترِنْ بالفاءِ وجوبا؟ وأقترحُ أنْ يكونَ البيتُ على الشَّكْلِ التّالي:
الحُبُّ في نظرةٍ، عيناكِ خِلْتُهما ياحُلْوتي، لُغةً في حَرْفِها السِّحْرُ
البيت 7 ( وكمْ .... عزفوا القَدُّ و[ الفاه] والعينان والشَّعْرُ )
عزفوا: الواو : فاعل، القَدُّ : (فاعل ثانٍ، بَدَلٌ، مبتدَاٌ). لماذا لانُريحُ أنفسَنا مِنْ لغةِ ( أكلوني البراغيث ) ونقول: أكَلَتْني؟. وأقترحُ أن يكونَ البيتُ :
وكمْ على وَتَرٍ في خافِقِيْ عَزَفَتْ العَيْنُ والثَّغْرُ والأرْدافُ والخصرُ
لأنّني أكرهُ الشَّعْرَ ، ولو كانَ في الطّعامِ اللّذيذِ.
3) اللّغةُ: كلمة ( فاه ) لاأصْلَ لها في الإفرادِ دونَ إضافة. إنَّها ( فوه ) ، نقصَتْ منْهُ الهاءُ فلم تحتمِلْ الواوُ الإعرابَ، لسُكونِها؛ فعُوِّضَ منها الميم ، فصارتْ ( فم ) ، والتَّصغيْرُ يَرُدُّ الأسماءَ إلى أُصولِها، فتصْغيرُ ( فم ) ( فُوَيْه ) ، مع مراعاة أنَّ لفظةَ ( فم ) لاتصْلُحُ لفظةً غَزَليّةً، إنَها للأكْلِ والابتِلاع ، أو لِلْكلام ، لاحِظْ أنَّ لفظةَ ( ثغر ) أرَقُّ وأحلى ومناسِبةٌ للسِّياقِ.
البيت 3 ( هيّا اعزُفي للهوى ) والصَّحيحُ بكسر عين الفعل ( الزّاء ) ( اعزِفي ) لابضَمِّها.
البيتانِ13+16 كلمةُ ( الإسم ) وَرَدَتْ همزتُها ( همزة قطع ) والصَّحيح ( همزة وصل ) ، ولو أنَّ ذلكَ جائزٌ في الشِّعرِ، لكنَّهُ على ضَعْفٍ.
أخي وأستاذي عادل العاني المحترم:
أكتفي بما أوردْتُهُ، تارِكًا أو مُرْجِئًا، دراسة الصُّوَرِ والأخيلةِ والأفكارِ والتَّنْسيقِ والتَّرْتيبِ والعاطفة، مُذَكِّرًا بالقَولِ الشَّهير: كيفَ نُجِيْزُ لأنْفُسِنا الغِناءَ، بينَما روما تَحْترق؟
إنَّ ما أورَدْتُهُ وجهةُ نَظَرٍ، وما المَرْءُ إلاّ مُخْطِئٌ ومُصيبُ. أرجو الاطِّلاعَ عليهِ ، وإنَّكَ عِنْدي جديرٌ بِكُلِّ تقديرٍ واحتِرامٍ. وَلْنَتَذَكَّرْ قَول العِمادِ الأصفهاني: ( ما ألَّفَ أَحَدٌ كتابًا في يَومِهِ إلاّ قالَ في غَدِهِ: لو أنَّني قَدَّمْتُ هذا لَكان أفضلَ، ولو أخَّرْتُ ذاكَ لَكانَ أجملَ، ولو حَذفْتُ هذا لَكانَ أحسنَ، ولو أضَفْتُ ذاكَ لَكانَ يُسْتَحْسَنُ. وهذا لَعَمْري مِنْ أعظَمِ العِبَرِ.)
شُكْرًا لَكَ، وسَلامي إلى جميعِ الأصدِقاءِ الأعِزّاءِ في ( واحتِكم ) الوارِفةِ الّتي ازدَدْتُ بكُمْ وبِها شَرَفًا وافتِخارًا.
وتَفَضَّلوا بقَبولِ وافِرِ الودِّ والتَّقديرِ والاحترام.