وتسأله أن يحفظ سرك
تستوطن ذاكرتي الأغنية، ليلة عيد، ليلة عيد، الليلة ليلة عيد.
أتأمل صورتك الصامتة كوجهك الصامت، أتدحرج على إسفلت الدم والرماد مثل حمامة سقطت من أجنحتها حين اخترقها الرصاص، تراقبني العيون فأشعر بالخوف يعشش في ذاتي، على أنغام تلك الأغنية كان يوم زفافنا، احتضنني وجهك بنفس الهيبة والوقار اللذين غادرت بهما البيت، كنت الحب والأمل وحلم الحياة، يحتويني صدرك فأشم رائحة عرقك التي سكنت في شراييني، يعتريني فضول الطفلة فأسألك:
- لماذا كان قدر الوطن الذي ننتمي إليه أن يعيش حرائق زمن الخوف؟
تضمني إلى صدرك وتوغل أصابعك في تجعدات شعري تداعبه فأغفو مثل قطة تتوق إلى لمسات الدفء والحنان فترتوي أضلعي، تحس بالنغل في يديك فلا تحرك ساكناً كي لا تزعجني من غفوتي الحالمة، تظل معانقاً وجهي بيديك حتى تشرق شمس النهار، تودعني بقبلة حنون ثم تمضي إلى عملك، توصيني بغذائي، بقلة انفعالي، بعدم إجهاد نفسي، وغرستك التي علقت في قلب الرحم تسبح في أعماق الصمت تورثني البهجة والشعور بالأمان من ذلك النبض الذي تتورد عليه وجنتاي فأحس بالخفقة تلو الخفقة تزين مشاعري بزينة الحياة الدنيا.
تقبل من عملك والإجهاد باد على وجهك الصامت، بنفس الهيبة والوقار تفتح المذياع تصغي إلى نشرة الأخبار، قوانين وشعارات أعدمت البياض في خوفنا في قلقنا في ألواننا، قدر الوطن الذي نعيش فيه أن يكون متعدد الألوان فتشتعل الحرائق، يعلو اللهب، يتكاثف الدخان، وتعم الفوضى، مملكة بابل تبكي آثار الدمار، تقطب حاجبيك فيغيب بريق الألق في عينيك، تسند رأسك على الوسادة تسترجع أحداث التاريخ، بل أحداث اليوم، مقابر جماعية تدفن الجنين في بطن أمه، لا اعتراض على السلطة، ناموس القرارات ينبع من بطن الحوت الذي يبتلع الوطن، يكم الأفواه، يملأ السجون، سمعتك تبكي صديقك الذي سجنوه بتهمة إشعال فتنة بحق السلطة، الرجل كما قلت لم يقل غير الحق، والحق مهضوم عند أسياد السلطنة، ألوان تشعل فتنة هنا، فيهب حريق هناك، يسكنني ذلك الهاجس المقيت فأشعر بالغربة وبطعم الزعفران يسري في عروقي، ليتك لم تغادرني، ليتك لم تتمسك بنصيبك من الموت السريع، قلت لك: لن أقبل أن يعيش طفلي يتيماً، أجبتني بنفس الرصانة والهدوء : لن أتخلى عنكما، سأكون دائماً بينكما حاضراً كل تفاصيل الحياة .
أي نار نهمة تلك التي تسيطر على الوطن ؟ تطفئون من هنا، تشتعل من هناك ! أي مصير ذاك الذي ننتظره لو ذهب الرجال ؟ صورتك الصامتة كوجهك الصامت تنبش الحقيقة، أبو العلوج فرَ بجلده وترك الإذاعة، فانقطعت الأخبار، ورجال "المارينز" يدخلون الساحات، يمدون على إسفلت الشوارع جنازير دباباتهم فأسمع صوت القذائف تخترق صدري وجنينك في رحمي يتقلص يعلن عن حالة استنفار لكأنه يريد الخروج قبل أوانه، فيعتصرني الخوف فأتلمس نبضاته كي أحس بالأمان، ما عاد يسبح في بحيرته الساكنة، حزين هو لأن يدك الحانية ما عادت تشعره بوجودك إلى قربه، لقد افتقدك هو الآخر كما أفتقدك أنا، المدينة حزينة وكئيبة، ليلة سقوط بغداد هاجت الرمال وثارت غضبى، فتلونت أحاديث الناس عن هذا الغضب الصاعق، ولبست المدينة ثوب حداد الصمت وعويل الرمال الهائجة أصبح هاجساً يتحدث عنه كل الناس.
صمت يدخل في صمت المساكين، جوع ينام على قرقرة معدة صار الخوف يتركها تقرع أبواب الظلام وتتصادم مع خوائها. ينداح الرعب من أصوات الإنفجارات، وسحابات عطشى لانهمار المطر تمتزج مع دخان النار الذي يعانق كبد السماء .
يعيدني الزمن إلى جداول الذكريات فأذكر الفرات الذي يلتوي جسده بين الضفتين مثل أفعى، وأنا أتوغل بين أشجار الصفصاف أحكي لها عن قصة حبي معك وأنني لا أعترف بوجودي من دونك، لا حياة لي من بعدك، فأنت الأهل والصديق والزوج والحبيب، وأنت مع النهر تلقي عليه بقصائد السلام وتسأله أن يحفظ سرك، فالنهر لا ينم عن كتابتك الشعر على ضفته تشرح له القضية، يظل ملتوياً بجسده، مرتاحاً على كتفي الضفتين فتقول له: ما أعظمك أيها النهر ؟ ثم تناديني فأعرف أنك قد انتهيت من حالتك حين رميت للنهر بأشجانك عن الوطن المحموم بحرائق الزمن، زمن الخوف والصمت عن الكلام.
يتكدس الخوف من المجهول الآتي، فتعصف الأوهام في صدري، بنفس الابتسامة الرصينة تودعني وأنا أحاول أن أعترض على ذلك المبهم الخفي الذي يعتريني عندما أقف وجهاً لوجه مع قلبك أحاوره عن المستقبل .
كان المستقبل في عينيك ليس مجرد وجود على هامش الحياة، كنت تعترف بغيرتك الشديدة على الوطن، تقول بنفس القوة والثبات: الوطن يعني ذاتنا من الداخل والخارج أرجو أن تفهميني، آن الأوان لتنفجر قصيدتي حركة ومعنى.
وتشرق عيناك مثل بدر مكتمل، بنفس الهيبة والرجولة الدافئة تضمني إلى صدرك وأنت تحتضن وجهي المبلل بالدموع:
- ما دمت أحبك، فلن تقتلني الشدة، وكلي الله.
حين خرجت نظرت إلى البندقية بمقت الخائف، ولعنت ألف مرة من صنع القنابل والبنادق والرصاص، لعنت الحرب، كنت أكره درس التاريخ والجغرافية، يعتصرني الخوف داخل زنزانة من الأفكار تروح وتجيء مثل أغنية لحنها نشاز، الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، هيروشيما، أحلام الصبايا، ضحايا القتل والدمار، الأطفال اليتامى، خريطة الطريق وحواجز الحدود.
في الأيام الأولى كنت تتصل بي فيطمئن خاطري، بضع كلمات وينقطع الخط، أعتم على رؤاي بصمت المساكين فتنعق الغربان في أذني: حاذروا من بطشكم لبعضكم، كرسي الملك وقع، عرش الملك سقط، رجال "المارينز" صاروا في كل مكان، والوجوه اختلطت على بعضها، جار يضرب جاره من الخلف ويختطف أثراً، مالاً، صارت المدينة تعج باللصوص، ضاعت الطاسة، أما أخبرتك فأطبقت على إشارتي بصمت المساكين .
وتتردد كلمات الأغنية، ليلة عيد، ليلة عيد، الليلة ليلة عيد، فتتفجر الدموع مترجرجة على خدي فيسح الكحل، يوم الجمعة لم يصل في المساجد، التاريخ يعلن عن زيارة ابن العلقمي لبغداد، ظهر ابن العلقمي ومن معه بوجوه جديدة، المغول يحرقون المكتبات، ينهبون المتاحف، ودجلة يلتوي حزيناً ينعطف بانكسار يعانق الفرات عند شط العرب ثم يفلت ضفتيه عنه وهو يبكي، يعز عليّ أن يبكي النهر، مثل مجنونة ذهبت أبحث عنك في كل المشافي، بين أكوام الجثث، حيث كنت تحمل البندقية وتوجه رصاصك باتجاه العدو سقط صاروخ "كروز" فالتهمتك الأرض وما عاد لقطع الجسد المفتت أن تعود إلى صاحبها ليحملك الرجال على الأكتاف شهيداً، أين قبرك؟ كيف سأفضي لك بثرثرة طفلك وسؤاله عنك؟ هل أكذب عليه وأزور قبر شهيد لا يحتوي على جثمان الشهيد، هل أقول له صاروخ العدو زرع في كل جزء من هذه الأرض عضواً ممزقاً، مشوهاً ؟ هل أقحمه عذاب الزمن وعذاب الصورة البشعة التي سيحملها في صدره نقمة وحقداً؟
ينتشر الضباب ويبدأ المقامرون على الأرض والعرض يمارسون فسادهم، لن أترك طفلي يبحث عن والده بين وجوههم، أبداً لن يعيش دون حنانك، لن أسمح لهم بسؤالي عنك وعن انتمائك وعن مكان قصائدك، أودع صورتك الصامتة ووطنك الحزين، ها أنا ذي أستعد استعداد الرجال، وداعاً أيها الخوف العتيق، وداعاً أيتها المدينة المحترقة، وصوت انفجار قرب موقع لقوات "المارينز" يعلن عن بداية حياة لا خوف فيها، تمد يدك إلي يعود لقاؤنا ناصعاً كالسحاب يتقدم صعودنا عصفورك الأبيض، فتعرف أني كنت أحبك بجنون.
14/1/2005