أعادني العدوان الصهيوني الغاشم علي لبنان لقصَّة كتبتها إبَّان عدوانه السابق في الثمانينيات وكنت في البدايات من حيث الكتابة والنشر ، ونشرها الأديب الراحل " محسن الخياط " في صحيفة الجمهورية عام 1985 م .. وكتب لها مقدمة تقول :
( أحداث لبنان تشغل حيزاً كبيراً من اهتمام المواطن العربي ، فهو لا يرى تلك الأحداث بعيداً عن مأساة فلسطين وأزمة الشرق الأوسط .. وانفعال الأديب المصري بها ينبع من إدراكه أن الوطن العربي جسم واحد يتأثر أي عضو فيه بأي جرح يصيب الجسم .
ومن هذه الحقيقة ولدت هذه المعالجة الجيدة التي يقدمها لنا في قصة أديب فاقوس محمد عبد الله الهادي )
.. قصة أهديتها آنئذ لروح أول استشهادية لبنانية ضد المحتل ( سناء محيدلي ) التي مشي علي خطاها بطلات أخريات ليس في لبنان فقط بل في فلسطين والعراق .
تحية لنضال الشعب اللبناني الذي يتعرض الآن لوحشية وهمجية النازيين الجدد .
* * *
قصة قصيرة
لوحــــة من الجنـــــــوب
بقلم
محمـــد عبـــد الله الهـــــادي
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
مهداة إلي سناء محيدلي
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
ـ " كيف تبدع هذا العمل الكبير ، وتعجز عن إيجاد اللمسة الأخيرة له ؟! "
قالت زوجتي ذلك .. لكن لا مجيب ..
أرهقها الانتظار جانبي ، ألقت جسدها علي المقعد ، طوحت رأسها للخف ، بدت الكلمات بمدلولاتها الكثيرة ، كشخوص هلامية عاجزة عن التعبير الصحيح ، كنت قد نسيت نفسي تمـاماً ..
سويعات طـوال .. طـوال ..
لا أدري كم من الوقت مضى ؟ ما هو الزمن ؟ ما هو المعنى لأن أكون الآن صبحاً أو مسـاءاً ؟ ..
أمامي تماماً كانت اللوحة المستطيلة المرشوقة بعرض الحائط ، وكانت الفرشاة بين أناملي مرشوقة في معجون الألوان ..
سويعات طـوال .. طـوال ..
ضنَّت الفرشاة باللمسة الأخيرة علي وجه اللوحة ، كي تكتمل معالمها ، وتصير بناءً فنياً صـادقاً ..
سويعات طـوال .. طـوال ، وأنا أحدق في وجهها ، عجزتْ الفرشاة ، تسربت الألوان من بين شعيراتها كما يتسرب الماء بين أناملي ، بدت النهاية مبهرة ، متوهجة ، أراها رؤية العين ، لا أدركهـا ..
سويعات طـوال .. طـوال ، بين الصمت والسكون ..
غفت زوجتي علي المقعـد ، أغمضت عينيها ، لا أسمع سوى همس أنفاسها الرتيبة ، ولا أرى سوى وجهها الذي ينعم بالهـدوء والطيـبة ..
عدت أحدق في اللوحة ، الوجوه الجميلة ، نسوة يرتدين أردية بيضاء ، أغطية الرأس ناصعة ، كن يصرخن بصوت واحد خلف الشهداء :
" الله أكـــــبر .. الله أكــــــبر "
من بين شجيرات الأرز والتفاح أطلَّتْ ، شابة في عمر زهرة ، وجه جميل تحت قبعة حمراء ، هممتُ برفع يدي بالفرشاة ، عجزتْ ، انغمستْ في بطن اللون ، انكفأتْ ، همدتْ ..
رشفتُ آخر قطرة من فنجان القهوة العربي البــارد ..
المجنزرات الحديدية السوداء وحوش شرسة ، المحتلُّون في جوفها ، تمضي بذعر ، تقتحم القرية ، تتفجر البيوت ، تتناثر الشظايا ، أكاد أسمع أنين العجائز والأطفال والنسوة تحت الأنقاض ، أطلت بوجهها الجميل ، نفضتْ التراب ، أسرعتُ بغمس الفرشاة في اللون ، ثبتُّها في قلب الذاكرة ، رفعت يدي ، لكنها فرَّتْ ، سقطتْ يدي ..
أشعلت سيجارةً ، أخذتُ نفساً عميقاً ، تلافيف الدخان تصنع دوائر بلا نهاية ، حلقات مفرغة لصراع السنَّة ، الشيعة ، الكتائب ، الدروز ، المرابطون .. ، تتصاعد ، تتلاشى ..
من جوف السـجن ، خلف سواد القضبان ، يُضربون بالعصي ، بالأسلاك الكهربائية ، يُسحلون علي الأرض ، يطأ المحتلون أجسادهم بالأحذية الثقيلة ، نزفتْ جروحهم ، لم تندمل ، فاضتْ أرواح .. من بين القضبان أطلَّتْ بوجهها الجميل ، أمسكتُ بها ، أمسكتُ بالفرشاة ، فرَّتْ منِّي ، كادت السيجارة أن تحرق أناملي ، ألقيتها في المنفضـة ..
سويعات طوال .. طوال ، رحتُ أحدِّقُ في الألوان ، أغوص في كينونتها ، كيف أعثر عليها وسط هذا المزيج .. لكنها ركبتْ سيَّارة ، ضغطتْ علي البنزين ، اقتربتْ من قافلة العـدو ، دبابات ، مصفحات ، عربات نقل ، محتلون بعيون شرهة وقلوب مذعورة ، اقتربت ..
" لقـد قررت الفداء بنفسي "
موسيقى صاخبة تنطلق من مذيـاع العـربة ..
" لقد شاهدت مأساة الاحتلال .. قتل الأطفال والنساء والشيوخ "
شمس الصباح تطل من علٍ ، أرخت شعورها الذهبية ، ، ضحكتْ بصفـاء ..
" روحي وأرواح الشهداء تفجر زلزالاً علي رءوس الأعداء "
ابتسم وجهها الصـبوح ..
" هذا عرسي زفافي يا أمي "
اقتربت ، بذلة خضراء ، قبعة حمراء ، قلب أبيض ، نبضات حب الأرض ، اقترب جنديان وتضاحكا ، ابتسمت ، صاح الثالث محـذراً ، ضغطت علي الزناد ، تفجَّرتْ السيارة في جـوف القافلـة ...
غمست الفرشاة بقوَّة في اللــون ، وصرختُ بأعلى صوتي :
" وجدتها .. وجدتها .. سناء محيدلي .. وجدتها .. "
أفاقتْ زوجتي مذعورة ، انتفضتْ واقفةً ، بسملتْ ، كبَّرتْ ، بينما كنتُ منكباً علي وضع اللمسة الأخيرة لوجهها ، بمزيج من لون الدم وتراب الأرض وضـوء الفجـر الآتي .
ـــــــــــــ