أي قلب أسأل؟
أي قلب أسأل، ولم أر لي بعد ذاك اليوم الجميل غير بقايا حشاشة رثت بين الأضلع من لهبات الحنين لك يا أم الربيع ؟ قد يكون الغياب واقعا مؤلما، غير أني أجد الحنين أشد مرارة والشوق أحر حرقة وكتمان الهم أعظم بلوى ...
ليت تلك السويعات طالت دهرا، بل ليت الزمن رماني بعدها في عداد من ابتلعهم الغيب بدل ما أورثني زمني من صمت خانق، وبرد لا يفتأ يجر علي ذكرى دفء الحنان ونعيم الألفة، وإن كانت أرقاما لحروف وأصوات كان يلهو بها جناح الأثير ساعات طوال؛ كن كالحلم الجميل في الكنف الظليل.
إيه يا وطنا مازال يسري في دمائي حبه أنقى وأنبل مما حملت نفس الشهيد من عشق لا متناه! يا وطنا ما عرفت قبله سلسبيل القراح ولن أعرف بعده غير غصات الألم... كن كما شئت فإني لك أقرب من تفاريج ورقة حناء بأديمها ومن القطمير بنواة حبة البلح، ومن الشريان بتاج القلب المعنى الذائب في سيمفونية الخفقان... كن كما شئت يا وطني فإنك لن ترفض ما بي منك. وإن امتص الثرى سوائل ذاتي فلن أدعها تكون إلا غذاء لساق ياسمينة أو وردة متمردة على سجانها ببساتين الرياء!
لم يعرف شفافية نسيج روحي قبلك من سبر الأغوار، ولا من قرأ عني النصوص والأشعار، ولا من جاب الدنيا بحثا في دروب الهوى عن غامض الأسرار. فيك يا وطني تعلمت الحب ومنك شربت راح العشق النقي، وفي وجهك الزاهر النضر قرأت أولى آيات الخالق إذ نطق الجمال بلسان الهدى، وتأذن الحرف بمعنى الطهر في شطآن الرغبة الجامحة أوان بزوغ الفجر الجميل على خيام بني عامر ...
فلا تحسبنّ الغياب يبعدني عنك، أنت الحاضر في كل نبضة، وكل طرفة عين، وكل نبرة صوت. وأنا المتسمع لدقات القلب على سريان اللحظات المتسابقة نحو محيط المجهول المترامي هاهنا من حولي، حيث موج الذكرى لا يعرف الهدوء إلا ليصطخب صارخا بقسوة الحياة بين الوحشة والتفرد، أو منشدا ما لم تقدر المقامات تصويره على وتر النفس المشبعة كآبة في صمت هذا الغياب الغاشم الذي اغتصب باكورة الفرحة في خدر أمها دون رحمة!
كنت دائما مثلما أنا اليوم، مغرما بمنظر ذاك المصب يا وطني، وبالمدينة الحالمة على الضفة اليسرى لأم الربيع متى وقفت على الجسر البالي، وأممت وجهي صوب المحيط المترائي نحو الشفق آن النهار يرخي برده الأصيلي على هامات السحب، مودعا تلك التلال، خلف هامات أشجار السرو والصنوبر، و "رتم" الغابة قبل أن تجتاحها آلة العابث ... هناك اليوم أخلو لذكراك لأسمع ما يقوله النسيم لصفحة النهر الباكي أمجاده لزمن أصم من ظلمة العدم ! لكني من أجلك أسمعه وأصغي لمعنى صفير الريح على أشرعة القوارب وعلى جدران المساكن القديمة "بالملاح " وبين سيقان القصب المتهادي بمنابته على الضفة اليمنى حيث كانت النواعير تسقي مزارع النعناع والحناء.
أي قلب أسأل يا وطني؟ ولست بسائل غير الرمل الذي حفظت حباته ما كنت أناجيك به حين مشيت من المفرق بين أشجار السرو حيث أخذتني حنوات المسلك إلى تلك المقاهي المحيطة بضريح "للا عايشة البحرية" حتى أطللت على المصب الخلاب وامتلأت عيناي بما كانت أطياف الجمال تتهاداه من سحر بين الضفتين، وعلى الشاطئ الحالم بمجد الحب، في زمن نسي التاريخ ما كان الصبية يخربشون على رماله من رسمات، وما كانوا يبنون من قصور ومساكن، كان الموج يمسحها وكأنما يريد أن تشاد في صورة أجمل لتستحث الخيال إلى فضاءات أوسع وأغنى ...
أما الدمع يا وطني، فقد جف في محاجري وتحول إلى أحجار صوان بعدك، بتّ أجمعها وأهديها للصبية في كبد الأوطان المسلوبة ليرشقوا بها دبابات العدو الغاصب. فلم أقدر يوما أن أبكي لأنك كنت مبعث ضحكي، وكنت حضنا يضمني متى يحين بكائي، أما وقد خلت منك يميني فلم يعد لذا ولا لذاك معنى ...
كم مرة وقفت وأممت شطرك وجهي، قبل أن أضع روحي في كف الريح ! وكم مرة تراءت لي صور اليتامى والمحرومين والبؤساء، كما تداعت على مسرح خيالي صور المترفين في أقصى بشاعتها، وهم يتناولون وجبتهم اليومية من عرق الكادحين البسطاء ويغرزون أنياب آلاتهم في صدرك يا وطني، ويسخرون من منطقك ويتهمنك بالسذاجة. ومازلت تدعوني للوقوف والإصغاء؛ وصوتك لم يبرح بعد أذن قلبي المنهوك برحاءً على فراقك؟ سأقف وسأصيخ السمع لما يسري في خبايا حناياك علني أتعلم أنشودة جديدة ترثي حبنا الموؤود في أديم صخب الآلات ورنات الدراهم وخشخشة الأوراق النقدية!