أهمية مفهوم رعاية الطفولة :
منذ أن بدأت الجهود الصحية تتجه نحو الاهتمام بالأم الحامل بدأ مفهوم رعاية الطفولة يحتل المكانة العليا في مجتمعاتنا والمجتمعات كافة.
ومسألة العناية بالطفولة ليست جديدة العهد لأن الأقدمين اهتموا بالأطفال أيضاً ولكن بنسب متفاوتة وصغيرة الحجم باستنادهم على بعض الإشارات الواردة في كتب الأديان السماوية أو على نظريات بعض الفلاسفة أو المفكرين ، " وقد أكد أرسطو تلميذ أفلاطون الذي كان يرى أن الأطفال يولدون وعقولهم عبارة عن صفحة بيضاء ، وأن هناك فروقاً فردية بينهم، وأن التعليم والتدريب يجب أن يأخذ في اعتباره هذه الفروق ".
" والأستاذ فيليب أرييز يقول:" إن مصطلح الطفولة لم يكن معروفاً في العصور الوسطى بالمعنى الذي عليه الآن، بل إن معنى الطفولة قد أخذ في تلك الفترة معنى القصور وعدم القدرة، فالأطفال قاصرون ويستمر اعتبارهم قاصرين حتى بلوغهم سن السابعة، وبعد هذه السن يعتبر الأطفال وفقاً لمنظور العصور الوسطى راشدين أو كباراً وعليهم أن يندمجوا في عالم الكبار بكل ما يعني ذلك من عمل مضن وواجبات قاسية تفوق إمكانياتهم وقدراتهم .
ويصف الدوق السابع لمقاطعة شافتسبيري الذي عاش في أوائل القرن الثامن عشر ببريطانيا الأطفال في تلك الفترة بأنهم قد عاشوا ظروفاً صعبة للغاية وأن أطفالاً كانت تتراوح أعمارهم بين الخامسة والسادسة ذكوراً كانوا يعملون لعشر ساعات يومياً في حالات وظروف غاية في القسوة وفي منتهى الخطورة على صحة هؤلاء الأطفال ، وكان هؤلاء الأطفال غالبا ً ما يتعرضون للمرض وتزداد نسبة الوفيات بينهم.
أما الفئة من الأطفال الذين يتعرضون لظروف قاهرة تؤدي إلى فقدان من يرعاهم أو إعاقة أسرهم أو أحد والديهم أو عجز أولياء أمورهم عن رعايتهم،فإنهم يجدون أنفسهم في الشوارع دون من يمد لهم يد العون والرعاية وحتى الذين يتم إيوائهم بالملاجئ لم يكونوا يجدون العناية الكافية.
ويرى الأستاذ كيسين kessen في هذا الصدد أنه في القرن الثامن عشر ومن بين 10272طفلاً تمّ إيوائهم بإحدى الملاجئ عاش 45 طفلاً.
ولم يكن الأمر مقتصراً على أوروبا وحدها بل إنه في أمريكا في القرن التاسع عشر قد تعرضت الطفولة لمثل ما تعرضت له في أوروبا في القرن الثامن عشر من معاناة وحرمان وإساءة معاملة وانتشار الأمراض بين فئة من الأطفال.
وخير دليل على ذلك ما رواه باكوين bakwin من أن الأطفال في تلك الفترة لا تتوفر لديهم الأغذية الجيدة وأن معظم الأطفال لا تتوفر لهم العناية والرعاية اللازمة وغالباً ما يموتون قبل أن يصلوا الثانية من عمرهم.
أما رعاية الطفولة والعناية بها في المجتمعات العربية الإسلامية فقد وجدت الأساس الديني والاجتماعي الذي تقوم عليه والذي يعطيها أهمية خاصة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالعطف على الأطفال وحبهم ويحث على وجوب معاملتهم بالشفقة والرحمة واللين فقال صلى الله عليه وسلم" ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا" وللرسول الكريم أحاديث كثيرة تركز على أهمية لعب الأطفال وفهم طبيعتهم وطريقة تربيتهم حيث يقول "علّموا ولا تعنفوا فإن المعلم خيرٌ من المعنف".
هذا من حيث الأساس الديني متمثلاً في أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في أهمية رعاية الطفولة وكيفية تربية الأطفال والتي تستمد جذورها من القرآن الكريم الذي أوضح في آيات متعددة بعض مراحل الطفولة منذ بداية الإخصاب، وأوضح حقوق الأطفال وحدد مراحل التكليف وتحمل المسؤولية ونصيب الأطفال في الإرث وأهمية معاملة الأطفال اليتامى باللطف والمحافظة على أموالهم حتى يبلغوا أشدهم حيث قال تعالى
* ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن* واعتبر القرآن الكريم الأطفال زينة الحياة الدنيا حيث قال الله تعالى في كتابه العزيز * المال والبنون زينة الحياة الدنيا* واعتبر القرآن أن رعاية الوالدين لأولادهما وتربيتهم مبررٌ ملزمٌ للمولود أن يطيع والديه حيث يطالب الأبناء باحترام آباءهم وطاعتهم وحسن معاملتهم حيث قال في كتابه العزيز* و لا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً*
فابن خلدون مثلاً ينادي بمبدأ مراعاة المراحل في نمو الطفل وتعليمه وتربيته وذلك في إطار قانون الأطوار الثلاثة، ويرى طبقاً لذلك أن تعليم الطفل ينبغي أن يستند على مبدأ التدرج حيث يقول في مقدمته "إن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدرج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً".
أما أبو حامد الغزالي فيركز على مسؤولية وأهمية دور الأبوين في تربية وتنشئة أطفالهم فيقول في هذا "إن الصبي أمانة في عنق والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفسية خالية من كلّ نقش ومائل إلى كل ما يمال إليه ، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيّم والولي عليه.." ويعكس هذا الرأي أهمية خاصة حيث يمكن مقارنته برأي بعض علماء النفس الاجتماعيين والسلوكيين الذين يعتبرون تصرفات ومواقف الإنسان وملامح شخصيته هي انعكاسات لمراحل التعليم والتربية والتنشئة الاجتماعية .
أما ابن سينا فقد ركز في اهتمامه بالطفولة على تعويد الطفل وتعليمه الأخلاق والسلوك الحسن ويرى ضرورة ابتداء مراحل تعليم وتدريب الطفل منذ الفطام حتى لا تترسخ في سلوكه ونفسه الأخلاق والعادات الذميمة ، ويحدد ابن سينا الأساس الذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند بداية تعليم الطفل ويرى إنه لا يرتبط فقط بقياس العمر الزمني للطفل بل يَعتبرُ النمو الجسمي والقدرة على الكلام والتركيز الذهني معايير أساسية لبداية تعليم الطفل حيث يقول " إذا اشتدت مفاصل الصبي واستوى لسانه وتهيأ للتلقين ووعى سمعه أخذ يتعلم القرآن وصورت له حروف الهجاء ولقن معالم الدين" إضافة إلى ذلك الكثير من الكتابات والمؤلفات والتراجم لموضوعات وبحوث لها علاقة بتربية ورعاية الأطفال مستمدة جذورها من البيئة الإسلامية العربية ومستفيدة من الجهود العلمية في هذا الميدان.
أما جهود جان بياجيه jean piaget في مجال دراسة النمو المعرفي للأطفال فقد أسهمت بجزءٍ هامٍ في فهم جانب حيوي وهام من حياة الطفل وساعدت على بذل الكثير من الجهود ووضع الكثير من البرامج لرعاية الطفولة في مجال الاحتياج المعرفي وفي مجال رعاية الطفولة بصورة عامة.
وتعتبر جهود هؤلاء العلماء شموعاً مضيئة في مجال الاهتمام بالطفولة ورعايتها وأيضاً فإن هذه الآراء والجهود في مجال فهم الطفل والتعرف على احتياجاته ليست هي الوحيدة من نوعها ولكن تشعبت الآراء والنظريات في مجال الاهتمام بالطفل ورعايته .
ومع هذه الحركة من التطور العلمي في مجال رعاية الطفل وفهم طبيعة احتياجاته وإذ تعقدت الحياة وتشعبت الاحتياجات والتخصصات فقد زاد تبعاً لذلك الاحتياج إلى العناصر البشرية المعدة إعداداً جيداً لخدمة المجتمع والنهوض به ، وقد قابل كل هذه الجهود والنداءات والبرامج الخاصة بالعناية بالطفل ورعايته صدور الإعلان العالمي لحقوق الطفل". كتاب المدخل لرعاية الطفولة ( دراسة نظرية عن أسس ومبادئ رعاية الطفولة ، عبد السلام بشير الدويبي من ص/24 ... ص/ 36 ) .
- ما هو الإعلان العالمي لحقوق الطفل:
"صدر هذا الإعلان العالمي لحقوق الطفل في منتصف القرن العشرين وبالتحديد في شهر نوفمبر 1959م، وقد تضمن مبادئ عامة أقرها المجتمع العالمي كقاعدة أساسية لرعاية الطفولة والاهتمام بها، وقد احتوى هذا الإعلان على عشرة مبادئ تعكس أبعاداً هامة في حياة الطفل ونستعرض بعض هذه المبادئ حتى يمكن مقارنة أهميتها في إطار الصورة التي كانت عليها رعاية الطفولة في العصور الوسطى وما قبلها.
نص المبدأ الأول "بأن يتمتع الطفل بالحقوق التي يشتمل عليها هذا الإعلان دون أية تفرقة أو ميز عنصري بسبب الجنس أو اللون أو اللغة أو الدين أو المعتقدات وغيرها من الأسباب الاجتماعية أو العرقية أو بسبب الثروة أو المولد".
المبدأ الثاني " أن يتمتع الطفل بحماية خاصة كما يمنح الفرص والتسهيلات بواسطة القانون وبالوسائل الأخرى لكي يتمكن من النمو جسمانياً وعقلياً وخلقياً وروحياً واجتماعياً بطريقة صحية وعادية وفي جو من الحرية والكرامة، ويراعى عند تنفيذ القوانين الخاصة التي تحقق هذا الهدف أن تؤخذ مصالح الأطفال في الاعتبار الأول".
المبدأ الثالث: "من حق الطفل ساعة أن يولد أن يكون له اسم وجنسية".
المبدأ الرابع: " للطفل الحق في توفر الأمن الاجتماعي وفي أن ينمو في صحة جيدة وأن تتوفر له ولأمه الرعاية والحماية بما في ذلك الرعاية في مرحلة ما قبل الولادة وما بعدها . كما أن للطفل الحق في الغذاء والسكن والترفيه والخدمات الطبية المناسبة".
المبدأ الخامس: " توفير الرعاية الضرورية للطفل المعاق جسمياً أو ذهنياً أو اجتماعياً والعلاج والتعليم التي تستلزمه حالته الخاصة".
المبدأ السادس: أكد على أن الطفل " يحتاج لبناء شخصيته بطريقة متكاملة إلى الحب والفهم ومن حقه كلما أمكن ذلك أن ينمو في ظل رعاية أبوية وتحت مسؤوليتهما، وأن ينمو في جو من الحنان والأمان المادي والمعنوي ولا يفصل الطفل الصغير عن أمه إلا في الحالات الاستثنائية ومن واجب المجتمع والسلطات المسؤولة أن تشمل بالرعاية الأطفال الذين لا عائل لهم ومن لا يملكون وسائل كافية لإعالة أنفسهم".
وهكذا يتدرج الإعلان العالمي لحقوق الطفل ليشمل مبادئ إلزامية التعليم بما يحقق صالح الطفل ومستهدفات المجتمع كما نص على ذلك المبدأ السابع. المصدر السابق / ص 37 حتى41.
ولكن لماذا لم تستطع الجهات المعنية بالمسؤولية تحقيق هذه المبادئ بشكلها المطلوب؟
يتعلق الجواب بالواقع البيئي ومشكلاته.
المشكلات البيئية:
لابدّ لنا من أن نستعرض واقع النمو السكاني في العالم فقد شهد ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تغيراً كبيراً لأن التطور الذي شهدته الرعاية الصحية وصناعة الدواء جنباً إلى جنب مع برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى انخفاض مطرد في معدلات الوفيات مع بقاء معدلات المواليد المرتفعة في معظم بلاد العالم ، الأمر الذي ترتب عليه اتساع الهوة بين المواليد والوفيات وبالتالي ارتفاع معدلات الزيادة الطبيعية، ونتيجة لذلك ارتفع عدد سكان العالم إلى ثلاثة مليارات في عام 1960 ، وإلى أربعة مليارات في عام 1974، وإلى خمسة مليارات في عام 1987، وقد وصل الرقم حالياً إلى 5,9 ( 1998). كتاب التربية السكانية في التعليم ما قبل الجامعي في الجمهورية العربية السورية( ص12).
إن هذا التزايد السكاني السريع على كوكب الأرض يعني زيادة الضغط على موارد البيئة المحدودة للكرة الأرضية، وكذلك تزايد السكان السريع على المستوى الإقليمي أو المحلي أو على مستوى الدولة الواحدة، يعني زيادة الضغط على البيئة المحيطة ، وقد يؤدي إلى استنزاف مواردها وتدهورها .
إن ظاهرة تجمع الأعداد الكبيرة من الناس في المدن وعلى أطرافها تخلق شروطاً حياتية صعبة ، لا تتوافر فيها الشروط الصحية المناسبة مما تشكل مصدراً هاماً من مصادر تلوث البيئة، وتساهم وسائط النقل العديدة في المدن ووسائل التدفئة وغازات المعامل في طرح كميات كبيرة من غاز ثاني أوكسيد الكربون ، وثاني أوكسيد الكبريت، وأول أوكسيد الكربون السام في تلوث هواء المدن ، مما يعرض السكان إلى أمراض بيئية خطيرة مثل ضيق التنفس وتهيج العيون،وسرعة ضربات القلب وبعض الأمراض السرطانية...إلخ ( ص،29) المصدر السابق.
مما سبق ذكره واستعراضه لا يخرج عن نطاق عملية التربية والتعليم "فنحن نعلم أن التعليم الحديث عندما دخل بعض الأقطار العربية في أواخر القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين كان مجرد تقليد في بداية أمره لبعض النظم التعليمية الغربية،ومن أبرز هذه النظم الغربية التي كان لها تأثيرها في النظم التعليمية الغربية النظام الفرنسي بالنسبة لأقطار المغرب العربي وبعض أقطار المشرق كسوريا ولبنان، والنظام الإسباني في بعض أجزاء المغرب العربي التي كانت خاضعة للحكم الأسباني، وكان النظام الإيطالي من نصيب ليبيا والصومال .
وبالإضافة إلى قلة ما كان عليه تعليم أبناء العرب في عهد الاستعمار من قلة ومحدودية في الفرص ، فإن مناهجه كانت ضيقة وضعيفة في محتوياتها، مستوردة في مجموعها، تشغل بال الطالب العربي بكثير مما لا يتصل ببيئته ولا يخص وطنه العربي، والمتتبع لتطور التعليم في الأقطار العربية بعد نيل استقلالها يدرك مدى الإيمان القوي لدى المواطنين والمسؤولين العرب بقيمة التعليم وأهميته في رفع مستوى أفراد المجتمع وجماعاته ومدى التضحية الكبيرة التي تبذلها الأقطار العربية من دخولها وميزانياتها للصرف على التعليم"، الاتجاهات الحديثة في مفهوم التربية / ص،10و11،الدكتور عمر محمد التومي الشيباني.