ثلج .. ثلج
حنان الاغا
كنت قد قررتُ النوم مبكرا هذا المساء ، فأطفأتُ كل المصابيح الكهربائية ، وأغلقتُ جميع النوافذ ، وأسدلتُ الستائر الرمادية الموردة بألوان الحديقة.
هي من اختارت هذا اللون .. ضحكت في نفسي
عندما فكرتُ بأنها لو سمعتْ كلمة لون في هذا السياق ، فستنبري شارحة لي أن الرماديّ ليس لونا !
على أي حال ، لم أكن أحب الرماديّ لأنه ينتسب إلى الرماد ، والرماد حياد .. إلا أنها كانت ستقول أن الرماد هو نحن !
اقترحتُ عليها أن تكون الستائر إما قاتمة مورَدة أو فاتحة مورَدة ، إلا أنها أقنعتني أن غرفة النوم تحتاج إلى الانسجام والتناغم لا للتباين والتضاد ، فاقتنعتُ بالحياد .
تنبهتُ إلى أن الظلام يعم المكان ، ولا من ضوء إلا ما يخترق قماش الستائر من وميض البرق. الليلة عاصفة ، ومطر خفيف كالرذاذ ، أو كالإبر الرفيعة يهمي بصمت ، ويجف بعضه بفعل الريح القوية ،قبل وصوله إلى الأرض . فشل الرعد والبرق في استمطار المزيد من ماء السماء .. ربما أبلغتهما الأرض بأنها ارتوت وما بها حاجة للمزيد .. أصوات الأوراق الدائمة الخضرة تؤلف لحنا غابيا تنبعث لموسيقاه رائحة التراب المترع ماء ، مختلطة بعبق أشجار الغابة الحرجية التي تحتضن مجموعة من البيوت الجبلية المتناثرة هنا وهناك في هذا الشمال البارد طقسا والدافىء روحا.
أضأت شمعة فتأرجحت ذبالتها بفعل خيوط من الريح تسربت من بعض الشقوق ، وتلمست طريقي نحو السرير ، فجلست ونظرت إلى الجدار خلفي ، وتسربت روحي إلى أوقات موغلة في الماضي ، مليئة بالأحداث المفرحة والمؤلمة ، العائلة والحب والحرب وأنواع السلام المقترحة ، البطولات الزائفة والتضحيات الصامتة ..تذكرت جدتي التي كانت تقضي في بيتنا شهرا من كل عام وتتركنا بعد انقضائه مع أحمال من الدهشة نُفرِح بها أنفسنا لبقية العام .. كنا نتحلق حولها لتبتدع لنا أشكالا وهمية لحيوانات مختلفة بإسقاطات الضوء والظل على الجدار أحيانا وعلى صفحة ملاءة بيضاء أحيانا أخرى .
كنت ما أزال أنظر للجدار فاستللت نظراتي من صلبه ، وكونت بكفيّ شكلا ، ثم أطلقت ضحكة كبيرة وأنا أرى حمارا يركض على الجدار .
فكرت فيها كثيرا ، تلك الغائبة الحاضرة ، ستأتي غدا ، وسأنام الآن .
أغمضت عيني ّ ، وأرخيْت العنان لجموح الفكر يجتاز تضاريس الوعي إلى مفازات اللاوعي الممتدة ، يغرق في امتداداتها اللانهائية .لم أدر كم من الوقت مرَ عندما تسرب إلى عينيّ ضوء عجيب مخترقا جفنيّ المطبقيْن ، فحاولت فتحهما ولم أر إلا الحلكة . ظننت أنني أحلم ، فأطبقتهما من جديد ، في اللحظة التي رن فيها جرس الهاتف قربي ، فحملت السماعة وأنا مغمض العينيْن ، وجاءني صوتها الأبح الجذاب .. ماذا تفعل ؟؟
قفزت واقفا ، فوقعت عيناي على الستائر الموردة وذلك الضوء الأبيض من خلفها يخترق مسام النسيج فيضيء ورود الحدائق فيها .
أسرعتُ إلى النافذة الكبيرة التي تحتل الجدار كاملا ، أزحت الستائر ، لأرى المشهد ،
التقاء السواد بالبياض ، هو لقاء دون امتزاج ولا تدرج ، لقاء يفصل بينهما فيه حاجز رقيق ، ستارة رمادية موردة .
فتحت النافذة ، وأنا أقف في المنطقة الفاصلة ، حيث الأسود في الداخل يهبط على جسدي من الخلف ، والضوء الخارجي ينير مني الملامح ويعشي العينين . أسكتتني الدهشة وأنا أنظر إلى الأشجار تحت النافذة وقد كون البياض منها تكوينات نحتية هائلة ، بتفاصيل غير مألوفة .. كنت مأخوذا ما زلت بتلك اللحظة الهاربة من فوضى الحياة وضجيج العاصفة الليلية وحلكة الغرفة .. كنت وحيدا متوحدا لا يشاركني هذه الروعة إلا صوت بوم مختف بين الأغصان يقول لي تمتع ! تأمل! استمع لهذه الموسيقا الصامتة
حكمة البوم ، نعم .. وصوت أنفاسي ، وخفق قلبي ..
هدوء .. هدوء.. لم يقطعه إلا صوت فيروز يعزف عليه لحنا يتصاعد من هاتفي المحمول .. ( تلج تلج عم بتشتي الدني تلج وال ....... )
تراجعت مأخوذا بكل ما حوته اللحظة ، وتناولت المحمول ، وسمعت صوتها ينطلق بفرح تغشاه نبرات عصبية غاضبة : أيها المجنون !! أغلق الهاتف الأرضي وهيا !
افتح الباب !!
حنان الأغا
عمان
25-10-2006
توقيع حنان الاغا
حنــــــــــــــان
دراسة نقدية لنص ثلج ،، ثلج للأديبة حنان الأغا ،،
تحت عنوان
البلاغة المجازية للعبة اللون و الضوء في نصوص حنان الأغا ،،،
قلم ،، عبد الرحيم الحمصي
دراسة لهذا النص السردي للأديبة حنان الأغا و نصوص أخرى و التي تنطلق من الحرف السهل الذي يحمل في مضمره دلالات عميقة و بأسلوب جديد محاولة منها و من خطها السردي المميز بعدة ايقونات حاملة لمحاكات و مفردات عصرية وظفتها توظيفا سميائيا يحترم دواخل نفسية متشابهة و متماثلة ،،، تكون
لعبة الألوان و التناسق ( ،اقترحتُ عليها أن تكون الستائر إما قاتمة مورَدة أو فاتحة مورَدة ، إلا أنها أقنعتني أن غرفة النوم تحتاج إلى الانسجام والتناغم لا للتباين والتضاد ، فاقتنعتُ بالحياد )
لها من الدلالات عند الأديبة ما يشجع على التأويل الواقعي مع العلم أنها ألوان تختزل مهراقات فكرية و إنسانية و علائقية و اجتماعية ،،،
فالبعد السريالي للألوان + حتى لا ننسى فالأديبة فنانة تشكيلية تجيد حوار الألوان = و المنفتح و المحاكي لواقع تعددي نسبي يحيلنا على استحضار الجدة في هذه التعددية بما تمثله من ماض و حاضر زائف مركب من وعود ضبابية و إخفاقات متتالية ،،، مفردات لها دلالاتها في الزمان و المكان ،،،( تنبهتُ إلى أن الظلام يعم المكان ، ولا من ضوء إلا ما يخترق قماش الستائر من وميض البرق ) إلا أن الأديبة حاولت جاهدة الخروج من هذه السوداوية و الظلامية لمحيطها الذي يضع تحت عبائته و ميضا ضوئيا ينسل بين الصلب و الترائب عبر ستار الألوان القابعة والمختارة من طرف الأنا التي لاحول لها و لا رأي في فوضى هذه الألوان أو تغييرها ،،، حتى الأرض طالبت بالكف عن رعود و إزباد هذه الفوضى العارمة المتمثلة في عدم انسجام هذه - الشرائح - الألوان مع
عذرية صورة الريف المتناغم في تركيبته و كأنه الزلال المنفلق من بين ثنايا جلمودين ، عودة من الساردة أو تنفيسا أو حلما أو مبتغى يمور مخيلة
الأديبة كفرضية لسؤال فلسفي حاولت حشوه بهذا النص المعتمد على التخييل المضاعف و الذي يربط بين ما هو كائن في تخيله من جهة و المتخيل في كينونته المفترضة من جهة أخرى ،،
و يبقى في نظري أن هذا الأسلوب السردي هو الأفضل ، نظرا لتحرره الواضح و الظاهر من التراكيب القاصرة الطرح ، و الاعتماد على الأسلوب التجريبي الحداثي و التأطيري الجديد للقصة القصيرة التي تنهج مسلك المعرفة الشاملة و خاصة منها لعبة الإسترجاع و الإستشراف ،،،
فبلاغة السرد و التماثل كانت طاغية بتعدد الصور بين حروفها ،،،
( ،،،أضأت شمعة فتأرجحت ذبالتها بفعل خيوط من الريح تسربت من بعض الشقوق ،،، ) و يبقى الحنين الاستقرائي الى ما وراء
البحار و ما وراء الجدران أمنية المتخيل السابحة في فضاء البحث عن الحرية خاصة عندما تذكرنا الأديبة بهذا الحوار الذاتي
المشبع بحسرة من يتطلع للخروج من النفق الذي طالت مسافة عبوره مستعملة اللونين الأبيض و الأسود كقطبين دالين عن الضوء و العتمة بالمفهوم الإستطيقي للتقدم و التخلف ،( ،أزحت الستائر ، لأرى المشهد . التقاء السواد بالبياض ، هو لقاء دون امتزاج ولا تدرج ، لقاء يفصل بينهما فيه حاجز رقيق ، ستارة رمادية موردة ..) ( ،،فتحت النافذة ، وأنا أقف في المنطقة الفاصلة ، حيث الأسود في الداخل يهبط على جسدي من الخلف ، والضوء الخارجي ينير مني الملامح ويعشي العينين ،،) الداخل لونه أسود و يؤطر خلف الذات ،،، و الخارج لونه أبيض يضيء
بعضا من الملامح ، لكنه أكبر من هذه الملامح التي لم تتعود على مكوناته حتى تستوعبه كلِيَة ،،،
إنه التفرج على واقع أصلع و تحت مظلة ثلاثية الأضلع ،،،
الأسود
الأبيض
الرمادي
لتأتي الذات في المرحلة الرابعة و الخامسة و السادسة و و و و،،
لا يهم ،، مادامت هذه الذات لم تع بعد أين موقعها من خريطة هذا الوطن المتعدد الألوان و القفازات ،،،
قد تكون بداية النهاية كما تشتهيها الأديبة بهذه الصرخة ،،،
( ،،، أيها المجنون !! أغلق الهاتف الأرضي وهيا !
افتح الباب !!،،،)
فضلت لو أن الساردة امرأة بما هي ،، الأم و الزوجة و الوطن و الضوء المنفلت و المتسرب من بين شقوق عتمة ألوان أمطار الزمن المتحجر ،،
الحمصي ،،،،
29 ،، 10 ،، 2006