أنا وهبيد
الحلقة الأولى
في ليلة اكتمال البدر ذهبت إلى الوادي كعادتي، لأستمع لذلك النشيد ، نشيد ذلك المجهول.
لكنني ليلتها لم أستمع لأي نشيد، فكل ما سمعته هو أنين متقطع.
تتبعت ذلك الصوت فوجدت رجلاً ملقىً على الأرض، وجراح جسده تثعب دماً، وذئب بجانبه مقتول، فأقبلت على ذلك الجريح فأسندته إلي وأشربته من زوادة ماء كانت معي.
ثم عمدت إلى راحلتي فأنزلت منها ثوباً أبيضاً ، وجعلت أقطعه إلى قطع وأضمد بها جروح ذلك الغريب.
ومكثت ليالي وأياما أداويه حتى تحسنت حاله، وانطلق لسانه، فكان أول ما نطق به : الحمد لله ، بارك الله فيك يا أخي
فأجبته : وفيك بارك ، وجعل بلاءك كفارة عنك
ثم سألني عن اسمي فأخبرته ، فأخبرني أنه هبيد الشاعر وأنه هو من ينشد من سنين، فسألته أن يسمعني من شعره فأنشأ يقول :
طاف الخيال علينا ليلة الوادي
.................................... من آل سلمى ولم يلمم بميعادِ
أنى اهتديت إلى من طال ليلهم
...................................... في سبسبٍ ذا دكداكٍ وأعقادِ
يكلفون فلاها كل يعملةٍ
................................. مثل المهاة، إذا ما حثـّها الهادي
أبلِغ أبا كربٍ عنه وأسرته
.................................... قولا سيذهب غورا بعد إنجادِ
لا أعرفنـّـك بعد اليوم تندبني
.................................... وفي حياتي ما زودتني زادي
أما حِمامك يوما أنت مدركه
....................................... لا حاضرٌ مفلت منه ولا بادِ
فصبرت عليه حتى انتهى ، فهتفت به إنه هذا لشعر عبيد بن الأبرص.
فضحك وقال وما عبيد لولا هبيد، ثم أنشأ يقول :
أنا ابن الصلادم أدعى الهبيد
...................... حبوت القوافيَ قرميْ أسدْ
عبيدا حبوت بمأثورة
...................... وأنطقت بشرا على غير كدْ
ولاقي بمدركِ رهط الكميت
....................... ملاذا عزيزا ومجدا وجدْ
منحناهم الشعر عن قدرة
....................... فهل تشكر اليوم هذا معدْ
فوقع في خاطري أنه من الجان، فسألته بالله إن كان من الجان أن يخبرني
فقال : أنا هبيد الجني .
فقلت له : فمن أشعر العرب فقال :إمرؤ القيس.
ثم أطرق لحظة فقال : أحببت أن أسألك عن أمر أهمني؟
فقلت : سل عما بدا لك .
فقال : سمعت أن جماعة من أهل الفكر والأدب، قد أنشأوا رابطةً لهم، فأحاطوها بطيب فكرهم ، وزينوها بصالح شعرهم ، وهذبوها برائع نثرهم ، العمري سمير كبيرهم فهل سمعت بهم.
فقلت : على الخبير وقعت ، فأنا منهم إنها رابطة الواحة الثقافية.
فهتف متحمساً : أجل إنها هي يرحمك الله، فهلاّ أنشدتني من شعر كبيرهم العمري؟ فأنطلقت أنشد:
الحُزْنُ يَكْتُبُ فِي قَلْبِـي وَيخْتَصِـمُ
فَكَيْفَ تَخْذُلُ حَرْفِـي أَيُّهَـا القَلَـمُ
لَقَدْ كَتَبْتَ وَمُـوْقُ القَلْـبِ نَاضِبَـةٌ
فَكَيْفَ تَصْمُتُ عَجْـزَاً وَالمِـدَادُ دَمُ
أُكْتُبْ وَسَطِّرْ وَفَجِّـرْ كُـلَّ قَافِيَـةٍ
وَابْذِلْ دُمُوْعَكَ مَا لا تَبْـذُلُ الدِّيَـمُ
الدَّمْعُ يَسْفَحُ مَـا أُخْفِـي فَيُغْرِقُنِـي
وَالنَّارُ تَلْفَحُ فِي صَدْرِي وَتَضْطَـرِمُ
وَالوَجْدُ يَخْفِقُ فِي الوُجْدَانِ لا جَزَعَاً
لَكِنَّمَـا غَضَبَـاً أَنْ تَعْجَـزَ الهِمَـمُ
أُكْتُبْ فَإِنَّ مُصَابِي اليَـوْمَ ذُوْ جَلَـلٍ
تَكَادُ مِنْ هَوْلِـهِ الأَرْكَـانُ تَنْقَصِـمُ
غَابَ السِّرَاجُ وَمَا غَابَ الضِّيَاءُ بِهِ
وَأَظْلَمَ البَّدْرُ لَـمْ يَشْفَـعْ لَـهُ تَمَـمُ
وَأَجْفَلَ الفَجْـرُ أَنْ تُنْعَـى بِغُرَّتِـهِ
شَمْسُ الوُجُوْدِ وَأَنْ تَسْتَبْشِرَ الرَّخَـمُ
قَضَى الإِمَامُ شَهِيْدَاً فَاحْتَفَتْ زُحَـلٌ
بِمَا أَصَابَ وَبُشَّـتْ لِلنَّـدَى النُّجُـمُ
وَأَقْبَلَتْ مِنْ جِنَـانِ الخُلْـدِ عَابِقَـةٌ
مِنَ النَّسِيْمِ تَحُفُّ الرُّوْحَ ، وَالسَّلَـمُ
وَأَشْرَقَ الوَجْهُ فِي طُهْرٍ وَفِي جَـذَلٍ
كَأَنَّهُ مِـنْ سَنَـاءِ النُّـوْرِ يَبْتَسِـمُ
أَبَـا مُحَمَّـدِ إِنَّ النَّفْـسَ مُطْرِقَـةٌ
وَالعَيْنُ تَدْمَـعُ وَالأَحْـزَانُ تَحْتَـدِمُ
أَبَـا مُحَمَّـدِ لا غَابَـتْ شُمُوْسُكُـمُ
عَنِ القُلُوْبِ وَلا أَوْهَي بِهَـا الأَلَـمُ
عَلَى فِرَاقِكَ فَلْيَبْـكِ الرِّجَـالُ دَمَـاً
وَلْيُطْرِقِ الكَوْنُ وَلْيُسْتَنْطَـقِ البُكُـمُ
أَيَـا سَمِـيَّ رَسُـوْلِ اللهِ تَهْنِـئَـةً
نُلْتَ المُرَامَ وَنَالُوْا الخُسْرَ وَانْهَزَمُوْا
رُمْتَ الشَّهَادَةَ يَا شَيْخِي فَفُزْتَ بِهَـا
وَمَـا لِمِثْلِـكَ إِلا الفُـوْزُ وَالكَـرَمُ
أَقْسَمْـتَ بِاللهِ أَنْ تَحْيَـا بِمَنْهَجِـهِ
حُـرَّاً أَبِيَّـاً فَتَـمَّ العَهْـدُ وَالقَسَـمُ
وَكَـمْ تَمَنَّيْـتَ رُضْوَانَـاً وَمَغْفِـرَةً
فَاهْنَأْ بِصُحْبَةِ مَنْ فِي قُرْبِهِـمْ نِعَـمُ
يَا شَيْخُ أَحْمَدُ طِبْ نَفْسَاً فَقَدْ غَرَسَتْ
يَدَاكَ مِنْ ثَمَرَاتِ العِزِّ مَـا طَعِمُـوْا
فَكُنْتَ أَنْصَعَ نِبْرَاسٍ لِمَـنْ جَهِلُـوْا
وَكُنْتَ أَسْطَعَ مِقْيَاسٍ لِمَـنْ عَلِمُـوْا
وَكُنْتَ خَيْرَاً عَلَى الكُرْسِيِّ مِنْ نُجُبٍ
مِنَ الرِّجَالِ وَمَنْ تَسْعَى بِهُـمْ قَـدَمُ
كَمِثْلِ عَزْمِكَ مَا قَدْ أَبْصَرَتْ مُقَلِـي
وَمِنْ طِرَازِكَ لَمَّـا تُنْجِـبِ الأُمَـمُ
وَمَا لِجُهْـدِكَ نِـدٌّ يَـا جَـوَادَ يَـدٍ
وَمَـا لِوَصْفِـكَ إِلا أَنَّـكَ الـهَـرَمُ
وَفَاجِرٌ مَـدَّهُ فِـي غِيِّـهِ صَلَـفٌ
حَتَّى تَطَـاوَلَ فِـي آلاتِـهِ العَـدَمُ
يُرِيْدُ حَتْفَكَ مَا أَغْبَـاهُ مِـنْ نَجِـسٍ
وَكَيْفَ يَرْشُدُ مَنْ تَسْتَحْقِـرُ البُهُـمُ
وَكَيْفَ يَعْلَمُ هَـذَا المُمْتَـرِي سَفَهَـاً
أَنَّ الشَّهَادَةَ تُحْيِي وَالـرَّدَى يَصِـمُ
مَا مُتَّ فِيْنَا وَمَاتَ الجُلُّ مِنْ وَجَـلٍ
بَلْ زِدْتَ قَدْرَاً وَزَادَ العَزْمُ وَالشَّمَـمُ
قَدْ عِشْتَ رَمْزَاً لأَهْلِ العِزِّ قَاطِبَـةً
وَقَدْ قَضَيْتَ وَأَنْتَ الرَّمْـزُ وَالعَلَـمُ
لَئِنْ تَصَرَّمَ عَهْـدٌ وَانْقَضَـى أَجَـلٌ
فَإِنَّ عَهْـدَكَ فِيْنَـا لَيْـسَ يَنْصَـرِمُ
وَلَيْسَ يُجْحَدُ عِنْدَ النَّـاسِ قَدْرُكُـمُ
وَلَيْسَ تُنْكَرُ عِنْـدَ الخَالِـقِ الهِمَـمُ
أُسْدَ الكَتَائِبِ هِـذَا اليَـوْمُ يَوْمُكُـمُ
اشْفُوْا الصُّدُوْرَ فَـإِنَّ الحُـرَّ يَنْتَقِـمُ
هَذَا المُؤَسِّسُ قَـدْ غَالتْـهُ شِرْذِمَـةٌ
مِنَ القُـرُوْدِ وَغِيْلَـتْ قَبْلَـهُ القِيَـمُ
وَالفَاجِرُ الغَرُّ مَزْهُوٌّ بِمَـا اقْتَرَفَـتْ
مِنْهُ اليَدَانِ سَيَزْهُـوْ فِيْهُمَـا النَّـدَمُ
دُكُّوُا العَدُوَّ وَهُزُّوْا الأَرْضَ تَحْتَهُـمُ
لا تَنْثَنُوْا وَجَـلاً فَالخَاسِـرُوْنَ هُـمُ
وَأَطْلِقُوْا مِنْ شَدِيْدِ البَّأْسِ عَاصِفَـةً
تَأْتِي عَلَيْهِمْ جَمِيْعَـاً إِنَّهُـمْ ظَلَمُـوْا
لا يَعْدِلُ الثَّأْرَ فِـي يَاسِيْـنَ كُلُّهُـمُ
هَلْ يَسْتَوِي كُلُّ دُوْدِ الأَرْضِ وَالحَرَمُ
وَإِنَّمَـا الثَّـأْرُ لِلْكُرْسِـيِّ فَانْتَقِمُـوْا
وَلْيَصْدُقُ الفِعْلُ فِيْكُمْ مَا يَقُـوْلُ فَـمُ
تَمْضِي حَمَاسُ عَلَى آثَـارِ قَائِدِهَـا
وَتَسْتَمِرُّ بِهَـا فِـي كَفِّهَـا اللُّجُـمُ
الخَيْلُ تَرْكُـضُ وَالقَسَّـامُ فَارِسُهَـا
وَالسَّيْفُ يَرْدَعُ مَنْ لا يَرْدَعُ الكَلِـمُ
دَمُ الشَّهِيْـدِ يَخُـطُّ اليَـوْمَ مَرْحَلَـةً
مِنْ الجِهَادِ وَفَصْـلاً حَـدُّهُ الخَـذَمُ
يَا مَنْ تَغَـارُ وَيَـا أَحْـرَارَ أُمَّتِنَـا
عُوْدُوْا إِلَى الحَقِّ إِنَّ الحَقَّ عِزُّكُـمُ
القُدْسُ تَهْتِفُ وَالأَقْصَى يَصِيْحُ بِكُـمْ
وَالطِّفْلُ يُسْمِعُ مَنْ فِي أُذْنِـهِ صَمَـمُ
لا يَبْلُغُ المَجْدَ مَنْ يَخْشَى مَـوَارِدَهُ
وَلا يَنَالُ العُـلا المُسْتَهْتِـرُ القَـزَمُ
لَيْتَ الذِّيْنَ بِدَعْوَى السِّلْمِ فِي خَتَـلٌٍ
تَعُوْدُ عَنْهُ وَدَعْـوَى العِـزِّ تَلْتَـزِمُ
مَا كَانَ أَخْلَقَكُمْ أَنْ تَنْصُرُوْا وَطَنَـاً
عَاثَ العَدُوُّ بِهِ وَاسْتَفْحَـلَ الوَخَـمُ
لا كَالمَشَايِخِ فِي البَلْوَى وَقَدْ بَطِنُـوْا
شَلُّوْا اللِسَانَ وَصَمُّوْا سَمْعَهُمْ وَعَمُوْا
وَقَـادَةَ الـذُّلِّ كَالأَصْنَـامِ خَائِـرَةٌ
لَوْ كَانَ يَغْضَبُ مِنْ إِذْلالِهِ الصَّنَـمُ
يَسْتَعْصِمُوْنَ بِأَمْرِيْكَا وَمَـا عَلِمُـوْا
أَنَّا بِحَبْـلِ إِلَـهِ الكَـوْنِ نَعْتَصِـمُ
وَأَنَّنَـا كَالبُـزَاةِ الصِّيْـدِ مَطْعَمُنَـا
أَعْلَى الجِبَالِ فَلا غَـثٌّ وَلا رَمَـمُ
هُمَا الجَنَاحَانِ فِي الآفَـاقِ تَرْفَعُنَـا
وَهَلْ سَيَرْفَـعُ إِلا الدِّيْـنُ وَالشِّيَـمُ
فلما انتهيت ألتفت إليه فإذا عيناه تدمعان ، وقد آثر الراحة بعد أن قال : رحم الله الشيخ فقد كان أمةً وحده، وقد تاق بدني للراحة فهل تأذن لي في النوم وغداً بإذن الله نكمل.
فغطيته وسللت سيفي حارساً له كفعلي من ليلة ألفيته جريحاً .