قصة طويلة
أرقام مظلمة
يجثم هذا الوكر في عمق الليل المتوحش، ويركد في بلقع من مساحة هذه المدينة الآسنة تحت أنين الفوضى، هدوء ما، يستشعره المار على بابه، وكأنه أمام مقبرة لا علاقة للأحياء بها، يستوقفه منظر الشرطي القابع على بابه، ويستهويه البواب بلباسه التقليدي، ويستميله الباب المزركش بنقوش تقليديه، رموز لا يفقه من حضورها في المدخل شيئا، وحين تخترق الحديقة بهرولة تندس إلى داخل هذا النادي، تصادفك شرائط من ألياف دخان السجائر، ورائح تفوح من غور المكان، تزم أنفي فلا يستطيع أن يحددها، قيل لي عنها: إنها رائحة الويسكي، تداهم الخيشوم، وتمتزج بعشق متستر يتبوع إلى مستودع الغريزة، ودهليز النزوة.
ينطلق سمير، الشاب الفارع، الوسيم البارع، إلى هذه المملكة الوديعة في أدغال المجهول ، بإحساس غريب يجعله يستفهم كل كلمة، ويستطلع كل حركة، الصراخ ينادي من كل جهة، والصخب ينبث من كل فضاء، لم يدر كيف سيتحرك في هذه الكوكب الذي لا يملك هويته الخاصة، ولا كيف سيتعرف على الأسرار التي لم تدر بخلده، ولا كيف سيسير في هذه الشعاب المظلمة التي لا يعرفها إلا الذين يسبحون كل يوم في هذا البحر المليء بالمفاجاءات، سمع أسماء كثيرة لدى ولوجه باب هذا الفندق، فدوى، سلمى، ابتسام، آمال، ابتهاج، أسمهان، أسماء لها بطاقة تعريف جديدة لا يصلح استعمالها إلا في هذه المواخير.... الغواني، السكارى، المعربدون، المثليون، طبقات أخرى من المجتمع، لا ترى نورها إلا في ظلام الليل، ووجوه غير مألوفة لا تستقيم دورة حياتها إلا في هذه الأسواق، وطقوس غير مألوفة لا تعرفها إلا هذه المحاريب.
وحين دخل سمير إلى هذا الوكر، أحس بغربة تنتابه، وشعور يجافيه، فهل أدركته دهشة الغريب ؟؟ أم رأى من نفسه رغبة مكبوتة؟؟ أم احتمت بداخله وقدة الغيرة؟؟
جلس على الطاولة المواجهة للزجاج المطل على المسبح، رأى من بعده فتيانا وفتيات يتبادلن القبل في صيغة توحي بالذهول، وأبصر أجساما حدسها تتلاصق فيما بينها في حضرة العهر والهوى، بحلق في الأضواء المتراقصة على سطح الماء فهاله تناغمهما، أصابه ذهول، واعتنفه إحساس....نظر إلى الطاولة أمامه بشكلها البديع، وعليها لائحة بأسماء المعروضات، قرأ ما فيها فلم يعجبه منها شيء، مرطبات، مثلجات، مشروبات معدنية، مصطنعة، كحولية،
أسماء غريبة لم يألفها، البيرة، الويسكي، الروج، وأسماء أخرى تعودها في المقاهي.
الجو هنا غير معتاد، أتخمنه يخالف المعاش.
هذا المكان لا يعرف الضجر والملل والشكوى، ولا يحكمه قانون، ولا يؤمن بعادات وتقاليد، ولا يخضع إلا لبرتوكول العرض والطلب، والفوز والخسارة، فالفائزة بزبون منتقض الجيب، ممتد اليد، ترى الوجود جميلا، والمخلوق فضيلا، والخاسرة تسب العالم، وتلعن القيم، أما وازع الدين فلا يحكم هنا ولا سواه، ولا يظهر إلا خداعا في مناطق جافة من هذا الكون.
ويسمع سمير صوتا نديا يخاله ينبوعا رقراقا من الجمال الغاوي، ومحيطا هادئا من المعاني الملبسة.
آش تشرب أسيدي؟؟؟ (ماذا ستشرب ياسيدي)
لم يتردد في قوله،
أريد كأس عصير افاكادو (لافوكا ) ممزوج باللوز والتمر.
كأس عصير أراد أن يكسر به كابوس الفراغ الذي يتهدده في فضاء لم يدر شيئا عن أدبيات التحرك فيه.
رجعت النادلة –سهى- إلى طاولة الحانة وهي تفكر في هذا الجنس الغريب الذي ولج عالما لا يعرف أهله عصير البرتقال، والموز، والفراولة، وأفوكادو.
غر جديد (كربوز جديد ) شاب وسيم تدل نغمات صوته على وداعته ولطافته، تتمناه كل لبؤة أن يعيش بين أكنافها، وتحلم به كل أنثى تبتغي ضجيعا في ليلتها، تمنته سهى أن يكون صيدا ثمينا لها، فهل سترسل إليه سهام نظراتها؟؟ أم ستلسعه بالتغنج أمامه؟؟ أم ستبرز مخابئ جسدها لتوقعه بين أوهامها؟؟
وهل ستسبق خطيئتها إثم غيرها، فتجعله صريعا بين مدارس جنسها؟؟؟
اللوائح هنا مفتوحة، والقوائم ممتدة، وفي كل يوم ينضاف إليها زبون جديد، ينتعش بجولة في أنفاق الجسد، وخليج الجنس والعنف المقدس. ويرتاح لوجود رموز الطلسم الذي يفتح هذه الكنوز الثمينة.
فتيات ساحرات بلباسهن، مغريات في أحاديثهن، مميلات بحركتهن، بارعات في قنصهن، ووجوه لامعة، وسيقان معتدلة، وخصور مستدقة، ونهود بارزة، وسرر مكشوفة، وجسوم تنساب بتدرج في جزر الغواية.
حملت سهى كأس العصيرإليه، وهي تتوسل إلى عقله النحيف!!! ، بابتسامة تستعطف بها قلبه، وتستميل بها غريزته، وتقري بها ضيف ولهه، وكأنها تستثير كامنا توارى في تراب نسيانه.
بالصحة، تشربو أوتعافى، (بالصحة، تشربه والعافية)
شكرا،
احتسى جرعته الأولى، وعيناه تحدلقان في عقارب الساعة، وأفكاره تجوس حول جغرافية هذا المكان، وآذانه تسرق صخب الموسيقى التي تضخ بقوة من منصة الرقص.
عيون ترمقه، وجرعات العصير تغتصه، ونوبات الخجل تخنقه، إنه ضيف هنا لأول مرة، ونزيل بين لئام لا يجودون إلا بمقابل، فماذا عساه أن يظهر من قوة أمام شداة محترفين ينظمون في سلكهم كل حزين جريح؟؟
تقدمت إليه فتاة تتصقع في مشيتها، وتتمايس في حركاتها، حوراء من بنات حواء فتانة نزلت من عالم السماء ملاكا لتمارس الخطيئة،
طلبت منه سيجارة،
قدم لها السيجارة.
طلبت منه الولاعة،
أخذت الولاعة، أشعلتها فتأبت، أو حاولت أن لا تشعلها لتستفتح سرا مجهولا،
- من فضلك أشعلها،
وضعتها في فمها، ثم قربتها من يده، أخرج من خرطومها خيطا من نار أحرق به كعب السيجارة،
- شكرا،
استدبرت هذا الوهم الذي تتناحر بداخله رياح عدة، انعطفت إلى الأمام لتعود الأدراج إلى منصة الرقص، وهي تلعن حظها، فراسة خاطئة، خجول!!!خجول!!! مسحته من طرائدها، وودعته في جرداء تفكيره.
تذكر سمير درس الأدب العربي الذي كان يدرسه منصور بثانوية الخوارزمي،
هيفاء مقبلة، عجزاء مدبرة،، ،،لا يشتكى منها قصر ولا طول.
أعجبه هذا الفضاء بتفاصيله التي تستعرض فيها عروض متنوعة... وشعور جامح يخدر كليته، وحريق يدب في جسمه، ومشرط الطبيب تتحرك في دمه، وسرير الإشارات يتماوج بداخله، سرب كثيف من النساء يراهن بين عينيه، وفتيات يتمتعن بجمال فاضح، يفترشن هذه المناضد بأجسادهن المكتنزة، وعيون غرثى تبحث عن شريك مضاجع، وكلام متقحب يغسل قلوبا متصدأة، وقبل تغازل وجوها صفيقة مسعورة بالمتعة، وشبقية تختزنها أجسام مفتوحة، وأحجام مستوية، وثرثرة، وقهقهة، وفحش، ورغبات، ونزوات، وأهواء.
ويحملق سمير في شرود إلى السقف المرمي، وتناصفه سهى بعين مبتسمة، وتناجيه بحركة مترنحة، وكأنها تستثير كامنا توارى في تراب نسيانه، أدركت أن الشعور من جانب واحد. غموض تشعر به بين عينيه، وسر يظهر لها في تركيب نظراته، وهي تتلوى بين عينيه كحية رقطاء، فهل ستسعى أن تشده إليها بحبل من حركاتها المتولعة؟؟ وهل سيرتاض بهذه العروض التي تقدم أمامه؟؟ أم سيثبت جدارته في طروادة الجنس؟؟ حينما رأى اللبؤة الثانية
أحس بأنه يعيش في مغارة منبوذة، يحيى فيها بجسمه لا بروحه، لم يدر عمق إحساسه حينما رأى اللبؤة الثانية بين عينيه، تلمظ بكلمات مهموسة، ظنها ملاكا يحتاج إلى يد رحيمة، حسبها فتنة وسرطانا للقلوب، استحر في قرارة نفسه، واختمر في ضميره، كيف تترك هذه البهنانة مناطق النزهة فيها لكل وارد وغاصب؟؟ ويستدرك على نفسه، أنا هنا مجرد مستكشف، أعيش في كوكب آخر، لا علاقة لي بهذا الليل وسدنته، ولا وشيجة تربطني بقبلكم ولا بترثرثكم، لم يصدق نفسه حين رآها تجلس إلى الكرسي الذي نصب إلى جنبه، فستان أنيق، وقد معتدل، وجمال باهر، وكأنها قطعة من عاج خرجت إلى الوجود ليبتلي بها الناس.
تكلفت عدم المبالاة به، وهي تقهقه بصوت عال، ناولتها ابتسام قدحا من الجعة، احتست منه جرعة، أخرجت معه كلاما عاهرا ترسله بعفوية وارتجال، وحينا بعد حين تشير بلحظها إلى سمير.
سمير الغريب الشارد في صحراء الجنس، لم يدر شيئا عن ما يختمر بخلد أولاء الفتيات، ولم يوح إليه زخم الحركات المتداولة بموقف حاسم، فهل يتكلف أن يرى غبيا في موقع النجابة؟؟ أم طبيعته أنه لا يفهم الأمور المركبة؟؟
ويستمر الأنس، وتنزع العقول من أرواحها، وتقول فدوى في غمزة خفيفة،
- واش الناس جايين باش إسكتو؟؟هنا مافيه إبلى هدر، أولا راك غادي تجبها في راسك، إلى خليتي الهم إخليك. ( أهل الناس جاءوا إلى هنا ليسكتوا، هنا ليس فيه إلا الكلام، وإلا فإن الصموت سيسبب عقابا لنفسه، إذا تركك الهم فاتركه)
طن طنين هذه الكلمات في ذهنه، ورأى أن مكانه قد لفظه، وموقعه قد نبا عنه، وتلوي فدوى عنقها إلى جهة سمير، وتقول:
- علاش هاد الغربة؟؟ راك بين حبابك، (لماذا تعيش غربة داخل هذا البحر المتلاطم؟؟ إنك بين أحبابك)
ويرد سمير،
- شكرا، أنا عارف فين أنا، أنا معا الناس لي بغاهم ليا خاطري، (شكرا، أنا أعرف في أي مكان أنا، أنا مع الذين أحبهم روحي)
يالها من مجاملة أضرجته في وحل على قفاه!!!
- واش هاذي أول مرة جتي لهنا؟؟ (أهل هذه أول مرة زرت فيها هذه المرابع؟؟)
- نعم.
هيا نتا مازالت ما عرفتي شحال كبيرة هاذ الغابة، (إذا أنت غر ما زلت لم تعرف شساعة هذه الغابة)-
واش عجبك الحال؟؟ (أهل أعجبك الموقع؟؟)
- ايوا مازالت ماشت والوا، (إنني ما زلت لم أر شيئا يثلج صدري)
- هانتا كتسمع لموسيقى، أو كاتشوف الدريارات على مزيناتهم بين عينيك.( ها أنت ذا تستمع إلى الموسيقى، والفتيات الأكثر بضاضة وجمالا بين عينيك)
- ماذا شفنا، واش بحال لي كايشوف، بحال حال لي كيتذوق، الشوف ما كيبرد الجوف.( كم رأينا!! لكن النظر سبب لمرحلة ثانية إسمها الذوق، أن تتذوق ما تنظر إليه، النظر لا يبرد غلة الصدر.)
- أها هيا لابد ما تحيد ليها القشرة باش تبان ليك، إلى كليتيها هكاك راه غادي تضرك. (آه، إذا لا بد من نزع غلالة القشرة عنها حتى تبدو بدون لحى، وإلا أكلتها بقشرتها، و أكلها مضر.)
- سمير، أنت في هذه الحياة، لن تحياها مرتين، إنني أراها هزيلة لا تسام بدرهم.فما فائدة عيشها من وراء قضبان العادة والعرف، كل ذلك مطلوب منك بأن تنزعه قبل دخولك إلى هنا، لينزاح همك، ولتجد سعادتك.
ولكن أليس لعملة الحياة وجه آخر سوى الفرح والسرور؟؟-
- بلى، لكن الحزن حياة بمقياس آخر، والفرح حياة بتقدير آخر، ونحن بينهما، فليس الفرح سبيلا متاحا دائما، وليس الحزن طريقا معبدا لا تخرج عن دائرته عجلات وجودنا، فكلاهما ليس ملازما لنا، معانقا دائما لمسار حياتنا.
ألا تستشعرين أن الفرح لحظة واحدة، فكل لحظة مرت تعقبها لحظات حزن تفسدها.
- الفرح صنع آدمي، والحزن وجه عبوس لمآسي الوجود.
- لكن الحزن حقيقة وجودية لا معدى من تبعاتها، نتذكرها كثيرا حينما تفيق عقولنا من لذة الفرح.
- فهذا يجعل أصل الحياة هو الشر، فالحزن هو الأصل، ولحظات الفرحة قليلة!!!وهي الاعتراض على القاعدة العامة، هذا تفكير آخر لا نتعلمه من هذه المدرسة، ولا أرى نفسي محرجة لأفكر الآن فيما يثير حزني وقرفي من الوجود.
- أنت بهذا الفهم يافدوى تكتمين بداخلك صوتا بحوحا لا بد أن يستغيث في يوم ما، وحين يعقل بحركات الوجود سيكون عذابا محرجا يجعلك تتألمين.
- أنا أعرف بأن الأنا الأعلى، والضمير القيمي موجود لدينا، لكننا أطفأنا وهجته حتى لا يكسر أجواء شعورنا باللذة، فالحياة لذة موجودة أو منتظرة، فمن العقل ألا نبحث كثيرا عن ما يقلق لذتنا، ويسعر لهيب مخلفات التنشئة الاجتماعية في أذهاننا، وهذا أمر لا بد من أجرأته حتى تبقى اللذة مقياسا للوجود.
- أهل تتصورين أن اللذة بمفهومها الحاضر لها هي اللذة الحقيقية؟؟
- لماذا هذا السؤال؟؟
لأن العلم بمقاييسه وحقائقه يؤكد رسوخ هذه القيم التي تشكل النمط الفكري، والنسق المجتمعي في عقل الإنسان، وهذا بوحده يجعلك لا تتكاملين في لذتك.
- سمير، هنا لذة لا تضارعها لذة، ففي الليل لا نبرح هذا المكان إلا بعد العثور على زبون جديد، وفي النهار ننام حتى يهل نجم ليل حديث، ثم ننتفض بخطى وئيدة إلى هنا، فهنا الندى بالمال، وهنا الجنس والشرب، وهنا السيادة والوجاهة، وهنا الحلم والأمل، أهل الوجاهة هنا، أهل المال هنا، أهل السياسة هنا، أهل الفكر هنا، ذلك الذي تراه بين عينيك أستاذ في كلية الأدب، وذلك الآخر الذي تراه يلحس أنامل تلك الفتاة مدرب فريق كروي، وذلك هو المغني الذي تسمع عنه، لن اقوله إلا في أذنك همسا..فكم من فتاة تبرقعت في الشارع كانت عابدة لتضاريس جسدها هنا!!! وكم من عجوز اشترت بعلها بمال هذا المقصف!!! فلا تستغرب يا سمير، إن العقلاء يوجدون هنا بكثرة كاثرة، وحين يصابون بجنون الصحو ينسون، فلا ترى لهم قلبا رحيما، ولا تحس لهم ببارقة عاطفة، فالخمر في مجمعنا، وعظ ترق به القلوب، وتزكو به النفوس، وترتاح إليه الأرواح، فهل ياسمير يعيش هؤلاء الذين يستبدلون العواهر بزوجات أبنائهم، وحلائل جيرانهم حالة صفاء وطهر؟؟ أم هؤلاء الذين يقسون على المجتمع بنظراتهم الإحتقارية؟؟
تعال يا سمير لتدخل إلى عالم الشهرة، والمال، والجنس، والشرب، رباعيات، أو ثلاثيات، أو ثنائيات، لا تنفصل في هذا العالم الجميل.
كلام معسول استثار قلبه، وطريقة تفتن في جذبه، لكنها لم تفلح فدوى في إزالة ما تغرب فيه وجهه من خجل وذهول، ولم تستطع أن تعكر بركته الساكنة بفضول نظراتها الممتصة لأحشائه، إنه يعرف أنها هنا لتأدية دور أنيط بها، فهل سيترك أوهامه ليتماوج مع الجسد الحر المتمدد على بساط اللذة؟؟أم سيبقى على سهومه التي أربك فدوى الفتاة الجامعية؟؟ أم يبني في نفسه سيرة ذاتية عن الأحراج المختبئة في صحراء الكتمان؟؟
غموض يطرح عندها سؤالا، لماذا جاء إلى هذا المكان؟؟ ..هذا المكان للشرب وسماع الموسيقى والقبل، وفي آخر الليل يتحدد المكان الذي ستنطلق إليه الذوات المحمومة، وهذا الشاب بوسامته ربما ليس من فراشات هذه الواحة.
فالوسامة لا تثير غدران الحب عند فتيات ارتحلن إلى سوق الجنس بعقلية اقتصادية لا تخنع إلا لمقاييس العرض والطلب...ونداوة الخلق، وطراوة الطبع لا تنتج إحساسا بالحنان يرضاه المتوسل بجسده عرضة للصيد والربح... والجسد بتصميمه المبالغ فيه، لم يقذف به هنا إلا لتأثيث هذا المرقص وتنشيطه، فمن الخواء الفكري أن يطالب سمير فدوى بقيم مشاكسة للقواعد التي أسست عليها هذه الحياة بمفازاتها الوعرة، وتضاريسها العسيرة، فكل لون، وكل فتاة، وكل لحن، وكل حركة، وكل موجود في هذا المربع من الكون، قد انطلق من جزيرة معينة، يحمل معه سرا وكمينا، ويضمر بداخله حقدا على أوضاع جعلته منديلا مشتركا، وخروقا مطروحة يجد فيها كل طيف حصة وظلا.
انطلقت فدوى في سباقها مع الوقت إلى منصة الرقص بعدما أيست من سمير، فتمايلت مترنحة بجسمها البض المكتنز الذي يحمل رموزا كثيرة تحتاج إلى من يفكها، اشتركت كل أعضائها في لعبة الرقص وكأنها أصيبت بجنون مطبق لا يلتئم فيه جزء مع آخر، قدمت ألوانا من الرقص الشرقي (البلدي)، وهتافات تناديها بوصلة من رقصة السولو، تراقصت مع مخنث معروف عند عباد هذا الوكر ب( كوكو) ، تثنت بجسمها كقطعة عجين ملتصقة به في حميمية خانعة، و إيقاعات الموسيقى والنغم، والأضواء تخفف من حدة المكان، وتعطي للروح متنفسا من الراحة، وعيون ممقوعة من اللهاث تفترسها، وذوات متشظية من وراء القضبان تتأملها، وصراخات من مسام هذه الأجسام تناديها،
مساحة شاسعة بين فدوى في تفتح أكمامها على كل منطقة ممنوعة، وبين سمير الذي يرى على قفصه البيولوجي قيدا يحجزه عن منازلة هذه اللذات، فهل الأصل فيه هذه اللذة المقموعة؟؟ أم مراعاته للواقع الذي يراه غلافا يستر تاريخا سريا لكل فرد من هؤلاء المنبثين بسراويل الجينز والتشورت، أو بالبنطلون الأسود، في جنبات هذا القصر البهي؟؟
أم ضموره لإحساس يواريه في قلبه ولا يريد الإفصاح عنه؟؟
لم يبرح سمير قعدته، وهو يتفرس الوجوه جيئة وذهابا... لم يهوله ما رأى من ذوي النفوذ من تهتك...ولم يرعه ما سمعه من حكايات تستر أكواما من الحزن غلف البؤس تضاريسها، وجعل من كل شخصية حكاية لا تبالي بما يقال عنه فضيلة، فهل هو فضيلة حقيقة؟؟ أم أوهام أخجلت الإنسان حتى لا يعيش إلا من وراء هذه الأقنعة البالية؟؟
لقد وعى بعض قواعد اللعبة، واستساغ أن يكتشف مجاهل هذه الملذات، وأن يقف على نهاية هذه الذوات، وأن لا يستسلم إلى آخر شبر منها، ولو أدى به ذلك إلى إهدار بعض دريهماته، والتنازل عن جزء من كبرياء غروره، تقدم بقربان نظرة إلى النادلة فهاله..... ما رأى... إحساس غريب يشعر به، فانكر من نفسه...أهل يوجد هذا بداخلي؟؟ إنه موجود ولكنه مصفد!!!فما حقيقتي إذا؟؟ أهل ما يراه مني غيري هو حقيقتي؟؟ أم تنتعش بداخلي فيروسات تنتظر تصريح العمل، لا أدري !!!
تقدمت النادلة بخطوات روتينية، لا يستريبها أحد، همست في أذنه، إنهن أفاعي، أجساد بدون عاطفة، بقع موبوءة، قطع من البارود ينتظر فتيلا يفجرها، حبال موصولة بالغواية يلسعن بالهوى، ويقدمن أشهى الحديث، وقد يظن أحد بأنه عثر على حظ من امرأة، فتنقلب في وجهه أفعى، تمتص دمه وروحه، وترميه في القمامة بدون أن يلوي على شيء.
لم يتكلم إلا بكلمة الشكر، إنه أحس بتفوق ثقافته، وسعة إطلاعه، وظن أن العقل الباطني شرس المقاومة لهجوم العاطفة الحمقاء.
فكر في كلماتها الرنانة، وصداه يخط آذانه، وصوتها المتهدج ينبث إلى أعماق روحه.
تكلمت بسذاجة وانسياب، فلم تشعر بضغط المكان، ولا بهزة الزمان، طينة أخرى لا تنتهي إلى هذا العالم، ربما غربتها في وطنها، أو إحساسها بضيق الأفق، أو هوانها أمام ضروريات الحياة، أو طيشها واستسلامها لنزوتها، أوحى لها بأن تستسلم لهذه العيون اللاهثة، والأيدي الغامزة، وفرض عليها أن تنافس أجسادا رصدت شهوتها وأنفاق جسدها للدعارة والجنس.
لم يشتغل بهذا الأمر كثيرا، وقد بدا له أن يتحرك في جهات المكان حتى يستحضر عددا كبيرا من المعلومات والانطباعات التي تؤهله للنجح في عمله، والفوز بحظه، تراقص للموسيقى، وانعطف مع الأجساد، وانتشى مع السكارى، ودعته سهى بطلب هاتفه الذي تسلمته منه، وودعته فدوى بحصولها على غريم أجنبي.
ويسدل الستار على الفصل الأول من الليلة الساهرة، لتتبدد الأجساد داخل هذا الفضاء إلى دهليز مظلم تتاقطعه أضواء خافتة، وموسيقى شعبية صاخبة، وكنبات مرصوصة على جنباته، وفي وسط المكان دائرة كبيرة غارقة بعشرين سنتيما عن سطح الأرض الملبطة بالرخام الأبيض، تصطك فيها الأجساد في صدمات كهرابئية يحس فيها الراقص بموجة نار تلهب عاطفته، وتحيله إلى كاسر يلتهم اللحم بشراهة واغتيال. وقد ترى هنا وجوها أخرى لم ير لها أثر في الحانة الأولى ومرقصها، تلاطف الأغراب والمعروفين بقوارص عيونها، وزواحف جسمها، تسعى أن تفوز بحصتها من الشراب والمبيت.
وينظر سمير إلى هذه الكواعب المترعة فتنة وإغواء، فتبتسم إحداهن له، وتتغافل عنه أخرى، وقد ترمقه أخرى بنظرة شزرى، تحكي من ورائها أنه شخص غير مرغوب فيه.
ولسان الحال يقول:
إننا في هذه الجزيرة لا نقدس إلا المال، ولا نعرف ضوء النهار وشياطينه، نهارنا يبتدأ مع غياب الشمس، ونهاركم يبرز مع ظهورها، فأنتم تعبدون نورها، ونحن نكره ضياءها، وأنتم ترون المال سبة وشنارا، ونحن نراه قوتا وحياة، وانتم تتحرجون من العري والخلاعة، ونحن نراه خفة وجمالا، وانتم ترون الأخلاق قاموسا، ونحن نراها قيدا وخجلا، شيطاننا لطيف، وشيطانكم فظ غليظ، فكيف نتناغم؟؟
أنا أنكر هذه المدينة، فمعرفتي بها محدودة، أعرفها بالنهار، ولا أرى فيها غضونا تحتاج إلى تأويل، وأمشي فيها بدون بطاقة هوية، وأتحرك في أسواقها ومقاهيها بدون خشية ولا ذعر، فلا أدري متى عاشت هذه المدينة هذه الرقاعة؟؟ ومتى تحولت إلى مومس تعهر بلا رقيب؟؟