مولود من رحم الموت
طالت به مراسم السفر على الطريق ، حصر عينيه بين حدوده الجيرية البيضاء ، حرارة الجو الصيفي تقترب من معايير الغليان ، تتسلل إليه عبر زجاج النوافذ المغلقة ، مد رؤوس أصابعة نحو مؤشر مبرد الهواء ، زاد من اندفاع الهواء ، أعين الظهيرة الواجمة تجهش على منظومة التنفس ، الطريق يتلوى كثعبان لعين ، يعود يستقيم كتمساح ماكر يستحم بأشعة الشمس الممتدة ، أعمدة الكهرباء المنتصبة تلوح له بالوداع ، نغمات الراديو تتعلق بذرات الهواء البارد ،تصارع مع بكاء نبت من أرض الوحدة، والصمت ، تواردت عليه لحظاته الماضية ، تتهافت الأحداث عليه من كل جانب ، تتراقص مع النغمات ، تتلفع برئته مع بقايا الهواء ، أفرغت جيوبها السوداء فوق جفونه المتهدلة ، اهتزت أركانه الحائرة بكلمات الطبيب ، صدمته كصاعقة شحنت من هموم الزمان ، كان يمسك ببقايا من أوراق التقارير الظالمة ، أسدل رأسه تجاهها ، يتوسل إليها أن تنقل ما تخفيه بدلا عنه ، لكنه وهوالطبيب المكلف ، توجب عليه صفعه بالنتيجة ، ضرب بمقدمة قلمه على ساحة المكتب الخشبي ، تنهد :
- أستاذ "طارق" يؤسفني أن أخبرك ..
-تخبرني بماذا يا دكتور ... خيراً..
-استاذ طارق أنت رجل مؤمن بالله وتعلم أن ..
- دكتور .. أرجوك أخبرني ما تحويه هذه التقارير .
- يؤسفني أن أقول لك بأن لديك مشكلة بالإنجاب.
-ألن أنجب ؟!
-لم أقل ذلك ، قالت التقارير ...
-دعها تقول كما تشاءلكنها لن تتحكم في ...
-سيدي الفاضل إهدأ. اذكر ربك.
-لا إله إلا الله.
-سيدي. لقد تقدم العلم ،وأصبح لكل مشكلة حل ، مشكلتك يمكن حلها بعملية تلقيح صناعي ، أوأطفال أنابيب.
-أطفال أنابيب ؟! سمعت عنها لكني لم أتصور أبداً أنني سأخوض هذه التجربة .
-النصيب يا أستاذ "طارق" ... عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ".
-ونعم بالله .
-لكن كيف سأقوم بإجراء هذه العملية ؟
-سأعطيك أسماء مراكز متخصصة في هذا المجال ، هي التي تقوم بفحص الزوج والزوجة ، وتحديد نوع العملية .
-الزوجة ؟!
-نعم. فهي طرف في إجراء العملية بالتأكيد .-
-النتيجة مضمونة ؟-
-دع أملك في الله كبير .-
-ونعم بالله .
-أعيد أسفي أستاذ طارق .
-لا عليك ... ولا اعتراض على قضاء الله .
-مع السلامة .
انغلق الباب على رأسه ، لم يهشمها ، فما امتلأت به جعل صلابتها أقوى من أخشاب كل الأبواب ، تدلت أمامه صورة زوجته المسكينة ، الأسئلة تضاحكه ، تتحور .. اختصرت نفسها لسؤال واحد ؛ ماذا أقول لها ؟ تمددت الأرض من تحت قدميه كحزام متحرك ، سقط كل ظلام الكون أمامه ، ارتمى داخله ؛ عله يختبئ من أعين الناس ، وجد في انتظاره كل عيون البشرتبرق وسط الظلمة ، يصيبه السؤال في قلبه ، يشل أحشائه عن الدوران ، تلونت دمائه بلون السواد المتسلط عليه ، ماذا أقول لها ؟ ، صعد الشيخ "دسوقي " المأذون فوق رأسه ، لف حول رقبته حبل الإعدام ، أغمض عينيه للموت القادم ، لكن الوقت قد طال ، ومازال قلبه ينبض بالحياة ، مزق جفونه ، ليجد المأذون قد رحل ، و تركه هو من ينفذ حكم الإعدام ... استغفر الله ... استغفر الله ، نفض الحبل عن رقبته ........
********** ********** **********بشقته الفخمة المطلة على مياة النيل الرحيمة ، يجلس في الصالون الشاسع ، أرسل بشارده يستحم على بساط المياة المتربعة ، مازلت الأسئلة تتحور ، وتختصر داخلة ، يبحث عن بداية ، أو مدخل ينفذ منه لزوجته ، رجولته تستحي منها كثيراً ، يغطس برأسها في مياة النيل ،يحجب عنها التنفس ، يعيده إليها ، يعذبها مرات ومرات لعلها تخضع ، لكن الخوف من رد الفعل لا يملكه كي يعذبه هو الآخر ، يستنجد بالله ... يرفع يديه لوجه السماء الصافية ، يدعو ... يتوسل ... يقترب أكثر فأكثر ، سقطت دموعه المالحة على لحيته الممتده بين كتفيه ، سقط عليه هاتف من السماء بصلاة الاستخارة ، شعر براحة دججت جسده الساخن ، قام ... توضأ ... افترش سجادة الصلاة ، رحل مع صلاته في رحلة لا نعلمها ، ولا تعلمها الأوراق كي تنقلها إلى هنا ، ارتخى ... ارتمى على سريره الناعم ... انفصل عن ذاته ... أغمضت عيناه... رأها
تجلس جواره بالصالون , حركة المياة المشاغبة تنعكس على صفحات عينيها السوداء ، نظر إليها بحب لو وزع على العالم لغير من مسار الحروب الدائرة ، ناولته طبق صغير من شطيرة صنعتها بيديها ، التقم قطعة منها ، وارب جفونه على مقلتيه :
-اللـــــــــه ... سلمت يدك .
-سلمت لي من كل شر .
-أم خالد ؟
-يا قلب أم خالد .
-ماذا لو أن خالد ظل لقباً لنا فقط ؟
-كيف ؟!
- ذهبت للطبيب اليوم .
- هل ظهرت نتيجة التحاليل ؟
-نعم . وليتها حرقت قبل أن أسلمها للطبيب .
- أشعرتني بالقلق ، عله الخير بإذن الله.
-أخبرني الدكتور اليوم أن لدي مشكلة بالإنجاب ، وأنه كي ننجب لابد من عملية أطفال أنابيب وأعطي لي أسماء مراكز متخصصة.
- ياااااه ..-حمداً لله - ظننت من كلامك أن الأمر أسوأ من ذلك .
- وهل هناك أسوأ من ذلك ؟
- أبو خالد . أنا لا أريد من هذه الدنيا سواك .
- وفاء . أنا أخيرك الآن بين الاستمرار معي أم .......
- أبو خالد ... لا تكمل .. حتى نهاية العمر ...
- سأظلمك معي .
- الظلم هو أن نفترق . نحمد الله أن هناك بصيص من أمل .
- لن أنسى لك هذا الموقف ما حييت .
- أطال الله في عمرك أبو خالد .
- غداً بعون الله سنذهب إلى أحد هذه المراكز كي نبدأ معه إجراءات العملية .
- إن شاء الله . أبو خالد ... أنا معك فلا تقلق .
ألاح له الصباح بطقوسه ، انتهت الطقوس بأنها تدخلت لتنفض بقايا النوم عن وجهه ، تحسس فراشه ، زوجته بالجوار، تمنى لو أن ما رأه انتقل من رأسه إليها ، ازاح الغطاء ... مشى على رؤوس أصابعه ، لم يرد إزعاجها علها ترى ما رأى ، لعن الواقع الذي استقبله بصباح جديد ، تداعت عليه مشاغله ، يتوضأ ... عاد لإفتراش سجادته، يصلي ... يدعو ... ترتعش أصابعه المتضرعة بالدعاء ... يمسح وجهه بكفيه ... يلملم سجادته ... يقوم .. يعد درجات السلم للنزول ، تذكر وجود المصعد ، لكن شعر بأن نفسه هي من قادته للهبوط عبر هذا الدرج ، كل درجة يحذفها ، كانت تنزع عنه هم من همومه العالقة ، انتهت به إلى الشارع الرحب ، تمنى لو أن البناء زاد من وجودها ، كي تكمل نزعها لتلك الآلام ، نزع باب سيارته عنها ، انطلق معها نحو سفره القادم ، طالت به مراسم السفر على الطريق ، حصر عينيه بين حدوده الجيرية البيضاء ، حرارة الجو الصيفي تقترب من معايير الغليان ، تتسلل إليه عبر زجاج النوافذ المغلقة ، مد رؤوس أصابعه نحو مؤشر مبرد الهواء ، زاد من اندفاع الهواء ، أعين الظهيرة الواجمة تجهش على منظومة التنفس ، الطريق يتلوى كثعبان لعين ، يعود يستقيم كتمساح ماكر يستحم بأشعة الشمس الممتدة ، تصلب أمامه الحاجز الإسمنتي ، قضم مقدمة السيارة بأنيابه ، التف حولها الثعبان اللعين ، اعتصرها بين عضلاته ، هاج التمساح الماكر ، ضرب مؤخرة السيارة بذيله ، انقلبت ، مرة ، اثنتان ، ثلاث مرات ، وقعت في أحضان عمود من أعمدة الكهرباء قد ملّ الوداع ، خيم الغبار كعاصفة رملية شارفت على الانتهاء ، لم يفقد وعيه ، تحسس جسده ، مازل بهذه الحياة ، رأسه خاصمت قامته ، تحرر من حزام الأمان ، وجد طريقاً له عبر النافذة المحطمة ، خرج منها ، الذهول يحتضن الحمد لله ، وقف على رأس سيارته ، كانت أشبه بكرة سحب منها الهواء فانكمشت على نفسها ، فأيقن أن الله قد استجاب له الدعاء.