أحبتي :
أشكر كل من مر من هنا مستحسنا الفكرة ، وأود أن نجرب فالتجربة هي سبيلنا إلى الرقي بأقلامنا وأذواقنا ، حتى وإن أخطأنا .
ويمكنني الإشارة إلى ما قام به الحبيب عادل ، فهو قد شرح معاني البيتين ، وهي الخطوة الأولى في التحليل ، وما قام به الحبيب ماجد وقوف عند ضفاف التحليل بذائقة رائعة ، ولكنني أسأله الآن : هل الأبيات ضحلة الفكرة ؟ أو أنها لا تحمل الكثير من القيم كما أشرت في معرض ردك ؟
لا تجب يا صاحبي إلا بعد أن تقرأ تجربة متواضعة مني في تحليل البيت الأول .
مناسبة القصيدة :
القصيدة في مدح صفي الدين الحلي للملك الصالح ، وتهنئته بعيد النحر ، وتحريضه على التحرر من المغول.
شرح البيتين:
- لا يستطيع الإنسان الوصول إلى مراتب المجد العلية إذا لم ينتصر على ما يواجهه من متاعب وأخطار ويتغلب عليها ، ولا يمكن لمن يقدم الحذر على الإقدام أن ينال مناه .
- ومن أراد أن يحقق أمانيه وطموحاته السامية بدون أن يتعب ؛ فإنه سيهلك دون أن يدرك حاجته .
التحليل:
أول ما يستوقفنا في البيت الأول بدايته بالنفي ، وفيه يود أن يقرر أمرا بنفيه ، ولعل الصدمة الأولى بالنفي تؤكد الغرض مما أراده الشاعر ، ثم جاء بالفعل يمتطي ، وهو فعل مضارع دال على الحدوث والاستمرار والتجدد ، وكأنني به يريد أن يقول إن من يريد الوصول إلى المجد عليه أن يكون كالفارس الذي لا يفتأ يركب فرسه ويحسن امتطاءها ،ويستمر في ذلك ، بل يجتهد اجتهادا مستمرا ومتجددا ، فالمجد لا ينال بسهولة، ولعل من المناسب أن أشير إلى الصورة في هذه الجملة ، حيث شبه المجد بالفرس ، وهي استعارة مكنية ، ولعله أراد أن يقول إن الساعي إلى المجد يجب أن يحمل أخلاق الفارس وصفاته ، ومنها القوة والشهامة والإقدام ، والكرم وووو مما تحمله كلمة الفروسية من صفات ومعان.
أما قوله ( من لم يركب الخطرا ) ففيها معنى التمكن من الأخطار والانتصار عليها ، وإلا لقال ( يواجه الخطرا) ولكن فعل يواجه لن يفيده فيما أراده من معنى ، فالمواجهة قد تحمل معنى الخسارة ، ولكن الركوب يعني التمكن والانتصار.
ونراه في الشطر الثاني يستخدم جملتين فعليتين إحداهما بدأت بفعل مضارع ( ينال) يحمل معنى التجدد والاستمرار ، والثانية بدأت بفعل ماض يحمل معنى ( الانقطاع في الزمن الماضي) أما الأول فأمره واضح ، وقد فسره حديثنا عن الفعلين في الشطر الأول ، ولكن استخدامه لفعل ( قدّم) بصيغة الماضي يجعلنا نتوقف مليا ونتساءل هنا : أليس الحذر مطلوبا؟؟
نقول بلى إنه مطلوب ، ولكن الشاعر أراد به الحذر الذي يمنع صاحبه عن الإقدام ، وليس الحذر الذي يكون حافزا للاستمرار ، وهنا يبدو لنا جليا سبب اختيار الفعل الماضي الذي انقطع فيه الحدث في الزمن الماضي ، فمنع صاحبه عن التقدم.وقد شارك التضعيف في كلمة ( قدّم) في إبراز فكرة المبالغة في الحذر ، والمبالغة في الحذر عيب يمنع صاحبه عن التقدم .
ولعل من المناسب الإشارة إلى الأسماء المستخدمة في البيت ، ويستوقفنا فيها أنها جميعا معرفة بأل التعريف ، وفي هذا دلالة ، فإن التعريف يحمل معنى التخصيص في الغالب ، ولكن إذا كانت أل التعريف هي ( أل الجنسية ) فإنها تحمل معنى العموم ، فهو لا يريد مجدا معينا ، ولا خطرا معينا ، ولا حذرا معينا ، بل هو يعمم ذلك ، ليقول إن أي مجد يجب أن يجتهد من يريده في ركوب الخطر ، وهكذا ، فال التعريف في المجد والخطر والعلا والحذر تعني الجنس العام ، ولا تعني التخصيص .
أما الموسيقى الداخلية فهي سر من أسرار عبقرية الشعراء ، وهي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة ، أو هي الإيقاع الذي يتبع المعنى أو الشعور فيليقي بظلاله عليه، وكأنني بها الموسيقى التصويرية التي تصاحب المشهد التعبيري في كل نقلة من نقلات الشعور ، ولكل وثبة من وثبات الخيال ، وهي بعد ذلك معين لا ينضب يمتح منه كل متذوق بقدر ثقافته وعلمه ، وقدرته على محاورة التراكيب الشعرية بحثا عن مظاهر الجمال.
ومن مصادر الموسيقى الداخلية في هذا البيت حروف المد ، وكيف أنها شاركت في نقل الجو النفسي من عمق الشاعر إلى الشعر ، ثم إلى المتلقي أو المتذوق ، فشاعرنا اختار المدود بدلا من السواكن التي كانت تستطيع تأدية الوظيفة في الوزن ، ولكنه نقلنا إلى جو المعنى ، فشارك المد في قوله : ( يمتطي - الخطرا - ينال - العلا - الحذرا) في نقل معنى الاستمرار والاجتهاد الذي يطول أمده ، وساهم الجناس بين نهاية الشطر الأول ، ونهاية البيت في قوله ( الخطرا ، والحذرا) في إشاعة هذا الجو النفسي ؛ لأن الجناس من المحسنات اللفظية .
أحبتي: قد أجد الكثير من القيم التي يمكن الحديث بها في بيت واحد ، وليس بالضرورة أن نصل جميعا إلى غاية واحدة محددة ، رغم أن ثمة قدرا مشتركا في الفهم لدى كل من امتلك الأدوات اللازمة للتحليل ، ووظفها التوظيف السليم ، ولكن علينا أن نعي أننا في الشعر نتعامل مع الكلمة في أرحب ساحاتها، ومن هنا كان لكل منا أن يجتلي من النص الشعري على قدر إمكاناته ووسائله ، ولا عيب ، فالعمل الأدبي العظيم هو الذي تتعدد قراءاته ، وكلما أتيته من جانب ، تفجرت أمامك ينابيع العمق والأصالة والجمال.أما العبارة الشعرية فقد اتسمت بالإيجاز- إلى حد ما - إذ أوجز في هذا البيت كل الممعاني التي أراد أن تصل إلينا، وقد اعتمد الأسلوب الخبري وحده في ذلك ، دلالته البعيدة الدعوة إلى الجد والمثابرة للوصل إلى مراتب العظمة والسمو.
وقد جاءت ألفاظ الشاعر موحية دقيقة ذات ظلال وإيحاءات خرجت بها عن جمود المعنى المعجمي... أما تراكيبه فتتسم بالقوة والانسياب والترابط...
وما قلته بعض ما يمكن الحديث فيه في بيت واحد .
أرجو من أحد الأحبة الذين اشتركوا في هذه الموضوع أن يختار بيتا أو بيتين للتحليل ، وأفضل أن تكون من قصائد شعراء الواحة هذه المرة. وما كنت أود أن أخوض غمار هذا الأمر إلا بعد أن وجدت إحجاما منكم عن الخوض فيها .
ويمكنني أن أشير إلى أمر مهم يفيد في عملية التحليل ، وهو أن نطرح على أنفسنا أسئلة تتعلق بالبيت ، والإجابات عنها ستكون بالتأكيد هي تحليله.
ملحوظة : اعتمدت التبسيط في التحليل ، وعدم الغوص كثيرا ، ولكننا سنصل بالتدرج إلى عوالم لا تحد من الاتساع .
ولكم مني خالص الود والتقدير